عظة لسيادة المطران بول – مروان تابت،

كنيسة القدّيس يوسف – لافال، كيبيك.

إتقان واجب السّاعة الحاضرة،

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

في هذه الذبيحة الإلهيّة الّتي نقدِّمها في هذا المساء مِن أجل راحة نفوس أمواتنا، أرغب في التأمّل معكم بثلاث أفكار: الأولى من رسالة القدّيس يعقوب، والفِكرتَين الباقِيَتَين مِن الإنجيل.

يقول القدِّيس يَعقوب في رسالتِه، الّتي تُلِيَت على مسامِعنا، ما فحواه: طوبى للإنسان الّذي يَثبُت في مسيرته صوب هَدفه الأساسيّ في هذه الحياة، على الرّغم من الصّعوبات الّتي تواجهه (يع 12:1). فالإنسان وحده القادر على معرفة سبب عدم ثباته في مسيرته، لذا لا يحقّ لنا أن نحكم على نوايا الآخرين. إنّنا نشعر، في الكثير من الأحيان، بتقصيرنا تجاه أحبّائنا الّذين انتقلوا من هذه الحياة إلى الحياة الثانية، إذ إنّنا لم نُمنَح الوقت الكافي للتعبير لهم عن صِدق محبّتنا ورَغبَتِنا بالاهتمام بهم. أمّا الآن، وبعد انتقالهم من بيننا، فيُمكننا أن نعوِّض لهم عن مدى محبّتنا لهم من خلال صلاتنا لأجلهم، والـتأمّل في حياتهم، فنتعلَّم منهم كيفيّة الوصول إلى الملكوت، هَدفنا في هذه الحياة.

أمّا في النصّ الإنجيليّ (لو 31:17-37)، الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، فيقول لنا الربّ أنّ لا أحد منّا يعلم ساعة انتقاله من هذا العالم. أمام مسألة الموت، يَطرح العديد من المؤمِنِين السؤال: لماذا يموت الإنسان؟ عندما طُرِح هذا السؤال على أحد الفلاسفة، كان جوابه أنّ الإنسان يموت لأنّه يعيش في التّاريخ، وهو مخلوقٌ أي أنّ له بداية وبالتّالي سيكون له نهاية. وعندما سُئِل هذا الفيلسوف عن سبب عدم موت الله، أجاب إنّ الله لا يموت لأنّه خارج التّاريخ، وهو خالقٌ لا مخلوق، أي أنّ لا بدايةَ له وبالتّالي لن تكون له نهاية.

إنّ البشر، يعيشون ضمن الزّمن، وبالتّالي لهم ماضٍ وحاضر ومستقبل لا يعرفون عنه شيئًا. أمّا الله فلا يعيش ضمن الزّمن، وبالتّالي لا ماضي له ولا حاضر ولا مستقبل، فإنّ الحاضر والماضي والمستقبل بين يدي الله، ويستطيع رؤية الأزمنة كلّها كأنّها في الحاضر.

كما أنّ الربّ يُنبِّهنا، من خلال هذا الإنجيل، إلى عدم التعلُّقِ المفرط بإخوتنا البشر وكأنّهم خالدون في هذه الأرض، إنّ الربّ يسوع يكلِّمنا عن امرأتين تَطحنان الدقيق معًا: فيخطِف الموت الأولى، أمّا الثانية فتبقى في هذه الحياة. إنّ الطَّحن في الكتاب المقدَّس قد يشير إلى عمليّة تحضير الطحين كما أنّه يدلّ على علاقة القُربى الموجودة بين هاتين المرأتين: فهما تأكُلان من الطّعام نفسه، أي أنّهما تعيشان وَفق نَمطٍ حياتيّ مُشترك مبنيّ على القمح. ولكنّ الربّ يُحذِّرنا من التعلُّق الزائد بالّذين يعيشون في محيطِنا، لأنّ الموت سيخطفهم منّا في ساعةٍ لا نعرفها.

نوعان من البشر لا يُفكِّران بالموت: الأوّل، لم يختبر بَعدُ ألمَ فقدان أحد أحبّائه، أمّا الآخر فهو يعتقد أنّه خالدٌ في هذه الحياة، وبالتّالي هو لا يؤمِن بالموت. فالموت يطرح على الإنسان أسئلةً تضعه أمام ِوَقفة مع الذّات، للإجابة عليها: مَن منّا متأكِّد أنّه خالدٌ في هذه الحياة؟ ومَن منّا لا أمواتَ لديه؟ وانطلاقًا من إجاباته على هذه الأسئلة، يُدرِك مدى نضجه الإنسانيّ والروحيّ لحقيقة الموت، ممّا يفرض عليه إعادة النّظر في مسيرة حياته فيغيِّر فيها ما لا ينسجم مع المصير الّذي اختاره لحياته بعد الموت. إنّ حضورنا إلى الكنيسة، واشتراكنا في هذه الذبيحة، مع جماعة “أذكرني في ملكوتك”، يعكس نُضجَنا الإنسانيّ والروحيّ لحقيقة سرّ الموت.

إنّ أحد معلِّمينا، أُسُس الحياة الروحيّة، في جمعيّة المرسلين اللّبنانيّين، وهو الأب ساسين زيدان، أطال الله بِعُمرِه، كان يردِّد على مسامعِنا حين كنّا لا نزال شبّانًا إكليريكيّين، جُملةً مهمّةً جدًّا، وقد حفظناها عن ظهر قلب لِكَثرة ما سمعناها منه، وهي: “اتقان واجب السّاعة الحاضرة”. إنَّ هذه العبارة تَصلُح لتكون عِبرةً لكلِّ منّا، إذ تدفعنا إلى القيام بما يتوجبّ علينا القيام به بكلّ اتقان، فتقوم المرأة بواجباتها المنزليّة على أكمل وجه، ويقوم الرّجل بعمله خيرَ اتقان، ويقوم الطبيب بمعالجة مرضاه لِما فيه شفاؤهم الجسديّ. إنّ الإنسان يقدِّس ذاته من خلال إتقانه لواجب السّاعة الحاضرة، مقدِّمًا كلّ عملٍ يقوم به إلى الله، من أجل راحة أنفس موتاه.

وكان الأب ساسين يردِّد على مسامِعنا، عِبرةً روحيّة أخرى، وهي:”عِشْ ليومِكَ كأنّك تموت غدًا، وعِشْ حياتَك كأنّك تعيشُ أبدًا”. وهنا نتذكّر سؤال القدِّيس دون بوسكو لتلميذه القدِّيس دُومنيكو سافيو، حين رآه يلعب بسلام مع رِفاقه، على عكس بقيّة الأولاد: “ماذا تفعل يا دُومنيكو، إن قِيَل لك أنّك غدًا ستموت؟”. ذُهِل القدِّيس دون بوسكو عند سماعه جواب تلميذه القدِّيس دومنيكو، حين قال له هذا الأخير إنّه يستمرّ باللّعب، كما هو فاعلٌ الآن.

إذًا، من خلال هذه الحادثة، يعلِّمنا القدِّيس دومنيكو سافيو، أيضًا، ضرورة اتقان واجب السّاعة الحاضرة فنكون مستعدِّين لتمجيد الله حين يدعونا إلى لقائه في الملكوت.
إذًا، على كلّ مؤمِنٍ أن يستعدَّ للانتقال من هذا العالم، من خلال “اتقانه لِواجب الساعة الحاضرة”، فيقدِّم كلّ ما يقوم به إلى الله، سائلاً إيّاه أن يفيض مراحمه على الموتى المؤمِنِين.

في هذا المساء، نصلّي من أجل كلّ الّذين غادروا هذه الحياة، كما نصلّي من أجل بعضنا البعض، ونحن لا نزال أحياءً في هذه الأرض، وخاصّةً على نيّة مؤسِّسي جماعة “أذكرني في ملكوتك”، وكلّ مَن يساهم في نشر رسالتها، سائلين الله أن يوفِّقهم في خَلق هذه الحالة الروحيّة الّتي يعيشونها، والّتي تعكس رجاءنا المسيحيّ، في كلّ الرعايا، وفي كلّ بلاد الانتشار، وأن يفيضَ رحمته على جميع الموتى المؤمنين، من خلال صلاتنا إليه من أجلهم.

باركَ الله جهودكم، وقدّسَ ذبيحتنا الإلهيّة هذه، الّتي نقدِّمها من أجل راحة نفوس أمواتنا. آمين.

ملاحظة: دُوّنَت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp