محاضرة للأب جورج رعد،
لقاء تنشئة في المرافقة الروحيّة،
المسيح في حياة المتألّم،
باتت المرافقةُ الرُّوحيَّةُ موضوعاً عالميّاً، ومحطَّ اهتمامٍ مِنْ قِبَل المستشفياتِ والرَّعايا والأبرشيَّات. فقد تطورّت الأمورُ، وأضحَتِ المرافقةُ من الشُّروطِ الأساسيَّةِ في المستشفياتِ لينالوا علامةَ الجودةِ، فباتوا يَطلُبونَ مرشديَّةً روحيةً للاهتمامِ بالمرافقةِ. إلّا أنَّها لم تتحقَّق إلى الآن بشكلٍ علميٍّ، فليس هناكَ مِنْ كهنةٍ مختصّين بالمرافقةِ الرُّوحيَّةِ، أو متطّوّعينَ، بل هناك نقصٌ بعديدِ الكهنة، والَّذين تُختَصَرُ زيارَتهم بدقائق خمسٍ من الصَّلواتِ وإعطاءِ القربانةِ أي المناولة. والمرافقةُ بالحقيقةِ تستلزمُ وقتاً أطولَ، كما تتطلَّبُ زيارةً مِنَ الكهنةِ والعلمانيِّينَ الملزَمينَ والرُّهبانِ والرَّاهباتِ كي يقوموا بها كما يجب، فعاملُ الوقتِ مهمٌّ جدّاً عندما يدقُّ المرضُ ناقوسَهُ.
ولكن لماذا يزدادُ الطَّلبُ على هذا الموضوع؟! هل لأنَّنا نتألَّمُ أكثرَ من ذي قَبل؟! أم أنَّهُ واقعٌ أو وعيٌ زائدٌ؟ وخاصَّةً أنَّ الكنيسةَ تشدّد على أهميَّةِ كرامةِ الإنسانِ منذُ لحظةِ وجودِهِ إلى أَن يلفظَ أنفاسَهُ الأخيرة.
قديماً لم يكنِ المريض بحاجةٍ إلى المرافقة الرُّوحيةِ، إذ أنَّ أكثرَ من خمسةٍ وتسعينَ بالمئةِ مِنَ المرضى كانوا يموتونَ على فراشِهم وفي بيوتهم. فيتكفّلِ المحيطُ العائليُّ بمساعدةِ المريضِ، فلا يشعرْ بهذه الحاجة الملحَّةَ لوجودِ مرافقةٍ روحيَّةٍ، إذ يحاطُ بأهلِ بيتهِ كالزَّوجةِ أو الزَّوجِ والأهلِ والأولادِ والأصدقاءِ والجيران، فيحصلَ بطريقةٍ عفويَّةٍ على الدَّعمِ المطلوبِ ولا يعود بحاجةٍ إلى المرافقة. أمَّا اليوم فـخمسةٌ وتسعونَ بالمئةِ مِنَ المحتضرينَ يموتونَ في المستشفيات، أي أنَّهم باتوا بحاجة لهذه المرافقة. إِذْ فقدَتِ الممرِّضاتُ والممرِّضينَ عموماً الشُّعورَ بالإنسانِ المريضِ، لأنَّهم باتوا يعتبرونَه مجرَّدَ حالةٍ أو رقمَ غرفةٍ، فنحنُ اليومَ نعيشُ بزمنِ الأرقامِ في جميعِ المجالاتِ، والأرقامُ لا تعبِّرُ عن جوهَرِ الإنسانِ، بل تُفقِدُهُ هويَّتهُ. ما دامَ الإنسانُ يدرِكُ أنَّهُ سيموتُ، فلَنْ يرتاحَ أو يهنأَ لهُ عيشٌ. والتَّسمياتُ التي نطلِقُها تدلُّ على خوفِ الإنسانِ مِنَ الموت. أمَّا المؤمنُ فلا يَعُدْ خائفاً مِنَ الموتِ، بل حتَّى لا يسمِّيهِ موتاً.
“أينَ شوكتُكَ يا موتُ؟ وأينً غلَبَتُكَ يا جحيمُ؟” “شوكةُ الموتِ انكسرَت وأبوابُ الجَحيمِ أُغلِقَت.”
يقولُ القدِّيسُ بولسَ: “أيُّها الأخوةُ لا أُحبُّ أَنْ تَجهَلوا ما يختصُّ بالموتِ، ولا تحزَنوا كَمَنْ لا رجاءَ لهم.”
فنحنُ المؤمنينَ نؤمنُ بالرقاد، وكلمةُ “رقاد” تعني “فِصْح” بالعبرية أي “فِشح”، ومعناها “عبور”. فالإنسانُ يتحاشى استخدامِ كلمةِ “موت”، بل يقولُ “نهايةُ حياةِ الإنسانِ”. وهناكَ مِنَ التَّعزياتِ ما تحملُ كلماتٍ فارغةً مِن معناها، فالإنسانُ يمكنه أن يواجِهَ الواقعَ الذي هوَ فيهِ، فكلُّ مُصابٍ بالسرطان يعرِفُ أنَّهُ مريضٌ، وهذا ما أثبتَتْهُ الدِّراسات. مِنْ حَقِّ الإنسانِ أَنْ يعرِفَ وضعَهُ ليُنظِّمَ حَيَاتَهُ. فهذا جزءٌ مِنَ الدَّعمِ الرُّوحيِّ، إذْ لربَّما هناكَ أمورٌ يجبُ أَنْ تَعرفَها العائلةُ، كأمورِ الأموالِ والديون وغيرها، على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ.
هناكَ أيضاً مشكلةُ التميّيز؛ بينَ المريض والمعافى، بين المسنِّ والشَّابِّ، وحتى بين مريضٍ وآخر. أَأعطى المسيحُ بشارَتَه لأشخاصٍ معيّنين؟ أو لمجتمعٍ معينٍ؟ الإنجيلُ واحدٌ أحدٌ للجميعِ دونَ تمييزٍ.
إنّ مجتمعنا استهلاكيّ إلى حدٍّ كبيرٍ، فبعضُ المرضى لا يستطيعونَ دخولَ المستشفيات بسببِ الفقرِ وارتفاعِ تكاليفِ الطّبابةِ، وكأنَّ الفقيرَ لا حقَّ له بالعيش. لذلك يجبُ علينا أن نسعى على المستوى الإيمانيِّ، فالمؤمنينَ يلومونَ الكنيسةَ، ولكنَّها لا تمتنع عَنْ أداءِ مسؤوليَّاتها تجاهَ الفقراءِ، ويجبُ أيضاً أنْ ندرك أنَّ علينا لومَ الدّولةِ إذْ أنَّ هذا النوع من المسؤوليَّاتِ يقعُ على عاتِقِها وليسَ على عاتِقِ الكنيسة. نعودُ إلى القاعدةِ الذَّهبيَّةِ التي قالها يسوعُ: “افعلُوا للنَّاسِ ما أردتُم أَنْ يفعلَهُ النَّاسُ لكم.”
هناكَ فَرقٌ كبيرٌ بينَ المرافقةِ الرُّوحيَّةِ والمرافقةِ الدِّينيَّةِ، والدَّعمِ الرُّوحيِّ والدَّعمِ الدِّينيّ. فالدَّعمُ الرُّوحيُّ يعني عطاءً والتزاماً، وحواراً إنسانياً. فهو يحبُّ الصَّمتَ والإصغاءَ وتركَ المجالِ للمريضِ كي يُعبِّرَ عن شعورِهِ الخاصِّ ومخاوفِهِ وتطلُّعاتِه للبعيدِ، فيسألُ نفسَهُ عن معنى حياتِهِ، ويسعى انطلاقاً من مرضِهِ لإيجادِ مكانٍ جديدٍ لهُ في الحياةِ، ومعنىً جديداً لها.
ما معنى الألمِ؟ الألمُ لا معنى لهُ. إنَّهُ عبثيٌّ، فالأطبَّاءُ مختصُّونَ بإزالة الألمِ، إذ لا يجبُ للإنسان أن يتألَّمَ، لأنَّهُ بألمِهِ يعطي معنىً للألم.إننا نعاني في المجتمعاتِ بكثرةٍ من عدمِ توفُّرِ توعيةٍ روحيَّةٍ كافيةٍ لدى الأطبَّاءِ والممرِّضينَ، وحتَّى لدى الكهنوتيين. فكهنوتياً، يُؤدَّى فقط سرُّ مسحةِ المرضِ، بِدونِ المرافقةِ. في حينِ أنَّ عمليَّةَ الدَّعمِ الرُّوحيِّ لا تتطلَّبُ فقط كهنةً ورهباناً وراهباتٍ وعلمانيِّينَ، بل أيضاً طبيباً نفسيّاً وآخرَ جسدياً. الأطبَّاءُ يخفِّفونَ الألمَ النَّفسيَّ والجسديَّ، والدَّعمُ الرُّوحيُّ يعمَلُ على إِعادةِ السَّلامِ الدَّاخليِّ إلى المريض.
الإنسانُ هوَ الكائنُ الوحيدُ الذي يعرفُ أنَّهُ سيموتُ، وأنَّهُ في كلِّ لحظةٍ يَحيَاها يتقدَّمُ خطوةً نحوَ الموتِ على المستوى البشريِّ. أمَّا على المستوى الرُّوحيِّ، فالموتُ هو عمليَّةُ عيشِ الملكوتِ، والدُّخولِ في سرِّ الفصحِ. هذا هوَ العبورُ الحقيقيُّ الذي نحنُ جميعنا بانتظارِهِ.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.