الرياضة السنويّة 2015 بعنوان: “ما بالكم خائفِين هكذا؟ كيف لا إيمانَ لكم؟” (مر 40:4)
دار سيّدة البير – بقنايا، المتن.
تأمّل في “في إنجيل السامريّ الصّالح” (لو 10: 25-37)
الأب ميشال عبود الكرمليّ،
اخترنا قراءة هذا الإنجيل في سهرة التّوبة وقد وضعتُ علامةً له، بين العدالة والمحبّة وبين الحرف والرّوح. ومَن جاء يسأل يسوع هو عالِم شريعة وناموسيّ أيّ هو شخصٌ مثقّفٌ ومتعمّقٌ ويعيش الشّريعة في كلّ تفاصيلها. لقد بدأ بالسّؤال الكبير “ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟” وهو السؤال الّذي يسأله كلّ واحد منّا. نعلم الإجابة عنه مع المسيح “مَن آمن بي له الحياة الأبديّة، مَن أكل جسدي له الحياة الأبديّة، فالحياة الأبديّة هي أن يعرفوك، أنتَ الإله الحقّ، ويعرفوا الّذي أرسلتَهُ يسوع المسيح”. إذاً الإجابة عن هذا السّؤال هي يسوع المسيح “أنا الطّريق، أنا الحقّ، أنا الحياة” وقد أتى هذا الشخص الى يسوع ليجرّبه! كان يسوع مُلفِتاً للأنظار فكلامه مزعجٌ لأنّه نور والنّور يُزعج الّذين يعيشون في الظّلام، وهو مزعجٌ أيضًا لأنّه يشفي فالطّبيب عندما يُداوي المريض يؤلمه ولكنه يشفيه.
لقد سأل عالمُ الشريعة الربّ يسوع الذي أجابه بسؤال آخر وهو”ما هو مكتوب في الناموس؟ كيف تقرأ؟” فأعطاه النّاموسيّ إجابةً صحيحةً لأنّه في إنجيل آخر سأل أحدهم يسوع عن الوصيّة الكبرى للشريعة، فأجابه يسوع بأنّها اثنتان إلّا أنّها ثلاثة وهي حبّ الله، حبّ القريب وحبّ النّفس، وكلّ شيء يبدأ بحبّ النّفس، فلا أحد يستطيع أن يُحبّ الآخرين إن لم يستطع أن يحبّ نفسه. حبّ الذّات ليس الأنانيّة لأنّنا شحّاذو كرامةٍ ومحبّةٍ ودعوةٍ وتحيّةٍ من الآخرين، وهذا ما يثير الاضطرابات في داخل العائلات والجماعات لأنّني أراقب الآخرين.
سأل “ما هو سرّ النّجاح؟” فأجابه “لا أعلم وإنّما أعلم ما هو سرّ البشر وهو محاولة إرضاء الآخرين”. والكتاب المقدّس واضح من هذه النّاحية فيقول “الويل لمن يتّكل على بني البشر” . عندما تصنعون الخير من أجل النّاس، لن تحصلوا على شيء، ولكن عندما تصنعونه من أجل الله ستكسبون، وتخطون الخطوة الأولى نحو السّماء. قال يسوع للنّاموسيّ “اعملْ هذا فتحيا” أرادَ أن يُبرّر نفسه فسأل يسوع… هذا المثل ليس حادثةً وإنّما هو مثلٌ كالابن الضّال والخروف الضّائع.
كان يسوع يُكلّم يهوديّاً ويُعطي مثلاً عن سامريّ، علماً أنّ اليهود والسّامريّين هم على خلاف بحسب التّقاليد، فجاء يسوع لِكسر هذه القاعدة. كان يهوديّ نازلاً من أورشليم إلى أريحا فوقع بين أيدي لصوص فعرّوه وضربوه وتركوه بين حيّ وميت. وكان كاهناً يمرّ من هناك فلم يلتفت إليه بل تابع طريقه لأنّه يعتبر أنّه يقوم بواجباته، فالشّريعة واضحة في أنّه من غير المسموح أن تلمس دمَ غريبٍ. ومرّ أيضاً لاوٍ يخدم الهيكل، فنظر إليه ومالَ عنه ومضى. هذان بتصرّفهما طبّقا الشّريعة. فجاء أخيراً السّامريّ، وهنا يسوع يُكلّم النّاموسيّ المُناقِض للسّامريّ، فنظر إليه ودنا منه، ضمّد جراحه وصبّ عليها زيتاً وخمراً (لذلك نستعمل الزّيوت في الأسرار فهي علامة الشّفاء)، بعدها أركبه على دابته وأتى به إلى فندق واعتنى به. هو لم يُعطِهِ فقط من وقته بل أعطاه ديناريْن من مالِه، فيكون بذلك قد اهتمّ به في الحاضر وفي المستقبل عندما قال لصاحب الفندق إنّه سيعود ويدفع له إذا أنفق عليه أكثر ممّا أعطاه. عندها سأل يسوع النّاموسيّ مَن هو، برأيه، القريب فأجابه مَن عامله بالرّحمة، فقال له يسوع “إفعلْ هذا فتحيا”. هذا ما يدعُنا، في رتبة التوبة، أن نقفَ أمام ذاتِنا.
أنا، كإنسانٍ مسيحيّ، لديّ علامة واحدة تُميّزني، هي علاقتي بالله، فالخيار لي، إمّا أسمع كلامه أو لا أسمعه. الله هو الّذي يطلب منّي، وما طلبه لا يُرهقني فقال “تعالَوْا إليّ، أيّها المُتعبون والمُثقلون وأنا أريحكم”. إذاً إمّا أنتَ تؤمن بأنّ الله يُريحك وإمّا لا تؤمن. لذلك إذا كانت بعض مبادئ المسيحيّة تُتعبنا وتجعلنا نتمنّى ألّا نكون من المسيحيّين وأنّ الإنجيل هو الّذي يُلزمنا، إذاً مسيحيّتنا تشهد على الخطأ، فيُصيبنا ما أصاب الابن الضّال أو الابن الأكبر في مثل الابن الضّال الّذي قال “وأنا منذ سنين أخدم” أيّ هو يعتبر نفسه أنّه لم يكن كابنٍ وإنّما كخادِم. وكما يقول القدّيس يوحنّا الصّليب “أن تكون ضعيفاً بِصُحْبة القويّ أفضل من أن تكون قويّاً بِصُحْبة الضّعيف”. ومار بولس أيضاً قال “في الضّعف تكمن قوّتي أنا قويّ بالّذي يُقوّيني”. إضافةً إلى أنّ يوحنّا الذّهبيّ الفم قال أيضاً “الشّيطان قال للرّبّ: أنا أتغلّب على الأقوياء لا على الضّعفاء لأنّ الأقوياء يحتمون بأنفسهم بينما الضّعفاء يحتمون بك”.
علاقتي بالله هي علاقة الأب بابنه أو هي علاقة محبّة. وهنا، نذكر أمراً مهمّاً. البعض يقول إنّ الله هو الّذي اخترع الدّين وهذا غير صحيح. هناك العديد من الأديان كالدّين الإسلاميّ، الدّين اليهوديّ، والدّين البوذيّ وهي كلّها متعارضة. فلو كان الله هو الّذي اخترع الدّين لَكان يُناقض نفسه. المسيحيّة ليست ديناً لأنّ الإنسان، في الدّين، يبحث عن الله كي يعبده. فإذا قرأتم تاريخ الأديان ترَوْن أنّهم عبدوا الحجر والنّار وغيرها، أمّا في المسيحيّة فالأمر مختلف، فالله هو الّذي يبحث عن الإنسان ما يجعل الحياة المسيحيّة مبنيّةً على علاقة الحبّ أيّ لقاء الحبيب والمحبوب. وهنا، يُخبرون عن ابراهيم الخليل، في نهاية حياته عندما أطلّ عليه ملاك الموت فقال له ابراهيم “أنا خليل الله، وهل الله يُريد موت خليلِه؟” فسأله الملاك “أنتَ خليل الله، أنتَ حبيبه؟” فأجابه ابراهيم “نعم” عندئذٍ سأله الملاك “هل المحبوب يرفض لقاء الحبيب؟” فأجابه “ها أنا ذا”. لقد جعلونا نخاف من الله الّذي جعلوه أيضاً في عدد التّساعيّات وفي عدد الصّلوات، فبِقدر ما نُصلّي نحصل على رضاه، وجعلونا نؤمن بأنّ الدّين هو الّذي يضع لنا المبادئ الّتي علينا أن نتّبعها.
قريبي هو كلّ شخص أعيش معه. إذا كنّا نتحلّى بروح الخدمة والأخُوّة لن نشعر بأنّ الآخرين حملٌ ثقيلٌ. وكلّ شخص نلتقي به هو قريبنا. إنّ العادات والتّقاليد والمبادئ تُعلّمنا أموراً قاسيةً خارج المجتمع. لذلك عندما التقت الامرأة السّامريّة بيسوع تعجّبت من أنّه لم يكترث للتقاليد وتكلّم معها، فقال لها يسوع “لو كنتِ تعرفين عطيّتي”. عندما نقرأ تاريخ الأديان أو تاريخ الشّعوب حتّى تاريخ ما بعد المسيح، بحسب علم الأنتروبولوجيا، نرى كيف كانت القبائل قبل المسيح وكيف أصبحت بعده. الإنجيل هو الّذي غيّرها من النّواحي الاقتصاديّة والإنمائيّة والحياتيّة وعلاقاتها بعضها ببعض، لقد اُدخل الفرح الى حياتها وأنعشَها.
مَن هو الّذي عاملَه بالرحمة هنا؟ علينا أن نعرف مقدار الرّحمة الموجودة في قلوبنا. فكم من الأحيان نتصرّف بقلبٍ قاسٍ. لذلك نُصلّي في صلاة قلب يسوع “يا يسوع الوديع والمُتواضِع القلب، اجعلْ قلبنا مثل قلبك”، قلب الله الّذي يُحبّ وليس قلب الله المُتحجّر. الأناجيل كلّها تتكلّم على بحث الله عن الإنسان. لذلك علينا أن نقف أمام ذاتنا ونعرف كيف نضع حياتنا أمامنا وأن نُقدّم خطايانا إلى الرّبّ بتوبة. كما إن القداسة هي ليست فقط الابتعاد عن الخطيئة وإنما هي التّعلّق بيسوع فَكلّما تعلّقنا بالله كلّما رأينا خطيئتنا أكبر، ولكننا نشعر، في الوقت نفسه، بأنّ رحمته أكبر منّا بكثير. وبهذا علينا أن نرتاح ونكفَّ عن القول إنّنا نتمنّى ألّا نكون من المسيحيّين، كما علينا أن نعيش مسيحيّتنا عن قناعة ونطلب معونة الرّبّ.
يقول بعض النّاس إنّهم يعترفون منهم إلى الله من دون الحاجة إلى الاعتراف عند الكاهن، كما أنّك لا تستطيع أن تُعمّد أولادك وتتناول جسد يسوع المسيح من دون الكاهن، فإنّك أيضاً لا تستطيع أن تعترف من دونه. فالاعتراف هو سرّ من الأسرار السّبعة. فإما نأخذ الأسرار كلّها وإمّا لا نأخذ أيّاً منها. كان يسوع واضحاً عندما قال لتلاميذه، بحسب يوحنّا 21 “خذوا الرّوح القدس، مَن غفرتُم له خطاياه غُفِرَت ومَن أمسكتم عليه، اُمسِكتْ”. وهناك ما يُسمّى بسريّة الاعتراف لأنّ هناك جزاءً مدنيّاً وجزاءً كنسيّاً. والله يُعطينا نعمة النّسيان. علينا أن نعترف بكلّ خطايانا، فإذا قلنا بعضها وأخفينا البعض الآخر لن نشعر بالرّاحة، وهذه فكرة القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم. الأمور الّتي نخجل بها هي السّرقة وعلاقتنا مع بعضنا البعض وغيرها… والكاهن قد سمع هذه الأمور مرّات عديدة لذلك علينا ألّا نخاف حين نعترف. يقول الملك داوود “خطيئتي أمامي، أنا حالِفٌ بخطيئتي”.
الاعتراف والتّوبة ليسا مبنيّين على الشّعور بل على الإيمان. يقول يسوع: “جئتُ لِأُلقي ناراً وما أشدّ رغبتي في أن تشتعل” هي نار الرّوح القدس الّتي ستُغيّرني وتجعلني أتقدّم.
ملاحظة: دُوّن هذا التأمّل بأمانةٍ من قبلنا.