الموت في المفهوم المسيحيّ، 

 للخوري سيمون جبرايل، 

المقدمة:

لا يتشكّى المؤمن في الكتاب المقدس من الموت في حدّ ذاته، إذ يعتبره نهاية الحياة ومحدوديتها، بل يشتكي من الموت قبل الأوان ، من الموت بدون نسل وبدون مستقبل، ومن الدفن في أرض غريبة والانفصال عن الآباء والاجداد. لذلك يركّز الكتاب المقدس اكثر على الحياة.
سأتوقف اليوم فقط عند بعض التأكيدات حول مفهوم الموت عند المسيحيين: (1) خبرة الموت وشموليّته، (2) الموت نهاية لحالة الحجّ، (3) الموت هو نتيجة للخطيئة، (4) الانتصار على الموت، (5) القيامة.

1- خبرة الموت وشموليته
لكل انسان خبراته مع الموت. لا يحاول الكتاب المقدس ان يحوّل انظارنا عنه، بإغراقنا في احلام خادعة. بالموت الانطباع الاوّل هو انّ الانسان بالموت يصبح الانسان غير موجود، لانّ ما يجري بعد الموت يُخفى عن اعين الاحياء. ومع ذلك فالموت ليس فناءً كاملاً. فبينما يوضع الجسد في حفرة تحت الأرض يظّل شيء ما من المتوفي بمثابة اثر له باقٍ في الجحيم، في مثوى الأموات (الشيول). ساد الاعتقاد بأنّ هذا الشيول هو حفرة فارغة او بئر عميق وبأنّه مكان الصمت والهلاك والظلمات والنسيان، يجتمع فيه كل الأموات ويشتركون في نفس المصير البائس. هناك يسلّمون الى التراب والدود فلا يعودوا قادرين ان يعرفوا الله او يحسّوا بمعجزاته ولا يستطيعوا ان يسبحوه. وانّه من بعد عبورهم أبواب الشيول لا يمكنهم العودة منه ابدًا.
لذلك يرى الانسان الحيّ في الموت قوة معادية، وعلى الفور يُعيره وجهًا ويصيّره شخصيّة. فهو الملاك المُهلك الذي يُدخل الناس الى الجحيم. وهو المُنفّذ للغضب الإلهي الذي يدخل الى المنازل لكي يحصد الأطفال. وغالبًا ما تتخذ هذه القوّة التي تزود الجحيم، الذي لا يشبع بالضحايا، ملامح سُفليّة نشتمّ رائحتها الخبيثة في كل مرض وكل خطر يُحدق بنا. ولهذا يرى المريض نفسه مسبقًا في عداد الموتى.
واذا كانت الحياة عطية من الله وبركة منه، فالموت هو القدر المشترك لجميع الناس لانّ عليهم جميعًا أن يموتوا. امام هذه الضرورة المحتومة، لا يسعنا إلاّ ان نشعر بانّ الحياة التي طالما اشتهيناها ليست سوى خير وزائل. فالحياة باطلة طالما انّ الموت هو القدر النهائي وهو واحد للجميع. تولّد حقيقة الموت الأليمة هذه أحيانًا استسلامًا للأمر الواقع. ومع ذلك تذهب فالحكمة الحقيقيّة الى ابعد من ذلك، اذ انها تقبل الموت كقضاء الهي لانّ الانسان المأخوذ من التراب إلى التراب يعود. وهكذا نفهم انّ الوجود البشري هو جوهرياً وجود للموت.

2- الموت نهاية لحالة الحجّ
يسمّي التقليد المسيحي الحياة بين الولادة والموت “حالة حجّ” ويريد بذلك القول بأن خلال هذا الزمن نحن في مسيرة، وبأن هذا الزمن هو زمن القرارات. عكس هذه القناعة يكمن في اعتبار ان كل شيء قد تقرّر مسبقاً. يعني هذا القول: “الموت هو نهاية حالة الحجّ” أنه مع الموت ينتهي الزمن الذي فيه يمكن اتخاذ القرارات، لان لحظة الموت تعطي الحياة قيمتها النهائيّة. ان حياتي التي اعيشها لها قيمة فريدة. لذلك عندما نتذكّر اننا مائتون، نتذكّر أيضًا انّ الفرص لا تتكرر حسب رغباتنا وانّ قراراتنا تصبح نهائيّة، وانّه ليس لنا سوى وقت محدود لتحقيق ذواتنا: ” أُذكر خالقك في أيّام شبابك… قبل ان يعود التراب الى الأرض حيث كان، ويعود النفس الى الله الذي وهبه” (جا 12 : 1، 7).
وقد يتساءل البعض ماذا نقول عن اختبارات عديدة تؤكد إعادة احياء أشخاص اعتبروا مائتين؟ في الواقع هناك تشابه بين هذه الروايات وبين مضامين الرجاء المسيحي في العالم الآخر: الموت كعبور إلى الحياة؛ انفصال الجسد والروح؛ اللقاء مع كائن نوراني، الخ…
تميّز الكنيسة كما يميّز الطبّ بين موت القلب، وموت الدماغ وموت الخلايا. عندما يتكلّم اللاهوت عن الموت ، فهو يقصد نهاية الحياة الحاسمة، تلك النقطة التي لا يمكن بعدها العودة إلى الحياة الأرضية. أمام هذا التحديد، لا يمكن لروايات إعادة الإحياء إلاّ أن تتعلّق باختبارات تمّت على حدود الموت.

3- الموت نتيجة للخطيئة
ان السلطة التعليمية في الكنيسة تعلّم أن الموت دخل الى العالم بسبب خطيئة. فالموت هو امر مناقض لمقاصد الله الخالق وقد دخل العالم كعقاب للخطيئة (راجع تك 2، 17 و3، 19). يقول القدّيس بولس الرّسول: “فكما أنّ الخطيئة دخلت في العالم عن يد إنسان واحد، وبالخطيئة دخل الموت، وهكذا سرى الموت إلى جميع الناس لأنهم جميعاً خطئوا” (روم 5، 12).
يمكننا مع ذلك، بطرق متعدّدة، تصوّر وتفسير العلاقة بين الموت والخطيئة، بأخذنا بعين الاعتبار الاختلافات في فهم عقوبة الخطيئة.
فالتفسير التقليدي ينطلق من افتراض أن إنسان الفردوس الأرضي كان يمتلك، في طبيعته، عطية الخلود قبل السقطة في الخطيئة. لكنه فقد، فقط بسبب الخطيئة، هذه العطية واصبح قابلاً للموت، حاملاً معه في هذا المصير كل الجنس البشري.
في يومنا، نتساءل هل يمكننا تصوّر أن الإنسان لم يكن، في الأصل، خاضعاً لقوانين التحوّل والموت، التي بحسبها تسير العناصر المتبقية في الطبيعة؟ من الناحية النفسية، كيف يمكن تصوّر وتمنّي وجود بلا نهاية؟ ألا تكتسب اللحظات الأخيرة من الحياة قيمة قصوى فقط لأننا نعي نهائية وجودنا الأرضي؟ بكلمات أخرى، هل يشكّل الموت جزءاً من الإنسان، حتى بدون خطيئة؟ وكيف يمكن فهم بولس الرسول عندما اعلن الانتصار على الموت أمام واقع أن المؤمنين يموتون أيضاً؟
لا تكمن المشكلة في الموت بحدّ ذاته، بل في كيفية اختبارنا له. صحيح أن حياتنا محدودة وانه يجب علينا أن نموت يوماً ما، ولكن الأهمّ من ذلك هو في فعل عيشنا اختبار الموت كأمر موجّه ضد حيوية الحياة. انّه عدو الانسان الأخير الذي يجب الانتصار عليه, ولن يكون الانتصار على الموت بإلغائه بل في تحويله.
كان بإمكان إنسان الفردوس أن يمضي لملاقاة الموت بفرح، أن يعيشه كنهاية طبيعية، كفعل حبّ وإخلاص لله، كولادة طوبانية لحياة جديدة. أما الخطيئة، فهي فقدان الحبّ. وإذا لم يتوصّل الإنسان إلى أن يحبّ ويثق، فهو لن ينجح في المضي لملاقاة الموت على أنه اكتماله الخاص. أن يختبر الإنسان الموت بهذه الطريقة هو نتيجة الخطيئة. ليس العقاب إلا الإنغلاق على الذات، المتأتي من الخطيئة، لأن الخطيئة هي “شوكة الموت” (روم 15، 56).

4- الانتصار على الموت
ليس بمقدرة الانسان ان يخلّص نفسه من الموت إذ تلزمه لذلك نعمة الله الذي هو وحده الحيّ بحكم طبيعته. ولهذا عندما يشعر الانسان بسلطان الموت عليه، بأيّ شكل كان، فإنّه لا يستطيع إلاّ ان يصرخ نحو الله. فإذا كان بارًا فإنّه يتشجّع على امل ان الله لن يترك نفسه في الجحيم. وهو يعرف ان القدرة الإلهيّة اقوى من الموت والجحيم. لقد نزل المسيح بكل سلطانه الى الجحيم وواجه الموت في عُقر داره وانتصر عليه في اللحظة التي كان يبدو فيها الموت انّه انتصر عليه.

غالباً ما كان الكلام عن الموت كحتمية تهدّد كل إنسان، بالإضافة الى ارتباطه بالخطيئة، ولم يكن هناك إبراز كافٍ للإيمان بالانتصار على الموت بواسطة الانتصار على الخطيئة الذي تحقق في يسوع المسيح. فيسوع ابن الله قد خضع أيضًا للموت، ولكنّه وعلى الرغم من خوفه منه قَبِلَه في فعل استسلام كلّي وحر لمشيئة ابيه. يفسَّر هذا الموت نفسه كتسليم للذات بين يدي الآب (لو 23، 46)، ك “مضي” إلى الآب (يو 14، 2. 12. 28؛ 16، 7). انّ طاعة المسيح قد حوّلت لعنة الموت الى حياة.
إذًا للموت المسيحي بفضل المسيح معنى ايجابيّ، انه يضمنا اليه في عمل الخلاص. وهذا ما نعنيه بقولنا انّ اتباع يسوع هو “موت مع المسيح” (روم 6، 1-11)، هو تكريس للحياة (يو 15، 13)، ونكران للذات (مر 8، 35؛ يو 12، 25). الموت مع المسيح يقود المؤمن الى قبول التحوّل والتغيير في حياته: “إن حبّة الحنطة التي تقع في الأرض إن لم تمت تبق وحدها. واذا ماتت، أخرجت ثمراً كثيراً” (يو 12، 24). يتحقق “الموت مع المسيح” سريًّا منذ الآن في المعمودية من اجل حياة جديدة ويُتمُّ الموت الطبيعي هذا الموت مع المسيح. ليس هذا مجرّد خطاب مجازي، كما لو أن المقصود به موتاً مختلفاً عن ذلك الذي يتحقّق في نهاية الحياة؛ هذا “الموت مع المسيح” يحجّم أيضاً الموت في نهاية الحياة، إلى درجة يمكن لبولس معها أن يقول بكل ثقة: “سواء حيينا أم متنا فإننا للربّ” (روم 14، 8).
لذلك تعتبر الكنيسة انّ الموت في نهاية الحياة هو تسليم كلّي بين يدي الله وكمال نهائي للحبّ المعاش خلال الحياة. فالحياة الاكثر عمقًا هي تلك التي تُعاش في الحب. والحب يعني إعطاء الذات. فإذا دخلنا في هذا المفهوم للموت اصبح بإمكاننا، كمؤمنين، ان نقبل الموت سواء في آخر الحياة، او خلال مجراها. فالموت يعني الوجود بحب للآخرين وإعطاء الذات كذلك لله، لأن حبّ الله وحبّ الآخرين هما شيء واحد.
وتجدر الإشارة انه لا يمكننا أن نسمّي كل موت أو نكران للذات تكريساً حقيقياً. فيمكن للموت كثيراً أن يكون توقّفاً عبثياً وخسارة الحياة. كما لا يمكننا أن نبرّر لا مبالاتنا أمام الموت غير الحرّ وغير الإرادي لكثير من الأشخاص الذين يموتون بسبب الجوع والحرب فيحرموا من عيش الحب. ان الانتصار على الموت يقود الى الايمان والرجاء في القيامة والحياة ما بعد الموت.

5-القيامة (راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، جونيه، لبنان، 1997، الاعداد: 988 الى 1004).

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp