الشهادة للربّ والجهاد المستمرّ،
عظة الأب ابراهيم سعد، كائدرائيّة القدّيس نيقولاوس – بلونة.
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
تحتفل الكنيسة اليوم، بِعيد القدِّيس ديمتريوس الشّهيد. ومن خلال الاحتفال بأعياد القدِّيسين الشُّهداء، تَحُثُّ الكنيسة المؤمنين على أمورٍ ثلاثة: أوّلها المحبّة، ثمّ الجهاد المستمرّ للوصول إلى القداسة، وأخيرًا الشّهادة للربّ.
إنَّ الإنسان يُعطي على قدر محبّته للآخر: فإن أحبّ قليلاً أعطى القليل، وإن أحبّ كثيرًا أعطى الكثير، وإن أحبّ إلى المطلق أعطى مِن دون حدود. هذا ما علّمنا إيّاه يسوع على الصّليب، إذ إنّه أحبّنا إلى الغاية، فقاده حبّه إلى الموت على الصّليب من أجلنا. كذلك شهداؤنا القدِّيسون، فقد قادهم حبّهم ليسوع، إلى تقدمة ذواتهم حبًّا به. لقد آمن القدِّيسون الشُّهداء بأنّ الربّ هو وحده “الطريق والحقّ والحياة”، لذا سلكوا وِفق تعاليمه، فكانت لهم الحياة فيه. لقد جاهد القدِّيسون في عبادتهم للربّ، لذا لم يسمحوا لإغراءات هذا العالم بإبعادهم عنه، ولم يتمكّن أيّ شيءٍ من إرهابهم، فَعَبَّروا عن إيمانهم بالربّ بكلّ شجاعة ومِن دون خوف أمام مُضطهديهم. لقد تمتّع القدِّيس ديمتريوس بهذه الصّفات، إذ لم يسمح لأيّ شيء بأن يمنعه من محبّة المسيح، فاختبر حبّ الله له، وأحبّ الآخرين على مثال محبّة المسيح يسوع للبشر، متمِّمًا وصيّة الربّ في الإنجيل:”أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم”.
في زمننا الحاضر، يتعرَّض المؤمنون للكثير من الضِّيقات والاضطهادات: منها ما هو مِن الخارج، ومِنها ما هو مِن الدّاخل. في داخل الإنسان أمورٌ كثيرة تمنعه من التعبير عن حبّه لله، وتدفعه إلى التَّلكُؤ في مسيرته نحو الربّ. وللانتصار على كلّ تلك الأمور الدّاخليّة الّتي تواجهه، على الإنسان أن يتذكّر باستمرار حبّ الله له، ذلك الحبّ الّذي قاد الربّ إلى تقديم ذاته ذبيحةً على الصّليب من أجل خلاص البشر. إنّ الإنسان يعيش حياةً تملؤها السّعادة، حين يُدرِك أنّ هناك إلهًا يُحبّه إلى أقصى الدّرجات. في عالمنا، كُثُرٌ هم الّذين يُعانون من الإحباط واليأس، ويعيشون في حالة اضطرابٍ مستمرّة لأنّهم لا يُدرِكون أنّ في العالم أشخاصًا تُحبّونهم. لا يمكن للإنسان أن يختبر شعورًا أفضل من الشعور برضى الّذين يُحبّونه. إنّ الإنسان يشعر بالإحباط حين تواجهه الصّعوبات لأنّه أَمَال نظره عن ذلك الإله- الإنسان الّذي يُحبّه في كلّ ظروفه.
إنّ خبرة القدِّيس بطرس مع الربّ هي خير دليل على ما نقوله: فالقدِّيس بطرس سار على المياه حين كان مُسمَّرًا نظره على الربّ، أمّا حين أمال نظره عنه، بدأ يغرق. في حياتنا اليوميّة، أمور كثيرة تدفعنا إلى أن نبعد نظرنا عن الربّ، منها: أخطاؤنا، ميولنا وأهواؤنا، أحلامنا المزيَّفة، وتقديراتنا للآخرين المبالغ بها. كلّ تلك الأمور تُشعرنا بالإحباط وبالفشل. إخوتي، بعد انتقالنا مِن هذه الفانية، لن يبقى لنا شيءٌ من تلك الأمور الّتي أبعدتنا عن الربّ يسوع، لذا فلنسعَ للقيام بما يُرضي الربّ. فالسؤال الّذي يُطرَح علينا، هو: كيف نستعدّ للقاء الربّ بعد الحياة؟ كيف سنلتقيه: أبرؤوس مُطأطأةٍ نتيجة خجلها مِن الأعمال الّـتي قامت بها، أم بابتسامةٍ تملأ وجوهنا، تعبِّر عن فرحِنا لشعورنا برضى الربّ علينا، وبالتّالي على أعمالنا الّتي قمنا بها في هذه الأرض؟
لو لم يمت القدِّيس ديمتريوس شهيدًا، لكانت حياته شهادةً على إيمانه بالربّ. إخوتي، إنَّ الشهادةَ نوعان: الشَّهادة الحمراء، والشَّهادة البيضاء. إنّ الشّهادة الحمراء هي موت الإنسان في سبيل دِفاعه عن إيمانه بالربّ، أمّا الشَّهادة البيضاء فهي حين يقتل الإنسان في داخله كلّ ما يُبعِده عن الربّ. إذًا، في الشَّهادتين، هناك عمليّة قتلٍ من أجل المسيح: الأولى، يَقتُل الآخرون المؤمنَ بسبب رفضِه التخلّي عن إيمانه، أمّا في الثانية، فيَقتُل المؤمن في داخله كلّ ما يؤثِّر سلبًا على علاقته بالربّ. وفي الحالتين، يُصبح المؤمِن مشروعَ شهيدٍ لإيمانه بالربّ يسوع. من خلال حياته، يدعونا القدِّيس ديمتريوس إلى مواجهة الموت الّذي يعترضنا في كلّ لحظة من حياتنا، لا إلى الخوف منه والهرب، بل إلى اعتباره فُرصةً تُبرهِن فيها عن حبّك للربّ، ودليل على جهادك المستمرّ في مسيرتك صوبه. إنّ الصّلاة اليوميّة وقراءة الإنجيل هما سلاحا المؤمِن في مواجهته اليوميّة للموت.
على المؤمِن أن يسعى إلى رؤية يسوع في كلّ إنسان ولا سيّما في الخطأة: فمن خلال الذنوب الّتي يرتكبها الإنسان الخاطئ، يتذكّر المؤمِن خطاياه الخاصّة فيتوب عنها، ويغفر لأخيه خطاياه ويرحمه كما يفعل الربّ معه على الدّوام. إنّ النِّسيان، إخوتي، هي صفة إلهيّة لا إنسانيّة بدليل أنّ الكتاب المقدّس يُخبرنا أنّ الربّ ينسى لنا خطايانا ولا يعود يتذكرُّها من بعد، أمّا الإنسان فهو لا يكُّف عن تذكّر خطايا الآخر وتعييره بها. إنّ النِّسيان مبنيّ على الحبّ والرّحمة. غريبٌ هو الإنسان، إذ لا يتذكّر الأعمال الصّالحة الّتي قام بها تجاهه أخوه الإنسان، في حين أنّه لا يمكنه أن ينسى للآخر خطاياه الّتي ارتكبها في حقِّه. فماذا لو عامَلَنا الربّ بِمِثل معاملتنا للآخرين؟ إنّ الربّ يمدّ الإنسان بالرّحمة والحبّ، فيتمكّن هذا الأخير من معاملة أخيه ببعض الرّحمة والحبّ مُحاولاً نسيان أخطاء الآخرين تجاهه. إنّ جوهر الحبّ يقوم على تَذكّر الإنسان لأعمال أخيه الصّالحة، لا على تَذكُّر سيئاته.
