محاضرة للأب فادي سركيس،
خادم القدّيسين فوقا وعبد – بعبدا،
الصّوم زمن العبور،
من المعروف أنّ الصّوم هو الامتناع عن الأكل وعن الملذات وقضايا أخرى. إلا أنّ الكنيسة لا ترى في الصّوم حالة امتناع بالمعنى السلبيّ، غير أنها تعتبره حالة عبور وحالة حياة جديدة ينطلق منها الإنسان لينمو في الحياة الروحيّة. وفي زمن العبور، نجد اتجاهات ثلاثة يسلكها الإنسان ليشعر أنه قد عَبَر.
جميعنا نمرّ بمراحل الحياة الطبيعيّة ذاتها، إذ نعبر فيها من الولادة إلى المراهقة، فالشباب، وثمّ النضج من خلال المعرفة الاختباريّة، المعرفة العلميّة والمعرفة الروحيّة. ولذا فإن الكنيسة سنويًّا تعرض علينا حالة النّمو هذه، من خلال اتجاهات ثلاثة: الاتّجاه الأول هو العبور إلى العلاقة مع الله، أما الثاني فهو العبور إلى العلاقة مع الذّات، والاتّجاه الثالث هو العبور نحو العلاقة مع الآخر. وهذه المحاور الثلاثة تشكِّل أساسًا لحالة النموّ في زمن العبور.
في العهد القديم، عاش الشعب اليهودي اختبارًا تأسيسيًّا لعلاقته مع الله. وهذا الاختبار هو تحرير الشعب اليهودي من عبوديّة مصر وعبور البحر الأحمر حتى بلوغه أرض الميعاد؛ عاش الشعب اليهودي اختبارًا ماديًّا، فباتوا يقيمون تذكارًا سنويًّا للحدث ويحتفلون بالعيد مُستَذكِرين يد الله القديرة التي أخرجتهم من أيدي المصريين وحررتهم وأعطتهم أرض الميعاد.
ومع المسيحيّة، تطوّر هذا الفكر وبات عبورنا مع السيّد المسيح من شقاء هذه الأيام وعبوديّة ملذاتنا وكلّ ما يجذبنا إلى التراب، إلى التحرّر والدخول في علاقة حميمة مع يسوع، ابن الله، ليدخلنا في حياة أبناء الملكوت. والتحرّر هو الأساس في مسيرة العبور والنموّ. وإن لم يتوفر هذا التحرّر من القيود، سنشعر وكأننا لا زلنا في أماكننا، وهنا نتذكر كلام يسوع: “طوبى للفقراء بالروح فإن لهم ملكوت السماوات. طوبى لأنقياء القلوب لأنهم يعاينون الله. طوبى لفاعلي السلام لأنهم أبناء الله يدعون” الذي يساعدنا لنكتشف المسيرة التّي تقودنا إلى أن نكون أنقياء القلوب وفاعلي سلام وفقراء بالروح. وهذا الأمر يتطلّب الكثير من العمل على تطوير الذات والتحرّر من القيود النفسيّة والروحيّة والجسديّة والماديّة والثقافيّة والحضاريّة لنتمكّن من خلع الإنسان القديم عنا وارتداء الإنسان الجديد، إنسان البِّر والنعمة. وهكذا نتمكّن من فهم العلاقة مع الله بشكل أوضح، هذه العلاقة التّي ستؤدّي بنا إلى اكتشاف صورتنا الداخليّة بحسب ما جاء على لسان القديس خوسيه ماريا سكريفا في كتاباته:
“إن خبرتي كإنسان وككاهن وكمسيحي علّمتني أن النّفس البشريّة مهما اختبأت في أجواء الخطيئة تخفي في طياتها صورة النبل”، وذلك لأنّ صورة النبل هي صورة الله فينا، وبالتّالي علينا أن نكتشف هذا النبل، هذه الصورة الإلهيّة المطبوعة في كياننا البشري لأننا خُلقنا على صورة الله ومثاله. نكتشف هذه الصورة من خلال محطة العبور التي ستمكننا يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام، من معرفة المكنونات الإلهيّة التي فينا. وهذه المعرفة التّي تحتاج إلى نموّ، من الضروري جدًّا أن يكون لدينا حالات من الضّعف لنكتشف أهميّة هذا النموّ، كما يجب أن تكون هناك عبوديّة ليكتشف الإنسان أهميّة التحرّر، لأنّه إن كان حرًّا دومًا لن يكتشف أهميّة الحريّة أو أهميّة العبوديّة. وفي كلّ مرّةٍ نمرّ في أزمة ما، نكتشف حضور الله. فالعبور إذًا هو التطلع نحو الله لمعرفة مشيئته.
زمن الصّوم ليس بالزمن السهل، إذ أنّه زمن التعب والجهد الروحي والإماتة، وكلّ هذا بات غريبًا عن عالمنا اليوم، عالم السهولة والرخاء. فالصّوم يدعونا إلى بذل الجهد، وإلى دخول عالم لم نكتشفه بعد، إلى الحياة الروحيّة، إلى الكلمات الروحيّة التّي تنعش فينا النّفس وتحرّرنا، وبالتّالي نَعي أهميّة الجهد الروحيّ في حياتنا اليوميّة. الوسيلة الأولى لنحيا في العلاقة مع الله هي الصلاة، والصلاة بالمعنى السائد تعني إعادة تلاوة الكلام المكتوب مسبقًا، كالصّلاة الربيّة ودستور الإيمان وغيرها، ولكن في الحقيقة ليست هذه الصّلاة الحقيقيّة التّي نُدعى إليها. فالصّلاة بالنسبة لكلّ الآباء الروحيّين هي تقرّب القلب وانفتاحه على الرّوح القدس، الذّي بدوره يقود حياتنا ويحرّرنا، وإن لم نكن ممتلئين من نِعَم الرّوح القدس، لن نتمكَّن من الصلاة وعندئذ تتحوّل صلاتُنا إلى تمتمة كلمات. يجب أن نمتلئ من روح الله (د 20)، الذّي سيعلِّمنا سرّ الاتحاد مع الله، وسيقود حياتنا كما قاد حياة يسوع:
“وقاده الرّوح إلى البريّة ليصوم أربعين يوما وأربعين ليلة”، وبالتّالي فإن هذا الانقياد يجب أن يكون أساسًا للصّلاة، لأنّ الصّلاة هي صلة وعلاقة مع الله الذّي عرفناه وليس الله الذّي لم نعرفه. الله الذي رأته أعيننا وسمعته آذاننا ولمسته أيدينا، وهذا هو الإله الذي نبشِّر به، فهو ليس إلهًا مجهولاً. الديانة المسيحيّة كما كلّ الديانات تدعو إلى الخير، إلا أنّها أيضًا تدعو إلى بناء علاقة مع شخصٍ حيٍّ عرفناه هو يسوع المسيح، ابن الله، الذي حرّرنا من قيود ترابيتنا وأطلقنا شهودًا لقيامته. ومن هنا، تتحوّل الصّلاة إلى ضرورة حياتيّة لتقود حياتنا في الصّوم، ولتحرّرنا – بحسب الرّسول بولس-من أعباء الجسد المنحرفة وتُثمر فينا ثمار الرّوح، أي المحبّة والفرح والسلام والطُهر واللطف والتواضع والصبر. وكلّ هذه الثِّمار التي يزرعها فينا الرّوح من خلال صلاتنا، هي التي تقود حياتنا وتحرّرنا يومًا بعد يوم، لتكتسب حياتنا حالة جديدة، هي حالة أبناء الملكوت، حالة الأشخاص المستنيرين بحضور الله.
الصّوم هو حاجة، وهو الوسيلة الثانيّة لنحيا حياة الرّوح، لأنّ كل إنسان منا أخطأ. فهو خاطئ لأنّه متَحِدّ بأبينا آدم وأمنا حواء، متحدّ معهما في قضية رفض الله. مَن منّا لا يرفض الربّ؟ من منّا أمينٌ لله طيلة أيّامه؟ وإن قلنا أنّنا أُمناء جعلْنا الله كاذبًا، لأن الله يعرف أننا محدودون وغير كاملين بل نسير في مسيرة نور نحو الكمال. وهذه المسيرة تتضمّن المرور باختبارات ليست بالضّرورة ناجحة دومًا. فالفشل هو طريق النجاح، ولا يجب أن ننظر إلى الفشل بطريقة سلبيّة دومًا، بل علينا أن نُدرك أنّه يعطينا خبرةً معينةً، تجعلنا نصمد في المستقبل بشكل أفضل، لأنّه يقويّ فينا العلاقة. الصوم يساعدنا على التعويض، والمسيح ابن الله عَوَّضَ عن خطايانا إذ كان كفّارةً. نحن عندما نعترف عند الكاهن فإنّه يطلب منّا تكفيراً عن خطايانا ولا يعاقبنا، وهذا التّكفير هو تعويض عن نقص الحب الذي كنّا نحياه، ليمكِّننا من تعويض الحبّ الأكبر. الربّ يسوع، البريء من كلّ خطيئة شخصيّة وعامّة، هو الذي صنع الخير لجميع النّاس وكفّر عن خطيئتنا، وكان القربان والمقرِّب، لذا فإنَّ الصَّوم بالنسبة لكلّ إنسان منّا هو حالة تجدّد بالذهنيّة والتّفكير والآفاق المرسومة للحياة الشخصيّة لنتمكَّن من الظهور بحالة جديدة.
أما الوسيلة الثالثة فهي الصدقة تجاه الفقراء، وهي تعبيرٌ عن واجب العدالة ووصيّة المحبّة الأخويّة. فجميعنا نتحدَّث عن العدالة ونريدها، والعدالة تبدأ من جانبنا تجاه الآخرين، إذ علينا أن نقوم بواجباتنا لننتظر حقوقنا. أما العدالة في الصدقة فلها مدى أبعد مع يسوع، فهو لا يريد منّا أن نمارس الصّدقة مع إخوتنا الذين نحبّهم فقط: “أحبّوا أعداءكم وصلّوا من أجل مضطهديكم لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السّماء”. إنه يطالبنا بجهدٍ عظيمٍ لنكون كاملين في الحقيقة كما أنّ أبانا السماويّ كامل، أي أن نكون في حالة كمال، وليس في حالة اعتياديّة ككلّ النّاس. لذا فإنّ العبور بات بحاجة إلى وقفة مسؤولة وتخطيط ووعي.
يقول يسوع: “تصّدقوا بما هو لديكم”، “كنت غريبًا فآويتموني، كنت جائعًا فأطعمتموني، كنت عطشانًا فسقيتموني، كنت مريضًا فزرتموني” وهذا كلّه يبدو سهلاً وبسيطاً، إلا أنّ الصعوبة تكمن في قدرتنا على الالتزام به في حياتنا، ويُكمل يسوع: “أحبب قريبك حبَّك لنفسك”، فعلينا ألاّ نخشى استغلال الآخر لنا. في أحد الموتى المؤمنين بحسب الطقس الماروني، تتمّ قراءة إنجيل “لعازر والغنيّ”، وهو رائع بالنسبة لموضوع الصدقة، إذ “كان لعازر ملقى عند باب ذلك الغنيّ، وكان يشتهي أن يملأ جوفه من الفتات المتساقط عن مائدة الغنيّ الذّي كان يلبس الأرجوان والكتّان النّاعم ويتنّعم كلّ يوم بأفخر الولائم. مات لعازر، ومات الغنيّ”، فلعازر الذّي لم يكن بعيدًا عن الغنيّ، بل كان عند باب بيته، إلّا أنّ قساوة قلب الغنيّ لم يكن لها حدود، ولوقا الإنجيليّ يكافئ لعازر إذ يصفه ويذكر اسمه، أمّا الغنيّ فلم يذكر له اسم لأنّه معروف من خلال غناه هو المستغنيّ عن الله. عندما مات لعازر “حملته الملائكة إلى حضن ابراهيم، ومات الغنيّ ودُفِن”، فالغنيّ لم يفهم سرّ العبور، بل فَهِم سرّ الحياة الأرضيّة فقط وكبَّل قلبه وجاء التّعبير عن كل ذلك بأحرف ثلاثة “د- ف- ن، دفن”.
الإنسان الذي لا ينظر نحو البعيد، هو إنسان ليس لديه حالة نموّ، بل هو مكتفٍ بالحالة التي يحياها ويعتقد أنّ هذه هي كل الحياة، فيضع قلبه فيها وبالتّالي يجد كنزه حيثما يضع قلبه، وكنزه هو الموت وليس الحياة. فالحياة بالنسبة لنا كمسيحيّين زمنان، الزمن المعدود الأيّام، والزمن الأبديّ، لذا نحن نؤمن بالقيامة لأنّ يسوع عاش معنا الزمن المحدود، وجذبنا لنعيش معه الزمن اللامحدود. علينا أن نفهم أن الصّدقة ليست فقط في العطاء، بل هي الدّخول في مفهوم يسوع للأمور والخيرات التّي بين أيدينا، وكما قال يوحنّا المعمدان: “من له قميصان فليعطِ من ليس له”، ويعقوب الرّسول قال:”إن كان أخ أو أخت عريانين وليس لهما قوت يومهما فقال لهما أحدكم: اذهبا بسلام واستدفئا واشبعا ولم تعطوهما حاجة الجسد، فماذا انتفعا؟”
الصدقة تقود إلى وعي الإيمان. إن كانت لدينا علاقة مع الله ولكن لا نقوم بأعمال محبّة ورحمةٍ، فإيماننا ميّتٌ، ولا تعود إليه الحياة إلا بالعمل الصادر عن القلب، وإن لم يصدر العمل عن القلب فلا قيمة له، وهذا ما يقوله مار بولس في نشيد المحبّة: “لو كنت أنطق بألسنة النّاس والملائكة ولو أسلمت جسدي ليحرق ولم تكن فيّ المحبّة فلا يجدي ذلك نفعا”. من القلب يصدر كلّ خيرٍ، وشراكة الحبّ والخير هي التي تؤدّي بالإنسان لأن يكون نورانيًا ومن أبناء الملكوت، والحياة الداخليّة التي يحياها الإنسان تجعل منه إنسانًا مميّزًا بأمانته لله ومحبّته للقريب. من هنا نُدرك إلى أين سنعبُر، إلى الحقيقة، حقيقة أنّ الإنسان عندما يبزغ فجره في الدّنيا ويبصر النّور، فإنّ هذا يحدث ليبقى مبصرًا النّور الأساسيّ، يسوع المسيح الذي سيقود خطاه حتى النهايّة، حتّى الفجر الجديد، فجر نور القيامة.
لذا فإنّ يسوع الذّي هو شمس حياتنا، هو يقود خطانا في زمن الصّوم. وبحسب الطقس المارونيّ فإننا نحيا ثلاث حالات في الصّوم، الأولى هي الشّفاء الجسديّ الداخليّ والخارجيّ، والثانية هي حالة الجمع، جمع الإنسان بعلاقاته مع الأبناء كالابن الضّال، ومع الجماعة بالمحبّة كشفاء المخلّع، والحالة الثّالثة هي حالة النّظر والرؤية نحو البعيد مع شفاء الأعمى لندخل مع الرّبّ في آلامه ونعبر معه في سرّ الحبّ العظيم، فيرينا يسوع في كلّ أسبوع صورة له، صورة للشّخص الذّي سيمنح ذاته قربانًا وكفّارةً، فنفهم عندها أنّ زمن الصّوم هو سرّ الانسكاب بتواضع وبطاعة كاملة كما أطاع يسوع بموته على الصّليب. و”أخلى ذاته آخذا صورة عبد”، وعندها لن نرى يسوع ممجدًا على جبل طابور وحسب، بل أيضًا سنراه ممجدًا عند أقدام الرسل، وإنَّ أعلى مستوى حبٍّ وصل إليه يسوع قبل الصَّليب هو انحناؤه عند أقدام الإنسان، وهو اختبار رائع جدًّا، أن ينحدر ابن الله على أقدام الرسل ويغسلها كالعبد، لينقيَّ أقدامهم قبل أن ينطلقوا ليبشِّروا بكلمته ورسالته، فلا يعلِّق غبار الدنيا على أقدامهم من بعد، كي ينقلوا البشارة إلى كلّ العالم، إلى كلّ البشريّة، إلى كلّ الحضارات والثقافات، ليزرعوا فيها الثّقافة الجديدة، ثقافة الحبّ، حبّ الله فلا ترتبط أقدامهم بأرض واحدة فقط.
نرفع صلاتنا في النهايّة إلى الرّبّ الذّي دعانا إلى التحرّر من قيود الجسد، من كل محدوديّة التّفكير، من قيود ثقافة النزعة الذاتيّة والإقفال على الذات، لنفتح قلوبنا لمحبّة الله التي تكبر فينا يومًا بعد يوم، ولكي كما النّور الطّالع من الفجر إلى وضح النّهار، تبزغ مسيرة حياتنا من فجر أيّامنا لتلتقي بالنّهار الذّي لا يعقبه مساء، يوم القيامة. المسيح قام… حقا قام.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.