الصعود الإلهي،

عظة الأب عبود عبود الكرمليّ في دار المسيح الملك- زوق مصبح.

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

ها نحن نستعدُّ في هذا اليوم المبارك مِن زمن القيامة، للاحتفال بصعود المسيح إلى السّماء، يوم الخميس المقبل. في زمن القيامة، يختبر المؤمِن فرحَ قيامةِ الربّ يسوع، فيتعزّز رجاؤه بقيامة الأموات إذ يُدرِك أنّ الربّ يسوع قد انتصر على الموت بقيامته في اليوم الثّالث، وبالتّالي أبادَ المسيحُ سُلطانَ الموت والخطيئة. إنّ قيامة الربّ مِن بين الأموات تشكِّل جوهرَ إيماننا، وَمَدعاةَ فَرَحِنا وَسُرورِنا: فالمسيح قد أخلى ذاته مُتَّخذًا طبيعتَنا البشريّة فقدَّسها بقيامته، وفتح أمامنا الطريق لنكون مِن أبناء الملكوت.

ها نحن نجتمع معًا اليوم، في الثّلاثاء الثّاني من الشَّهر، كالعادة، لنسبِّح الله أوّلاً ولنُمجّده ولنشكره على كلِّ نِعَمِه، وكي نتشارك الصّلاة ثانيًا على نيّة أمواتنا. إنّنا جميعنا نعرف أشخاصًا أعزّاء على قلوبنا غادروا هذه الحياة، أكانوا أقارب أم أباعد، فَهُم إخوتُنا في المسيح يسوع، ولذا نُصلّي من أجلهم كي يغمرهم الربّ بفيض مراحمه. إنّ الموت لا يستطيع أن يقطع العلاقة الّتي تجمعنا بأمواتنا، فنحن نستطيع أن نلتقي بهم مِن خلال الصلاة الشخصيّة كما مِن خلال صلوات الكنيسة أي في الذبيحة الإلهيّة حيث يتحوّل الخبز والخمر إلى جسد ودم الربّ يسوع بفِعل الرّوح القدس. وفي هذا الشهر الّذي نكرِّسه لتكريم مريم العذراء أمّنا، نصلّي معها لأجل أمواتنا، فهي قد عرفت العذاب يوم كانت واقفة أمام الصّليب بصمت، وقد تمسَّكت برجاء قيامة ابنها من الموت وانتصاره على الخطيئة لأنّها تعلم بطاعَتِه لله الآب. إنّها نِعمةٌ كبيرة لنا نحن المؤمِنِين، أن يكون لدينا أُمَّان: الأولى، أرضيّة بشريّة – وهنا نسأل الله أن يُعطي الأحياء منهنَّ الصِّحة وأن يمنح الأموات منهنّ الرّحمة والراحة الأبديّة – والثانية، سماويّة وهي العذراء مريم. إنّ هذه النِّعمة الّتي يشعر بها المؤمِنون بالربّ دون سواهم مِن البشر، تَجعلهم في حالةٍ مِنَ الفيض العاطفيّ، فالأمّ هي نبعُ الحنان والعاطفة وهي مركز عطاء الذّات المجانيّ.

إنّ الإنجيل الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، يُخبرنا عن موت لعازر وأنّ يسوع أقامه مِنَ الموت بعد أربعة أيّام على وَفاته. إنَّ هذا النّص يدعونا إلى تمجيد الله القادر على كلّ شيء، إذ لم يتمكّن لا المرض ولا الموت مِن مَنِع يسوع من إقامة صديقه لعازر مِنَ الموت. إنّ إقامة لعازر من الموت ما هي إلّا عمليّة تحضيريّة لقيامة الربّ يسوع، على المستوى اللّاهوتيّ والتاريخيّ. إنّ اليهود الّذين كانوا حاضرين حين أقام يسوع لعازر من الموت، لم يفهموا ما حدث، فحوّلوا قيامة لعازر إلى تهمةٍ يشتكون بها على يسوع للحُكم عليه بالموت. بعد إقامة يسوع لعازرَ مِنَ الموت، تابع لعازر حياته ثمّ عاد ومات مِن جديد منتقلاً إلى الحياة الجديدة. أمّا يسوع، فقد عاش حياته وحين أنهى رسالته على هذه الأرض، مات وقام في اليوم الثّالث إلى الأبد. إذًا، هذا هو الفرق بين قيامة لعازر وقيامة يسوع: قيامة لعازر كانت وقتيّة، أمّا قيامة يسوع فكانت أبديّة. إنّ إيماننا المسيحيّ مرتكزٌ على قيامة الربّ يسوع مِن بين الأموات في اليوم الثّالث: إنّ قيامة يسوع مِن بين الأموات تزرع فينا حياةً جديدة، وتدفعنا إلى التغلّب على مخاوفِنا من الموت، وخاصّة في الظّروف الّتي نعيشها حيث يُبشِّرنا المسؤولون بِحُروبٍ مستقبليّة في العالم وفي محيطِنا. إنّ رجاءنا وقوّتنا كمؤمِنين نستمدُّها مِن الربّ القائم والمنتصر على الخطيئة والموت. إنّ الإنسان الّذي لا يُثابر على الصّلاة والتأمّل في كلمة الله، يخاف ويشعر بُضعفه حين تعترضه صعوبات الحياة؛ أمّا الإنسان المتَّكِل على الله والمثابر على الصّلاة، فإنّه يعرِف أنّ الربّ سيمنحه القوّة لمواجهة الـمِحَن الّتي تعترضه في هذه الحياة، لذا فهو يشعر بالفرَح والتعزية عندما يتخطّاها. إنَّ الصُّعوبات تزيد المؤمِن تَجَذُّرًا وتعمُّقًا في إيمانه بالربّ القائم من الموت.

إنّ هذا النّص الإنجيليّ يَحُثّنا على الانطلاق إلى الأمام. إنّ الربّ يسوع قال لِمَرتا في نصٍّ إنجيليّ آخر: “مرتا، مرتا، إنَّك في همٍّ وارتباكٍ بأمورٍ كثيرة، مع أنّ الحاجة إلى أمرٍ واحدٍ. فقد اختارت مريم النَّصيب الأفضل ولن يُنزَع منها” (لو 10: 41-42). وبالتّالي يدعونا هذا النَّص الإنجيليّ إلى الجَمعِ ما بين صلاةِ مريم وأعمال مرتا. على المؤمِن أن يكرِّس قِسمًا مِن وقته للربّ، بينما يكرِّس القسم الآخر مِن نهاره للعمل. إنّه مِن المفضَّل أن يكون الوقت الّذي نكرِّسه للربّ وقتًا محدَّدًا ثابتًا. فعندما يكرِّس المؤمِن وقتًا مِن يومِه للربّ يسوع، فإنّ أعماله تُصبح تعبيرًا عن محبّته للربّ أي أنَّ أعماله تُصبح أكثر صلاحًا. إنّ كلّ عملٍ يقوم به الإنسان لا ينبع مِن محبّته لله ومن إيمانه به، هو عملٌ ناقصٌ، أمّا أعمال الإنسان الناتجة عن محبّته لله وعن إيمانه به، فتُثْمِر فرَحًا ونشاطًا، ومحبّةً بين الإخوة واتِّحادًا بهم.
إنّ الربّ قد أخلى ذاته من أجلنا، ووَهبنا الحياة الأبديّة، لأنّه أحبّنا إلى الغاية، وبالتّالي ألا يستحقّ عَمَلُهُ هذا لأجلنا أن نبادِر بِدَورِنا إلى إخلاء ذواتنا تعبيرًا عن حبّنا له؟! إنّ إخلاء ذواتنا يكون بتكريس بعض الوقت من يومِنا للربّ: فنشارك على سبيل المثال في الذبيحة الإلهيّة كما هي الحال الآن. إنّ إخلاء ذواتنا بكلّيتها للربّ تواجه بعض الصّعوبات: إذ قد يشرد المؤمِن على سبيل المثال في أثناء صلاته، فيفكِّر في قلبه وفكرِه في أمورٍ أرضيةٍ كثيرةٍ، مُتناسيًا أنّه في حضرةِ الله. لا يمكِن للمؤمِن أن يسمع كلمة الله حقًّا ويغوصَ فيها إن كان قلبه وفكره ونظره مشغولاً بأمورٍ أخرى. إنّ تكريس وقتٍ للربّ يتطلّب منّا الجلوس في حضرته كالطفل المولود حديثًا، الّذي لا يملك من الأفكار والأقوال ما يشوِّش حضوره بين يدَي أبيه. إنَّ إخلاء الذّات للربّ هو السّماح له بالدّخول إلى أعماقنا، حتّى وإن لم ننجح بنزع كلّ ما يُساوِرنا من أفكار بشكل نهائي. إنَّ دخول الربّ إلى أعماق الإنسان، يجعل من أعمال هذا الإنسان أعمالاً تعكس المسيح للآخرين، فتُصبح أعمال المسيح أعماله.
إنّ إخلاء الذّات للربّ، بالنسبة للقدِّيسِين، لم يكن بالأمر السَّهل بل تطلّب منهم مثابرة على الصّلاة، ولكنَّهم نجحوا في نهاية المطاف في جَعل المسيح محور تفكيرهم واهتمامهم في حياتهم، فتمكّنوا مِنَ الاتِّحاد به. كان بولس الرّسول يضطهد المسيحيّين، حين ظهر له الربّ يسوع على طريق دِمشق. حين تعرَّف بولس الرّسول إلى الربّ، ترك كلّ شيء وتَبِع المسيح، وتحوَّلت حياته من اضطهادٍ للمسيحيّين إلى حياةِ تبشيرٍ بكلمة الله، فكتَبَ عددًا كبيرًا من الرّسائل إلى الكنائس الّتي بشَّرها، ولا زالت رسائِله تُقرأ حتّى يومِنا هذا في أثناء احتفالاتنا اللّيتورجيّة. حين تَعرَّف بولس الرّسول على الربّ، أخلى ذاته من كلِّ الهموم الدنيويّة الأرضيّة، مُكرِّسًا كلّ وقته للتبشير بكلمة الله.

إنّ الكتاب المقدَّس هو إحدى الوسائل الّـتي تُساعدنا على إخلاء ذواتنا، لذا فلنسعَ إلى قراءة الكتاب المقدَّس بَعَهديه، والتأمُّل بكلمة الله، مكرِّسين لها الوقت في حياتنا، محاولين إبعاد عن أذهاننا وقلوبنا ونظرنا، كلّ ما مِن شأنه أن يُشوِّش تفكيرنا بالربّ وعلاقتنا به، فنتمكّن من النّمو في الإيمان والرّجاء والمحبّة. على أعمالنا أن تنبع مِن صلاتنا للربّ، فتكون أعمالنا صالحة تُعبِّر عن محبّتنا للربّ، فنشهد من خلالها أنّنا أبناء الملكوت، على الرّغم من كلّ صعوبات الحياة، وبخاصّة الموت. إنّ الإنسان ضعيفٌ لذا قد يتفاجأ حين يسمع نبأ موتِ شابٍ، إذ يعتبر أنّ الوقت ما زال مبكِّرًا لفقدانه. لا يمكن للإنسان أن يدخل إلى الملكوت إلّا بالموت، وبالتّالي علينا أن نتقبّل موت أحبّائنا إذ إنّه انتقالٌ من حياةٍ فانية إلى أخرى أبديّة. إنّ تأمُّلَنا بالمسيح القائم من الموت، والّذي أقام لعازر مِن سُباته، يجعلنا نُدرِك أنّ الربّ قادِرٌ على كلِّ شيء. من الربّ القائم نستمِدّ رجاءنا بالقيامة.
وفي هذا الشَّهر المريميّ، فلنطلب مِن العذراء مريم، أم الله، أن تحمي بثوبها الطاهر، أبناءها مِن كلّ الشّرور، وأن تَرُدَّ الأخطار عن وطنِنا وعن العالم أجمع، فننعم جميعنا بالسلام ونعيش بفرحٍ ومحبة مع الآخرين. كما نسألها اليوم أن تطلب من ابنها أن يُرسِل إلينا كلَّ النِّعَم التّي نحتاجُها لمتابعة مسيرتنا على هذه الأرض، فنكون شهودًا للآخرين بأنّنا أبناء النّور الّذي لا يزول، له المجد إلى الأبد. آمين.

 

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp