محاضرة للأب جورج رعد،
لقاء تنشئة في المرافقة الروحيّة،
المسيح في حياة المتألّم، عمَلُ الحِداد،
ما زالَ مجتمعُنا متمسِّكَاً بعاداتٍ قديمةٍ باليةٍ فيما يخصُّ الحدادَ، بُغيةَ التَّعبيرِ عَنْ خسارةِ عزيزٍ، كارتداءِ اللَّونِ الأسودِ والامتناعِ عَنْ مُشاهدةِ التِّلفازِ والسَّهرِ وحرمانِ النَّفسِ مِنَ الأطعمةِ المــُستَطابَةِ وتعذيبِ الذَّاتِ بهذهِ الطُّرقِ وردَّاتِ الفعلِ، التي هيَ في الأصلِ عاداتٌ يهوديَّةٌ لا تُصيبُ جوهرَ الإيمانِ، بل تعني أنَّنالَمْ نَرتقِ معَ المسيحِ إلى العهدِ الجديد.
فالإنسانُ هوَ الكائنُ الوحيدُ بينَ كُلِّ كائناتِ الأرضِ الذي يعرفُ أنَّهُ سَيموتُ، وهوَ الوحيدُ الذي يعرفُ أنَّهُ موجودٌ، وأنَّهُ ذو ماضٍ وَحاضرٍ وَمستقبلٍ، لذلكَ يجبُ أَنْ يعرف أنَّ الخسارةَ هيَ انسلاخٌ، وكلُّ انسلاخٍ بحسَبِ علمِ النَّفسِ يُؤدِّي إلى ولادةِ حياةٍ. والانسلاخ هوَ نتيجةُ محبَّةٍ، فالأمُّ إِنْ لَمْ تَنسلخْ عَنِ الطِّفلِ الذي في أحشائها يموت. و في الحُبِّ يجبُ أَنْ يكونَ هناكَ انسلاخٌ و بُعدٌ لأَنَّ الذَّوبانَ يَقضِي على الحُبّ. الانسلاخُ هوَ الطَّريقةُ الوحيدةُ للدُّخولِ في سرِّ حُبِّ الله. نحنُ نحزَنُ ولكنَّ حُزنَنا ليسَ ككلّ النَّاسِ وليسَ بلا رجاءٍ. لذلكَ فإنَّ فترةَ ما يُسَمَّى بالحدادِ يجبُ أَنْ تَكونَ مَبنيَّةً على أُسسٍ روحيَّةٍ وليسَ على مجرَّدِ تصرُّفاتٍ خارجيَّةٍ. فالمسيحيون الأوائلَ كانوا يَلبَسُونَ الأبيضَ علامةً للفرحِ وَالانتصارِ وَالقيامةِ، والأسودَ علامةً لانتصارِ الموتِ -” أينَ شوكَتُكَ يا موتُ وأينَ غلبَتُكَ يا جَحيمُ”، “شوكةُ الموتِ انكسَرَتْ، وأبوابُ الجَحيمِ أُغلِقَت”- لذلكَ لمْ يَعدْ هناكَ مِنْ جَحيمٍ.
فما الأَسَودُ إلَّا دليلٌ على أنَّنا لَمْ ندخلْ حقيقيَّاً إلى سرِّ الرَّجاءِ المسيحيِّ، أو على التزامِنا بالتقاليد لأجلِ المجتمعِ الذي حولِنا، إذْ لا نمتلكُ الجرأة لنقولَ “أنا إنسانٌ قياميٌّ وأتحدّى بإيمانٍ”. ” مَنْ يخجلُ بي أمامَ النَّاسِ أخجلُ بهِ أمامَ أبي الذي في السَّماءِ”. فالمسيح أدخَلَنا في الرَّجاءِ، “لا تضطَّربُ قلوبُكُم أنتم تؤمنونَ باللهِ فآمنوا بي أيضاً”، “أنا ذاهبٌ لبيتِ أبي لأُعِدَّ لكُم في بيتِ أبي منازلَ كثيرةً ومتى أعددْتُ لكُم مكاناً عُدْتُ لآخذَكُم إليَّ لتكونوا أنتُم حيثُ أكونُ أنا”. هذا هو فرحُنا و هذا هوَ رجاؤُنا، فيجبُ أنْ نأخذَ الموضوعَ بمعناهُ الروحيِّ وليسَ بمعنى الحزنِ والألمِ لأنَّ اللهَ ضدَّ الألم.
إنَّ مرحلةَ الحدادِ هيَ دعوةٌ لكلٍّ منَّا لتخطِّي هذا الحدثَ الأساسيَّ والمفصليَّ عندما نخسرُ أحبَّاءَنا و أحبَّاءَنا ولنتعلَّم كيفَ يستطيعُ الإنسانُ أن يتحمَّلَ هذهِ الخسارةَ في حياتِه. مِنَ المؤكَّدِ أنَّهُ يجبُ أنْ نعرِفَ بأنَّ الموتَ جزءٌ أساسيٌّ مِنَ الحياةِ لا نستطيعُ أن نهرُبَ منهُ أبداً. إنَّهُ جزءٌ أساسيٌّ من الحياةِ بشريَّاً، أمَّا بالنَّسبةِ لنا فهوَ العبورُ أي الفِصح، ونحنُ ننتظِرُ هذا العبور. فما نسمِّيهِ موتٌ على المستوى البشريِّ هوَ على المستوى الإيمانيِّ فصحٌ وعبورٌ إلى حيثُ لا وجعَ ولا حزنَ ولا تنهُّدَ، بل حياةٌ لن تفنى، وما أعدَّهُ اللهُ لنا لا يخطر ببالٍ، إذلم تسمعْ بهِ أذنٌ ولم تَرَهُ عينٌ.
على الإنسانِ مِنَّا أنْ يكونَ مستعدَّاً بطريقةٍ صحيحةٍ لهذا الحدثِ الذي يحصلُ في حياتنا، إِذْ لا يمكنُ أن ننسى أحبَّاءَنا، ولكنهم يتحوَّلونَ إلى ذكرى. إنَّ نداءَنا “أُذكرني في ملكوتِكَ” يعني أن نكونَ في حالةِ لقاءٍ دائمٍ معَ اللهِ، وفي فترةِ الحدادِ يجبُ أن نكونَ في لقاءٍ معَ الله.
“أنتُم لا تستطيعونَ شيئاً مِنْ دوني” يقولُ الرَّبُّ يسوعُ.
إنَّ إيمانَنا مبنيٌّ على هذا اللِّقاءِ الدَّائمِ مَعَ يسوعَ المسيحِ، لذلكَ يقولُ القدِّيسُ بولسَ: “لستُ أنا بعدُ أحيا بلِ المسيحُ الذي يحيا فيَّا”. المؤمنُ يجبُ أن يقولَ هكذا كالقدِّيس بولس؛ إِنْ أَحيا.. فبالمسيح، وإِنْ أَمُتْ.. فبالمسيحِ أيضاً.
لذلكَ فإنَّ الألمَ الذي نُصابُ بِهِ نتيجةَ فُقدانِ الأشخاصِ الذيَن نحبُّ، يبدأُ بالانحسارِ في فترةِ الحدادِ إلى أن يزولَ، إذْ يجبُ أن يزولَ. إِنْ لم يَزُلْ الألمُ فعلَينا أَنْ ندركَ أنَّهُ ما زالَ أمامَنا مسيرةٌ طويلةٌ في فترةِ الحدادِ.
قدْ تتطلَّبُ فترةُ الحدادِ دعماً روحياً من أشخاصٍ مختصّين، ويجبُ أنْ ندعَمَ أهلَ المريضِ، وليس المريضُ فقط. فالأهلُ الذينَ سيخسَرُونَ بعدَ فترةٍ قصيرةٍ إنساناً موجوداً بينَهُم. انطلاقاً مِنْ هذا الدَّعمِ الرُّوحيِّ ندعمُ محيطَ المريضِ، وهؤلاء الأشخاص.
فترةُ الحدادِ لا تقتصر فقط على الموتِ. بالحقيقةِ الحدادُ يُعاش بكثيرٍ مِنَ المراحلِ في حياتِنا، فتَغيُّرُ صورةُ إنسانٍ “كاملٍ” في نظرِنا يتطلَّبُ حداداً. والإجهاضُ والطَّلاقُ وبُطلانُ الزَّواجِ وفُقدانُ الثِّقةِ بشخصٍ أو خسارةُ علاقةِ حُبٍّ، جميعُها تتطلّب حداداً.
تُقسم فترةُ الحدادِ إلى خمسة مراحلٍ. الأولى هيَ مرحلةُ ما يُسمَّى بالصَّدمَةِ. وهيَ ما نحياهُ عندما نُبَلَّغُ بفقدانِ شخصٍ عزيزٍ، أو بأنَّنَا مُصابون بمرضٍ خطيرٍ، فأوّل ردَّةِ فعلٍ للإنسانِ طبيعيَّاً هي الصَّدمةُ والرفض.
المرحلةُ الثَّانيةُ هي الغضبُ والنَّقمةُ، أوّلاً على الله وخاصَّةً إذا كُنَّا مؤمنين، فنتّهمه ونُذَكِّرُهُ بكلِّ الأعمالِ الحَسَنَةِ التي قُمْنا بها، والصَّلَواتِ، ونسأًلُهُ: “أَهكَذا تَضرِبُني؟ أَبهذِهِ الضَّربة؟”. ما يجبُ أنْ نَعرِفَهُ في هذهِ الحالةِ أنَّ اللهَ أحبّنا، وأنَّهُ لا يضرِبُ ولا يعاقبُ ولا يُرسلُ الموتَ أو الأمراضَ. فمقولةُ أنَّ “الإنسانَ إِنْ أخطأَ، مَرِضَ” قديمة ٌومغلوطةٌ ولا علاقَةَ لها بالمسيحِ، لأنَّهُ نفاها عندمَا سُئِلَ عن الأعمى “مَنْ أخطأَ أَهوَ أَمْ أبواهُ؟” فأجابَ يسوعُ بأنَّهُ “لا هوُ أَخطأَ ولا أَبواهُ”. لا تُوجد علاقةٌ بينَ الخطيئةِ والمرضِ، كلُّنا أخطَأنا، وهناكَ مَنْ يحيا في الخطيئةِ ولمْ يمرضْ، كما هناكَ من يعيشُ بالبرِّ ويعاني أشدَّ الأمراضِ.
ثالثُ مرحلةٍ هيَ التَّفاوضُ مَعَ اللهِ. أَيْ أنَّنا نطلُبُ أن يُعيدَ لنا الصِّحةَ أو الفقيدَ كي نعودَ لأعمالِنا الحسنة. وتتَّضحُ هذهِ المرحلةُ من خلالِ التَّعابيرِ المــُستخدمةِ أثناءَ وداعِ الأشخاصِ الرَّاقدين، مثلاً عندما نقولُ “يا ربُّ أنهِضهُ الآنَ، فالحياةُ تليقُ بِهِ”، وما هنالك من كلماتٍ ليعيدَهُ اللهُ لنا، وهنا تحصلُ المزايدةُ مَعَ الله. أو أنْ نطلبَ الشفاءَ من الأمراضِ مقابلَ عملِ ما يتطلّبُه التَّديُّنُ مِنَّا بشكلٍ طبيعيٍّ، كزيارات الحجّ للقدَّيسينَ، أو تقدماتٍ للفقراءِ وغيرها. وهذهِ كلِّها تدخلُ ضمنَ المفاوضاتِ معَ الرَّبِّ ” إنْ لم تلبِّ طلباتي فلن أعودَ للصَّلاةِ، وسأقطَعُ علاقتي بكَ وبالكنيسةِ”، وكأنَّ اللهَ هوَ المسؤولُ عن هذا الحزنِ.
المرحلةُ الرَّبعةُ هي الانهيارُ، أو ما يُسَمَّى بالإنهيار العصبيِّ، والذي يصابُ بهِ الإنسانُ، وتتفاوتُ حدَّتُهُ من شخصٍ لآخرَ. فهناكَ أشخاصٌ يعانونَ الانهيارَ لأسابيعَ وأشهرَ وحتَّى سنواتٍ وأحياناً مدى الحياةِ، وقد تنتهي فترةُ الحدادِ عمليَّاً، إلَّا أنَّها تستمرُّ روحيَّاً.
أمَّا المرحلةُ الخامسةُ والأخيرةُ فهيَ المرحلةُ الأهمُّ، والتي بها نُدرك بعدَ كلِّ المراحلِ أنْ لا شيءَ يتغيَّر، فإمَّا نقبلُ الواقِعَ الذي نحنُ فيهِ ونواجههُ، أو نستسلمُ. أثبتَ العلمُ تأثيرَ الحالَةِ النَّفسيَّةِ على جهازِ المناعةِ لدى الإنسانِ. فهناك أُناسٌ يبقى المرضُ منتشرٌ في أجسادِهم و يبقَونَ على قيدِ الحياةِ نتيجةَ رفضِهِم للواقعِ، وهناكَ أشخاصٌ ينتشرُ المرضُ في جسدِهِم بشكلٍ سريعٍ وينتقلُونَ من هذهِ الحياةِ بسرعةٍ لأنَّهم استسلموا. ويجبُ في هذهِ المرحلةِ الأخيرةِ أنْ يشعرَ الإنسانُ المحزونُ أنَّهُ أصبَحَ بحالٍ أفضلَ.
ليسَ بالضَّرورةِ أن يمرَّ الإنسانُ بهذهِ المراحلِ جميعِها، أو أن تكونَ بهذا التسلسل، فقد يصلُ المرحلةَ الأخيرةَ في آخر حياتِهِ. فبعضُ النَّاسِ يعانونَ الصَّدمةَ دونَ غضبٍ، ويبدأون بالاستسلام.
نحنُ في عيدِ الفصحِ نقولُ: “قامَ المسيحُ من بينِ الأمواتِ ووطئَ الموتَ بالموتِ وَوهبَ الحياةَ للَّذينَ في القبورِ”، ولكنَّ السُّؤال يبقى؛ هل نصدِّقُ كلمةً ممَّا نقولُ؟ مَنْ يؤكِّدُ لنا بأنَّ المسيحَ قامَ؟ مَنْ الذي ذهبَ وعادَ ليُخبِرَنا بأنَّه وطئَ الموتَ بالموتِ؟ أي أنَّهُ لمْ يعُدْ للموتِ كلمةٌ أخيرةٌ، ويصلُ الإنسانُ لمرحلةٍ يقولُ بأنَّ اللهَ هو من أرادَ هذا، وهوَ الذي كتبَ ما كُتِبَ لنا في حياتِنا، وإلى ما هنالكَ من تعابير.
وفي كلِّ حياتِنا نتكلَّمُ عن القيامةِ، ونذكُرُ في قانونِ الإيمانِ بأنَّنا “نترجَّى قيامةَ الموتى والحياةَ في الدَّهرِ الآتي”. ماذا يعني لنا التَّرجِّي بقيامةِ الأمواتِ؟ أهذا أملٌ أم رجاءٌ؟ الأملُ يمكنُ أن يتحقَّقَ، بينما الرَّجاءُ هو الإيمانُ الأكيدُ. نحنُ نترجَّى أي نحنُ نؤمنُ إيماناً أكيداً بأنّه هناكَ قيامةٌ للأمواتِ وهناكَ حياةٌ أبديَّةٌ.
مؤسفٌ ما نسمعُهُ من المسيحيِّينَ من أفكارٍ، فبعدَ ألفَي سنةٍ هناكَ أشخاصٌ يدَّعونَ المسيحيَّةَ ولا يؤمنونَ بالقيامةِ، أو بالحياةِ الأبديَّةِ. لا يؤمنونَ بقيامةِ الرَّبِّ يسوع، لذلكَ فإنَّ الكنيسةَ واضحةٌ جدَّاً من هذه النَّاحية. الكنيسةُ تُوَدِّعُ أبناءَها بفرحٍ كبيرٍ. الكنيسةُ المشرقيَّةُ تُصلِّي صلواتِ الفِصحِ وأَحَدِ القيامةِ في الجنازةِ.
يجبُ أن نعرِفَ كيفَ نعيشُ مرحلةَ الحداد. جميعُنا مشروعُ حدادٍ ورقادٍ وألمٍ. فتعزيتُنا لا يجبُ أن تكونَ فارغةً من الرُّوح. في الوقتِ الذي نمتلكُ فيه الرجاءَ الكاملَ لنقولَ “المسيحُ قامَ – حقَّاً قامَ”، لا يليقُ بنا القدَّاسُ إذا كنَّا مسيحيِّينَ وغير مؤمنينَ بالقيامة. يجبُ أن ننظرَ إلى المسيحِ وكيفَ واجهَ الموتَ، لِنواجهَهُ نحن أيضاً، ونستمعَ إلى آخرِ سبعِ كلماتٍ قالها يسوعُ على الصَّليبِ؛ ثلاثةٌ منها قبلَ أن تُظلِمَ الشَّمسُ، وَواحدةٌ أثناءَ الظَّلامِ والثلاثُ الأخيرةُ بعدَ الِظَّلامِ. إنَّهُ موضوعٌ روحيٌّ متكاملٌ.
نحنُ نرى مواجهةَ المسيحِ للموتِ مواجهةً جبَّارةً، وعندما نتكلَّمُ عن المسيحِ ومواجهةِ الموتِ نتكلّمُ عن المسيحِ الإنسانِ الكاملِ الذي يشعرُ وَيتعبُ وَيعطشُ وَيجوعُ وَيفرحُ وَيحزنُ، وهوَ الذي على الصَّليبِ كانَ يقولُ الكلماتِ من مُنطَلَقٍ إنسانيٍّ بشريٍّ، وليسَ من مُنطَلَقٍ إلهيٍّ؛ “بينَ يديكَ أستودعُ روحي”، “ولتكُنْ مشيئَتُكَ”، “لقدْ تمَّ”، “أنا عطشانٌ” و”اللَّيلةَ تكونُ معي في الفردوسِ” لِلِصِّ اليمينِ، والأهمُّ من هذا كلِّهِ عندما قال “اغفرْ لهم يا أبتاهُ لأنَّهم لا يعرفونَ ماذا يفعلونَ”.
المصلوبُ يموتُ اختناقاً على الصَّليبِ، ولا يستطيعُ التَّكلُّمَ حتى بصعوبةٍ كبيرةٍ، لأنَّهُ بحاجةٍ لكلِّ نفسٍ، ولكنَّ يسوعَ الإنسانَ صرخَ عن الصًّليبِ: “إلهي إلهي لماذا تركتني؟”. إنَّهُ لعملٌ جبَّارٌ لا أحدَ يستطيعُهُ. علينا أن نقفَ أمامَ الموتِ بنفسِ الطَّريقةِ التي وقفَ بها يسوعُ. ويجبُ أنْ نعرفَ أنَّهُ لا سلطانَ للموتِ عليهِ؛ “أنا قد غلبتُ العالمَ”، “وكلُّ من آمنَ بي وإنْ ماتَ فسيحيا”.
نقولُ “اذكُرْ يا إنسانُ أنَّكَ من التُّرابِ وإلى التُّرابِ تَعودُ” لا نعرفُ من أينَ أتَت هذهِ الآيةُ، نحنُ لم نأتي من ترابٍ، بل خرَجنَا من فيضِ حُبِّ اللهِ. اللهُ فاضَ حُبَّاً كاملاً على الخلقِ، وَأعظمُ ما في هذا الخلقِ هو الإنسانُ، ولن نذهبَ إلى التُّرابِ بل سنعملُ لنلتقيَ بالله.
“إنَّنا للهِ وإنَّنا إليهِ راجعونَ” هذا إيمانُنا، فاذكُر أنَّكَ منَ اللهِ وإلى اللهِ تعودُ.
فمواجهةُ الموتِ الحقيقيِّ هي عمليةُ الدُّخولِ بحالةٍ جديدةٍ، بحالةٍ إيمانيَّةٍ.
كلُّ تعلُّقٍ يُسبِّبُ ألماً. فالحبُّ ينطوي على ألمٍ، إلّا أنَّ الحُبَّ ذاتَهُ هو علاجُ هذا الألم. هناكَ أمرٌ أساسيٌّ لم نعتدْ أن نحياهُ، وهوَ ما يُشوِّه إلى حدٍّ ما إيمانَنا، وقدِ اختصرَهُ جُبران خليل جبران عندما سُئِلَ عن الحبِّ والزَّواجِ بقولِهِ: “وُلدتُما معاً وتظلَّانِ معاً”. أي أنَّ الحُبَّ ديمومةٌ وولادةٌ جديدةٌ. وينهي العبارةَ بقولهِ “ارقصا فرحَين، غنِّيا فرحَين” أي أنَّ الحُبَّ هو فرحُ الحياةِ. “جئتُ لتكونَ لهمُ الحياةُ، لتكونَ لهم بوفرةٍ”، اللهُ جاءَ ليزرَعَ حباً وسعادةً فقط، وليسَ ألماً وعذاباً وقهراً.
أمَّا أعظمُ ما في نصِّ جبرانَ فهيَ عبارةُ “إنَّما اتركا بينكُما بعضَ فسحاتٍ لترقصَ فيها رياحُ السَّماوات”، أي أنَّنا لا يجبُ أن نتعلَّقَ كثيراً بمن نحبُّ من النَّاسِ، بل يجبُ أن نتركَ بيننا مسافةً، إذ لا نعرفُ متى نفقدُ أحدَهُم. والله لا يقبلُ أن نذوَب فيه دائماً، فيردّنا إلى الوراءِ ويترُكُنا على مسافةٍ منه لنتمكّنَ من رؤيته بوضوحٍ، ويتمكّنَ هو من أن يرانا.
نحنُ كُنَّا في رَحِمِ اللهِ، ولم نكنْ نراهُ، كما الطِّفلُ في أحشاءِ أمِّهِ لا يراها ولا يعرفها، لكن عندما يخرجُ إلى الحياة ينسلخ عنها فيتمكَّنُ من معرفَتِها.
لذلك فالوصفةُ النَّاجحةُ في تخطيّ كلِّ أزماتِ حياتِنا تُختصرُ بكلمَتَين؛”الحبُّ المجانيُّ”. لا نستطيعُ تخطِّي فراقَ الأشخاصِ والانسلاخَ عنهم، مثل الطَّلاقِ أو فشلِ الحبِّ، وبنهايةِ هذهِ المراحلِ علينا أن نتعلَّمَ الاستعدادَ للمواجهةِ. فالصَّلاةُ هي استعدادٌ لتحمُّلِ هذه النِّعمةُ التي أعطانيَ الرَّبُّ في كلِّ لحظةٍ.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.