تخلّى القدِّيس شربل عن إرادته وحياته وحريّته طوعًا،

عظة للأب موريس معوّض، كنيسة مار تقلا – المروج، المتن.

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

منذ أربعين سنة، في التّاسع من تشرين الأوّل، أعلن قداسة البابا بولس السادس شربل مخلوف قدِّيسًا على مذابح الكنيسة. وفي هذه الذكرى الّتي احتفلنا بها أمس، وانطلاقًا مِن عنوان رسالة جماعة “أذكرني في ملكوتك” لهذا الشهر “في حضرة الله”، أودّ أن أتكلّم اليوم عن حياة مار شربل وحضور الله فيها.

تخلّى القدِّيس شربل عن كلّ ما مِن شأنه أن يزيغ نظره عن هدفه وهو: أن يملأ حياته مِن حضور الله. لقد تخلّى القدِّيس شربل عن إرادته وحياته وحريّته طوعًا، ليُطيع رؤساءه في الرهبانيّة، إذ كان يجد في طاعته لهم، طاعةً لله. لم يكن القدِّيس شربل يسأل عن أيّ شيء في حياته: لم يسأل عن الأسباب قبل قيامه بما يُطلب منه. كان القدِّيس في حالة استسلام كُليّ لمشيئة الله من خلال طاعته لأخيه الإنسان: أكان رئيس الدَّير أم الرُّهبان إخوته في المحبسة. لقد عاش القدِّيس شربل حضور الله في حياته، لذلك لم يكن يسمح للخطيئة أن تُسيطر على حياته. أمّا نحن اليوم، فننجرف وراء الأسباب الّتي تؤدّي بنا إلى ارتكاب الخطايا، ونسمح للخطيئة أن تتسرّب إلى حياتنا مِن دون أن نُفكّر في حياتنا وعلاقتنا مع الربّ. إنّ الإنسان يسعى إلى التسلّح بكبريائه وعنفوانه وحريّته لارتكاب الخطيئة، أمّا القدِّيس شربل فقد تخلّى عن كلّ ما مِن شأنه إبعاده عن الله. إنّ إرادة الربّ كانت واضحة بالنسبة إلى شربل فهو لم يعرف سواها، لذا كان يرى أنَّ كلّ عملٍ يقوم به تميمٌ لإرادة الربّ واكتمال لإرادة الله فيه. يُخبرون عن مار شربل أنّه قد ذهب لِجَمع الحطب من مكانٍ بعيدٍ جدًّا عن المحبسة، في حين أنَّ الأشجار كانت تُحيط بمحبسته، تلبيةً لرغبة أحد الرُّهبان المستهزئين به، الـمُعاونِين له في المحبسة. لم يهتمّ شربل في طاعته للآخرين، إلى رُتبة الشَّخص الّذي كان يوجّه إليه الأمر: فشربل كان يطيع الآخر أكان أعلى أم أدنى منه رُتبةً. إنّ القدِّيس شربل لم يعتبر يومًا طاعته لِمَن هم دُونه مرتبة، انتقاصًا من كرامته أو من شخصيّته أو حتى من كهنوته، فهو كان يتمتّع بطاعة عمياء، إذ كان يجد في طاعته للآخرين تحقيقًا لإرادة الله في حياته.

لذا إخوتي، لا نخجل من طاعة مَن هم أصغر منّا سنًّا إن كانوا أكثر خبرةً منّا في بعض الأمور، أو كان رأيهم أفضل مِن رأينا. إخوتي، علينا أن نتعلَّم الإصغاء لبعضنا البعض، نكتشف من خلال كلام الآخرين لنا ما هي إرادة الله لنا. لنسعَ إخوتي، إلى قبول الآخر، لا إلى محاربته، إذ قد يكون الآخر أذكى منّا في بعض الأمور، وأكثر نُضجًا منّا، فالذّكاء والنُّضج ليسا حِكرًا على أحد من البشر. علينا القبول برأي الآخر المختلف عنّا، بكلّ لطفٍ ومحبّة، رافضين التَّجريح به. فلنتعلَّم إخوتي من شربل القدِّيس كيفيّة التّعامل مع بعضنا البعض، فشربل لم يُجرِّح بأحدٍ حتّى الّذين غشُّوه وملأوا قنديله ماءً لا زيتًا. إنّ القدِّيس شربل لم يشتكِ من هؤلاء الخُدّام، ولم يوبِّخهم على تصرُّفهم الـمُخجل، بل استمرَّ في التعامل معهم بكلّ محبّة كما العادة، فأعطاهم درسًا في المحبّة بصمته. هذه هي ميزة شربل القدِّيس: إنّه يسعى إلى إيصال رسالته إلى الآخرين لا من خلال الصّراخ والتَّجريح إنّما من خلال صمته ومحبّته لهم. إنّ رسالة الله وإرادته تَصل إلينا من خلال الصّمت، فالصّمت هو الوسيلة الأفضل لكي يتمكّن الإنسان من فَهم الكثير من الأمور الحياتيّة وشرحها.

في هذا المساء، نصلّي من أجل جماعة “أذكرني في ملكوتك”، المتواجدة في لبنان وخارجه. ونسأل الله أن يَهبنا نعمة حضوره في حياتنا، فنتحلّى بالشفافيّة مع الآخرين، ونتعامل مع بعضنا البعض بكلّ لطفٍ ومحبّة، ونقبل بالآخر على حقيقته. إخوتي، لا يوجد إنسان أفضل من آخر، ولا سُلطة لأيّ إنسان على آخر في إصلاحه، فللجميع عيوب ونقائص. لذا فليسعَ كلّ مؤمِن لا إلى إصلاح الآخرين، إنّما إلى النّظر إلى المرآة ليرى عيوبه ويسعى إلى إصلاحها، ليسير في طريق القداسة، كما فعل مار شربل، فيتنعَّم برؤية وجه الله في الملكوت بعد انتهاء حياته الأرضيّة. آمين.

 

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp