أحد تجديد البيعة،

عظة الخوري عمانوئيل الراعي، خادم رعيّة مار ضوميط – ساحل علما، كسروان.

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

في هذا الأحد، تحتفل الكنيسة المارونيّة بِعيد تجديد البيعة. ليس المقصود بِعيد “تجديد البيعة”، تجديد الكنيسة الحجريّة بل المقصود تجديد البشر. وبالتّالي، يُشكِّل هذا العيد دعوةً لكلّ المؤمنين إلى تجديد رؤيتهم إلى الأمور: فليس الموت مثلاً دليلاً على نهاية كلّ شيء، إنّما هو عبورٌ من هذه الحياة الفانية إلى الحياة الجديدة مع المسيح القائم من بين الأموات. وفي النّص الّذي تُليَ على مسامعنا من الرسالة إلى العبرانييّن، نكتشف نظرة الشَّعب اليهوديّ إلى الذبائح الحيوانيّة الدمويّة: فهو كان يعتقد أنّه من خلالها يستطيع التكفير عن ذنوبه، وأنّه من خلال رشِّ دمِها تكون مغفرة الله لخطايا البشر، وبالتّالي يستطيع هذا الشَّعب البدء بحياة جديدة مع الله. ولكن مع مجيء المسيح إلى أرضنا، لم تعد هناك حاجة إلى تلك الذبائح الدمويّة، لأنّ المسيح يسوع، قد غسل البشر أجمعين من آثامهم بدمه الزكيّ الّذي سُفِك على الصّليب، وأعطاهم نعمة العبور معه من الموت إلى القيامة، ومنحهم حياةً جديدةً تبدأ بالمعموديّة ولا تنتهي بالموت بل تتخطَّاه إلى الملكوت السماويّ.

إنّ السؤال الّذي يُطرَح الآن، هو: كيف يستطيع المؤمِن، وبالتّالي الكنيسة، أن يتجدّد باستمرار؟ لا يستطيع المؤمن أن يتجدّد مِن دون الرّوح القدس القادر على تجديد حياته ومَلئِها من حضور الله، إن تجاوب مع إلهاماته. كما يستطيع الإنسان أن يتجدّد أيضًا من خلال المشاركة في الذبيحة الإلهيّة أي “الافخارستيا”. إنّ كلمة “افخارستيا”، هي يونانيّة الأصل وتعني “وليمة شُكرٍ”. وبالتّالي، يتجدّد الإنسان في كلّ مرّة يشكر الله على عطاياه الغزيرة له، وأهمّها ثلاث هي: نعمة الخَلِق، أي نعمة الحياة، ثمّ نعمة القداسة الّتي وَهَبه إيّاها في المعموديّة، وأخيرًا نعمة الخلاص. إذًا، الافخارستيّا هي دعوة لكلّ مؤمن كي يشكر الله لأنّه خلقه وأعطاه الحياة، وقدّسه في المعموديّة حين مَنَحَه الرّوح القدس، ومنحَه الخلاص بموت المسيح على الصّليب وقيامته من بين الأموات.

أمّا الآن، فالسؤال الّذي يُطرَح هو: ما دَور جماعة “أذكرني في ملكوتك”، في هذا التّجديد؟ وهل أنّ الملكوت فعلاً هو فقط في السّماء، أي أنّه لا يمكننا الحصول عليه في هذه الفانية؟ إخوتي، نستطيع أن نعيش الملكوت في كلّ لحظةٍ من حياتنا، فالربّ يسوع قال لنا في الإنجيل: إنّ ملكوت الله هو في داخلكم. إنّ حياتنا على هذه الأرض تستطيع أن تكون حياة الملكوت إن استطعنا أن نكتشف حضور الله فيها. أن أقول للربّ “أذكرني في ملكوتك”، فهذا يُعبِّر عن رغبتي في أن يُجدِّد الله حياتي ويسكن فيها، فتُصبح حياتي ملكوتًا على الأرض. حين أقول للربّ “أذكرني في ملكوتك”، عليّ أن أتذكّر أنّني مشروع قداسة أراده الله، لذا عليّ أن أُجاهد في هذه الحياة كي أصِل في النِّهاية إلى القداسة في السّماء، أي في الحياة الثّانية. إنّ هذه الكلمات “أذكرني في ملكوتك”، ليست حِكرًا فقط على الـمُشرفين على الموت، بل على جميع المؤمنين أن يجدوا فيها السّعادة لأنّها تُشكلّ دعوةً لهم للدّخول في سرّ الخلاص الدائم الّذي تمّ مرّة واحدة بموت يسوع المسيح وقيامته.

إذًا، إنّ كلّ مؤمنٍ مدعوّ اليوم إلى التجدّد، ولكنّ الإنسان لا يستطيع أن يتجدّد إلّا إذا اعترف أوّلاً بأنّه إنسانٌ ضعيفٌ وخاطئ، وبالتّالي بحاجته إلى التوبة. إنّ اعتراف الإنسان بخطيئته، هو الّذي يُجدّده، لأنّه يسمح للرّوح القدس بأن يعمل في ذاته ويغيّر حياته. إنّ جسد الربّ ودمه، يُشكِّلان مشروع الله لتجديد دائم للبشريّة بأسرها.
في هذه الذبيحة اليوم، نجدّد رؤيتنا إلى حياتنا، فنتذكّر أنّ الّذين انتقلوا من بيننا ليسوا أمواتًا بل أحياءً في الملكوت السماويّ، لأنّهم يتابعون في السّماء ما بدأوه في هذه الأرض، وهو بناء الملكوت السماويّ. أعطنا يا ربّ أن نعيش أحياءً في هذه الأرض، فنتمكّن من متابعة مسيرة حياتنا في الملكوت، قائلين لك على الدّوام: “أذكرنا يا ربّ متى أتيت في ملكوتك”. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp