محاضرة للأب جوزف عبد الساتر،
رئيس دير مار الياس – انطلياس، المتن،
انجيل لوقا (24: 36-48)
استهلّ الأب عبد السّاتر المحاضرة بالأبانا والسّلام، راحة لنفس اختنا باتريسيا شدياق، في الذكرى الاولى لرحيلها
حيث تمّ تجهيز هذا المركز عن روحها. وأشاد برسالة جماعة “اذكرني في ملكوتك”، وبنشاطاتها في الرّعايا وفي المركز، مستنتِجاً من خلال ذلك أنّ أمواتنا أحياء حقّاً ويتواصلون معنا.
وانتقل إلى نص الفصل الأخير من لوقا 24 من الآية 36 إلى الآية 48، ويدور حول ظهور المسيح الأخير – بعد قيامته وقبل الصّعود- للتلاميذ في العليّة، فما عرفوه، فقال لهم، انظروا الى يدّي ورجليّ، أنا هو، وتناول معهم السّمك المشوي. وبين هذا النّص ونص ظهوره لتلميذي عمّاوس تشابه كبير من حيث الطّعام (الخبز المكسور والسّمك المشوي) وكلاهما رمز للإفخارستيا في العهد القديم. فالإفخارستيا والكتاب المقدّس متلاحمان في الكتاب المقدّس، إذ علينا أن نسمع كلمة الله ونعمل بها، ولأنّ المسيح عشيّة العشاء السّري وبعد “الكلام الجوهري”، تقدّم في اليوم التّالي “قرباناً” عنّا. إذ إنّ قراءة الكتاب المقدّس من دون تناول جسد المسيح يحرم المؤمن من معرفة المسيح معرفة عميقة حقّة فيفسّره على هواه، فعلينا إذا أن نقرأ الكتاب من خلال “تناول” جسد ودم الرّب، وبناء هذه العلاقة معه، ليوضّح لنا حقيقة يسوع المسيح، من دون اجتهادات خارجيّة. وأعطانا الأب مثل الخاطبين والمتزوّجين أي اكتشاف الآخر بالكلمة أوّلاً وبالجسد ثانياً. فبالإفخارستيا والكلمة معاً يتوصّل المؤمن إلى معرفة يسوع ولمس حضوره في الجماعة وفهم الأحداث التّاريخيّة التي جرت مع يسوع المسيح كالموت والقيامة، من خلال شغف دائم وتوق إلى الإتّحاد بيسوع المسيح.
وأوّل ما يقوله المسيح للجماعة في العليّة هو: “السّلام لكم”، وهي أولى عطايا القائم من الاموات، إذ عيش حقيقة القيامة، هو العيش بسلام، وإلاّ فجراحك ما زالت تنزف ولم تبرأ، ولكن تعاليك عن هذه الجراح هو ذلك السّلام وهو الذي يكمن فيه أجرك في السّماء، من خلال اعتباره صليبك وحمله بسلام.
المسيح هو القائم من الموت بعد عذاب كبير من قبل بطرس الذي أنكره، والجنود الذين ضربوه وعنّفوه، لكنّه بسلامه، غفر وأحبّ وملأ قلوب التّلاميذ سلاماً ما، يرذل العنف، لأنّ العنف ليس من شيم المسيح ولا من منطقه، ولأنّه لا يجلب إلاّ العنف.
“فأخذهم الفزع والخوف وظنّوا أنّهم يرون روحاً”، فبرغم السّلام الذي أتى به المسيح إليهم، والذي يمكن له أن يخلّع أبواب الجحيم النّحاسيّة، وان يفكّ قيود انقباض التّلاميذ الخائفين، ظلّوا يظنّونه شبحاً مخيفاً، باعتباره وهماً مزيّفاً، او لخوفهم من ألم الفقدان مجدّداً؛ إذ إنّ السّلام الذي يجلبه المسيح لا يمكن أن يعمل فينا ما لم نجازف ونؤمن، لأنّ الإيمان متى وقع تحت حكم العقل صار مجازفة، ومن هنا مقولة القدّيس “أوغسطينوس” الشّهيرة: “يقوم الإيمان على أن ترى ما لا يرى، وجزاؤه هو أنّك سوف ترى ما آمنت به”. فالإيمان لا يقدّم أيّة ضمانة ملموسة أو حسيّة ويجعلنا نعيش قلقاً، وتكمن صعوبته في تصديق ما يخرج على قواعد العقل والمنطق: “آمن كي تفهم”.
معرفة المسيح بعد القيامة هي معرفة “إيمانيّة”، تماماً كما عرفه “بولس” من دون أن يراه، وكما عرفته “مريم”. فالقيامة إذاً حدث تاريخي يختبره المؤمن من خلال لقائه بيسوع القائم في حياته اليوميّة. فبقيامة المسيح صار لنا الخلاص، فسلام المسيح يمكن له أن يخيفنا وأن يجعلنا نخشى ترك خطيّتنا التي مصدر سعادتنا، لأنّنا منذ البدء، لم نجعل سعادتنا ورجانا في المسيح، الذي، أكثر من أيّة خطيئة، يمكن له أن يعزّينا، ويسعدنا. ويشير الاب إلى أنّ مفاعيل الفداء وسلامه لا ينتهي عند القيامة بل يمتدّ إلى كلّ النّاس حتى يعمّ السّلام كلّ المسكونة.
سلام المسيح سلام بنوّة صالحنا بالآب السّماوي وهيّأنا أن نكون له أبناء، وهو فعل جهاد مستمرّ ومسؤوليّة عظيمة، أخافت التّلاميذ وتخيف كلاًّ منّا، لأنّ قوّتنا وحدها لا تكفي لتحمّل هذه المسؤوليّة، ولكنّ نعمة الرّب تساعدنا، إلى التّحوّل بعد الموت من أجساد إنسانيّة إلى أجساد روحيّة، كما قام المسيح حقّاً بالجسد والرّوح، ولكن ليس كيسوع التّاريخي كما قام لعازر وغيره ممّن أقامهم المسيح بنعمة الرّب، بل كيسوع الإله القائم إلى الأبد بجسد ممجّد غير قابل للموت، كحالة آدم قبل الخطيئة.
وانتقل التّلاميذ من حالة الحزن إلى حالة الفرح، وهي حالة مقلقة أيضا، لا تعطي للإيمان ركيزة صامدة بل يختفي ويضمحلّ الإيمان في أوّل سقوط في الكآبة، بل هو صبر، ونضال، وحالة تتلمذ مستمرّة بعيداً من الشّك والخوف.
” هل عندكم شيء يؤكل؟ “: لم يكن المسيح بحاجة إلى طعام بعد القيامة، ولكنّه أراد أن يؤكّد ويبيّن للتّلاميذ قيامته بالجسد والرّوح معاً، واستخدم لأجل ذلك العناصر نفسها: “السّمك”، الرّمز الإفخارستي، ومن أجل الغاية نفسها، هنا ومع تلميذي عمّاوس، وفي البرّيّة: ” الإيمان”.
ونوّه الأب إلى أنّ قراءة الإنجيل النّسبيّة فيها تجديف على الرّوح القدس في جعل الخير شرّاً، والشرّ خيراً، لأنّ الكتاب المقدّس دستور حياة يجب أن يُقرأ في ضوء تعاليم الرّب وشرح الكنيسة والقدّيسين، وأيّ تفسير خارج عن هؤلاء هو عجز عن الفهم الحقيقي للكتاب المقدّس.
وختم الأب جوزف بتشديد على شفاعة المسيح، والشّهادة لاسمه حتى بلوغ بذل الذّات من أجله، والتّبشير بكلمته، في كلّ زمان ومكان وإطار، ابتداء من أورشليم الميلاد وانتهاء بأورشليم الموت والقيامة.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.