كان القدِّيس ديمتريوس شُجاعًا، إذ واجه السُّلطان ورفض السُّجود له، على الرّغم من كلّ الاغراءات الّتي حاول هذا الأخير اللّجوء إليها لاستمالة القدِّيس إليه وإخضاعه له. غير أنّ كلّ تلك المحاولات باءت بالفشل، لأنّ القدِّيس رفض السُّجود لأيّ مخلوق أرضيّ، إذ لا يجب السُّجود إلّا لله الواحد، الّذي يليق به كلّ إكرام وعبادة. لذا أصبح القدِّيس ديمتريوس شفيع الشَّجاعة، بفضل حبّه الثّابت للربّ يسوع دُون سواه. لقد أحبّ القدِيس ديمتريوس الربّ، فأعطى ذاته إلى النّهاية على مِثال المسيح مُعلِّمه، رافضًا السُّجود إلّا للربّ القائم من بين الأموات. إنّ القدِّيس ديمتريوس قُتِل بسبب رفضِه الخضوع للسُّلطان والسُّجود له، فكان شهادته بطاقةَ دخول له إلى الملكوت، وبالتّالي ساهمت في الإسراع في جلوسه على العرش السماويّ ومعاينته لوجه الله القدُّوس.
إنَّ الإنسان يجد صعوبةً في تصديق أنّ باستطاعته أن يكون قدِّيسًا حيًّا، إذ بالنسبة إليه، القدِّيس هو ذلك الإنسان الّذي يقوم بأعاجيب وأعمال خارقة تُذهل المؤمنين. وبالتّالي، يرفض المؤمنون الاعتراف بقدِّيسٍ لم يقم بمعجزات وأعمالٍ فائقة للطبيعة. إخوتي، على المؤمن أن يتعلّق بالإنجيل لا بالأمور الخارجيّة الّتي تُذهلِه، فأساس إيماننا بالربّ يسوع هي تعاليمه لا مُعجزاته. إنّ غالبيّة كنائسنا في الشَّرق تتَّخذ القدِّيس جاورجيوس والقدِّيس إيليّا، إضافة إلى السيِّدة العذراء شُفعاء لها. إنّ القدِّيس جاورجيوس والقدِّيس إيليّا يُصوَّران للمؤمنين وفي أيديهما سيفٌ، للدلالة على قوّتهما وجبروتهما، فالمؤمنون في الشَّرق يُحبّون كلّ ما يرمز إلى القوّة والبَطش. إخوتي، في الكنيسة قدِّيسون ماتوا شُهداء بسبب رفضهم التخلّي عن إيمانهم بالربّ القائم من الموت، غير أنّهم منسيّون من قِبَل المؤمنين لأنّهم لم يقوموا بالأعمال الخارقة والأعاجيب.
إنّ الكنيسة تحتفل كلّ يومٍ بعيد أحد القدِّيسين، وهم بغالبيّتهم غير معروفين عند المؤمنين بسبب عدم قيامهم بالمعجزات الـمُبهِرَة، ولكنّهم معروفون من قِبَل الله الّذي أظهر للكنيسة قداستهم. إخوتي، إنّ القدِّيسين في حياتهم الأرضيّة، عاشوا حبّهم للمسيح من خلال الأعمال الّتي قاموا بها مع الآخرين، وهذا ما أدّى إلى قداستهم. لذا فلنسعَ إخوتي، إلى التّعامل مع القدِّيسين انطلاقًا من لغة العالم، أي لا من خلال الأعاجيب، إنّما من خلال التشبّه بهم في محبّتهم للمسيح، فنكون على مِثالهم نحن أيضًا قدِّيسين. إخوتي، في كلّ مجموعة تحتفل بالذبيحة الإلهيّة لتُعبِّر عن حبّها للربّ يسوع، قدِّيسون لا يعرفهم إلّا الله وحده، هو كاشف الكِلى والقلوب. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.