محاضرة للخوري جوزف سلوم، 

 الاجتماع السنويّ لمسؤولي الجماعة في الرعايا وأعضاء اللِّجان،
مؤسَّسة مار مخائيل الاجتماعيّة – سهيلة.

بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي،

في العهد القديم، أوصى الله شعبه بمحبّته أوّلاً، فنقرأ في سِفر تثنية الاشتراع: “إِسمَعْ يا اسرائيل: إنَّ الربَّ إِلَهَنا هو ربٌّ واحد. فأحْبِب الربَّ إِلَهَكَ بكلِّ قلبِكَ وكلِّ نفسِك وكلّ قوَّتِكَ” (تثنية 6: 4-5)، ويضيف الله قائلاً، في سِفر الأحبار: “ولا تنتَقِم ولا تَحقِد على أبناءِ شعبِكَ، وأَحْبِب قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ: أنا الربّ” (أحبار 18: 19). إذًا، إنَّ وصيّة المحبّة في العهد القديم، مؤلَّفة من قِسمَين: محبّة الله أوّلاً وثمّ محبّة القريب، ولكنَّ الربَّ يسوع في العهد الجديد قد جمع هاتَين الوصيّتين في وصيّةٍ واحدة وهي محبّة القريب على مِثال محبّة الله لنا. في رسالته الأولى، يقول لنا يوحنّا الرَّسول: “الله محبّة: فَمَن ثَبَتَ في المحبّة، ثَبتَ في الله وثَبَتَ الله فيه”(1 يو4: 16)، ويضيف الرَّسول قائلاً: “فإنَّ الله أحبَّ العالم حتّى إنّه جادَ بابنِه الوحيد لكي لا يهلك كلُّ مَن يؤمِن به، بل تكون له الحياة الأبديّة”(يو 3: 16).

ليست المحبّة مجرَّدَ وَصيّةٍ على المؤمِن تطبيقها بحرفيّتها، بل هي جوابُ هذا الأخير على عطايا الله الكثيرة له. إنّ الله قد ترك سماءه وجاء لملاقاتِنا، فعلَّمنا الحبّ من خلال تقديم ابنه، ربّنا يسوع المسيح، ذبيحةً عنّا على الصّليب. إنّ عالمنا اليوم، يُعاني من الحقد والكبرياء والحسد، وسِواها من الرذائل، الّتي تعكِسُ موت المحبّة في قلوب البشر. لقد فقَدَتِ المحبّة كلّ معانيها في مجتمعاتِنا، إذ أصبحنا نستخدمها للتعبير عن محبّتنا للأشياء وللبشر على حدٍّ سواء، فنقول على سبيل الـمِثال: أحبُّ وطني، أحبُّ المال، أحبُّ هذا العَمل، أحبّ هذا الطّعام، وأحبُّ هذا الحيوان الأليف أو ذاك، وأحبُّ أصدقائي. وما هذا الخلط في استعمال كلمة “أُحبّ” إلّا دليل على اضطراب العلاقات الإنسانيّة بين البَشر، إذ تُعاني هذه الأخيرة مِن مَرَض البَرَص، إذ أصبحنا نخاف من الاقتراب من الآخَرين ومخالَطَتِهم، ونفضِّل الانعزال عنهم، ومقاطعتهم في وسيلةٍ لإقصائهم عن حياتنا. إنّ علاقاتنا الإنسانيّة مريضة: إذ يسارع الأخ إلى مخاصمة أخيه لأبسط الأسباب، كما يسارع المؤمِن إلى ترك الجماعة الّتي قرّر الانتماء إليها لِعَدم تسليمه مسؤوليّة فيها، رافضًا سماع كلام التوبيخ أو التَّعليم من الأكثر خِبرةً منه. إذًا، لنَعترِف إخوتي، أنَّ علاقاتنا البشريّة مريضة، وما الاعتراف بالمرض إلّا خطوةٌ نحو العلاج، الّذي لا يستطيع مَنحه للإنسان إلّا يسوع المسيح، لأنّه هو الحبّ القادر على شِفائنا من كلِّ أمراضِنا، بلمسةٍ منه.

إنَّ تاريخنا البشريّ يشهد على توتُّر العلاقات بين الإخوة، والكتاب المقدَّس يقدِّم لنا نماذج متعدِّدة، ولكنّنا سنتوقّف عند خمسة نماذج فقط: ثلاثةٍ من العهد القديم واثنين من العهد الجديد. النّموذج الأوّل هو من العهد القديم، وهو علاقة قايين بأخيه هابيل (تك4).كان قايين فلّاحًا في الأرض، أمّا هابيل فكان راعيًا. واتّفق أنّه في أحد الأيّام، قدَّم الأخوان ذبيحتَيهما للربّ من نِتاج أعمالهما، فقدَّم هابيل من أبكار مواشيه في حين قدَّم قايين من منتوجات أرضِه. ولكنّ الربّ نظر إلى ذبيحة هابيل دون ذبيحة قايين، ممّا أدّى إلى غضب قايين، فقرّر قَتل أخيه. بعد ارتكابه الجريمة، سأل الربّ قايين عن أخيه، فكان جوابه أنّه ليس مسؤولاً عن أخيه. إنَّ هذه العلاقة بين هابيل وقايين تشكِّل مِثالاً صارخًا عن العلاقات بين بعض الإخوة، إذ فَقَد مجتمعنا فَهمَه لسِرِّ الأخُوَّة، فتحوّلت علاقات المحبّة بين أفراد العائلة الواحدة إلى علاقات عداوة، مبنيّة على الحَسَد والخصام بسبب الممتلكات الأرضيّة وأمورٍ زائلة، واستُبدِلت كلمات المحبّة بكلمات جارحة قاتلة وهدَّامة للنُّفوس. إنّ الربّ يدعونا من خلال هذا الـمَثل كي نكون حُرّاسًا بعضًا لبعض، فنَنْتَبِه لمشاعر بعضنا البعض، فلا نفرح عند سماعنا بتَعرُّضهم للشّرور فنتناقل خطاياهم وننشرها، بل نفرح لعودتهم عن طريقهم الخاطئة، وإعلان توبتهم.

ويقدِّم لنا الكتاب المقدَّس مِثالاً آخر على الأُخوّة المجروحة من خلال علاقة عيسو بأخيه يعقوب (تك22). كان إسحَق ابن ابراهيم، متزوجًا مِن رِفقا، وكان لهما ابنان، هما: عيسو ويعقوب. وكان عيسو مختلفًا من حيث المظهر والتصرّف، عن أخيه يعقوب: إذ كان عيسو، الابن البِكر لإسحَق، رجلاً كثيرُ الشَّعر، وبارعًا في الصَّيد؛ في حين أن أخاه الأصغر، يعقوب، كان رجلاً قليلَ الشَّعر، ويسكن في الخيام ويهوى الطَّبخ. لقد بدأ الصّراع بينهما منذ يوم ولادَتهما، إذ كانا توأمَيْن، وقد تنافسا على مسألة البكوريّة، فكان فوز عيسو على يعقوب إذ نجح عيسو في الخروج أوّلاً من حشا والدتهما. للابن البِكر امتيازاتٌ عديدة، منها حصوله على البَركة الابراهيميّة، وحصوله أيضًا على ميراث أبيه. لم يَفهم عيسو أهميّة هذه الامتيازات، فباع بُكوريّته لأخيه يعقوب مقابل صَحنِ عَدَسٍ. ولكنّه نَدِم على ذلك إذ استشاط غيظًا عندما أدرَك أنّ أخاه يعقوب قد تمكّن من الحصول على البركة الابراهيميّة من خلال خِداعه لوالِده الّذي كان يُعاني من شِحٍّ في نظره نتيجة تقدُّمِه في السِّن، فقرّر عيسو قَتل أخيه يعقوب. 

عندما أدرَكت رَفقا نوايا عيسو، طلبت من ابنها يعقوب الهروب، ففعل. وقد شعر يعقوب بالعَظمة والقوّة عندما نَجح في سَرِقة البَركة الابراهيميّة من أبيه، وتمكّن من الإفلات من أخيه، ولكنّ الله أراد إعطاءه دَرسًا هو أنَّ قوّة الله تفوق كلّ قوة بشريّة فتصارع يعقوب مع الله وانهزم في هذا الصِّراع، وترك له الله علامةً على هذه الخسارة فكانت إصابته في وَرِكه. بعد انتهاء معركته مع الله، سجد يعقوب للربّ سَبع مرّات، وعندما انتهى من السُّجود، رأى أخاه عيسو مُقبلًا إليه، فتعانق الأخوان وتصالحا، فقال يعقوب لأخيه إنّه رأى وجه الله في وَجه أخيه. إنّ الله لا يشجِّع على الخلافات بين البشر، بل يدعونا إلى المصالحة وإلى رؤية الله في وجوه إخوتِنا.

وإليكم مِثالٌ أخير على صراع الإخوة، من العهد القديم، وهو صراع يوسف مع إخوته. كان ليعقوب اثنا عشر ابنًا، وكان يوسف أصغرهم. وقد خصّ يعقوب ابنه يوسف بمحبّة مميّزة، فحاكَ له قميصًا مميَّزًا، وكان يوسف يرعى الغنم مع إخوته، وقد اشتهر برؤيته للأحلام الّتي تُظهِر تفوُّقه في العظمة على إخوته. إنَّ محبّة يعقوب ليوسف، إضافةً إلى أحلام يوسف، أدّتا إلى إشعال الغَيرة والحَسد في قلوب إخوته، فقرّر إخوته التخلُّص منه، فباعوه للإسماعيليِّين. فذبح أبناء يعقوب الأحد عشر وحشًا بريًّا ولطّخوا قميص أخيهم يوسف بدَم هذه الذبيحة، وأخبروا أباهم أنّ وحشًا بريًّا قد هجم على أخيهم يوسف، وافترسه. بعدما حلّت المجاعة في أرض يعقوب، جاء إخوة يوسف إلى مِصر طالبِين الطّعام، ولكنَّ يوسف لم يعامل إخوته معاملةً سيئة على مِثال معاملتِهم له في الماضي، بل عاملهم بالحُسنى مُعطيًا إيّاهم مُرادهم من الطّعام. إنّ عالمنا اليوم يفتقر إلى عيش شريعة المحبّة إذ إنَّ الشريعة السائدة فيه هي شريعة “العَين بالعَين، والسِّن بالسِّن”. إنّ الربّ يدعونا من خلال هذا الـمَثل لكي نكون أبطالاً في عَيْشنا لسرِّ الأُخُوَّة، فنعامل بعضنا البعض معاملةً حَسَنَةً على الرُّغم من الأذيّة الّتي نتعرَّض لها من قِبَلِهم.

أمّا الآن، فننتقل إلى العهد الجديد، لنتوقّف عند مشهَدين للأُخوّة المجروحة: المشهد الأوّل هو مَثل الابن الضّال
(لو 15). لقد أعطى يسوع هذا الـمَثل، جوابًا للفرِّيسيِّين عند اعتراضهم على مسألة دخول المسيح إلى بيوت الخطأة ومجالستهم. في هذا الـمَثل يُخبرنا يسوع عن فَرحة الأب بعودة ابنه الأصغر إلى المنزل، بعد طُول غيابٍ، كما يُظهر لنا أهميةّ الحريّة والاستقلاليّة اللّتين يُعطيهما هذا الأب لاِبْنَيه. في هذا النّص، نلاحظ أنَّ الأب قد خرَج لملاقاة ابنه الأصغر العائد من السَّفر، كما نلاحِظ خروج أبيه لملاقاة ابنه العائد من العمل في الحقل. إنّ عبارة “بلدٍ بعيدٍ” الّتي استعملها الإنجيليّ لوقا في وَصفه لمكان تواجد الابن الأصغر، لا تدلّ على مكانٍ جغرافيّ، بل على الخطيئة الّتي تجعل الإنسان في مكانٍ بعيدٍ جدًّا عن الله. 

إنّ النَّصّ يقول لنا إنّ الأب قد رأى ابنه الأصغر عائدًا من بعيد، وذلك للإشارة على أنّ الله يبقى قادرًا على رؤيتنا مهما ابتعدنا عنه بسبب الخطيئة، فالخطيئة عاجزةٌ عن إبعادِنا عن نَظَر الله. عندما خَرَج الأب لملاقاة ابنه الأكبر، خَلع الابن الأكبر صِفة الأخوّة عن أخيه الأصغر، قائلاً لأبيه: “إنّ ابنَك هذا”. هذا ما نختبره نحن أيضًا في الكثير من علاقاتِنا مع إخوتِنا البشر، إذ نتنكَّر لأُخوّتنا لهم، رافضين مشاركتهم لنا، عازِلين إيّاهم من جماعاتنا. إنَّ الإنجيل لا يُخبرنا عن الموقف النِّهائي للابن الأكبر، لأنّ هذا الابن يرمز إلى كلِّ مؤمنٍ منّا، الّذي يتوجَّب عليه اتِّخاذ القرار إمّا البقاء خارج البيت أي بعيدًا عن الله، وإمّا الدُّخول إلى البيت ومشاركة الله وليمته السماويّة. إخوتي، علينا السَّعي الدائم للعودة إلى بيت الله الآب، وكذلك السَّعي لإرجاع إخوتنا البَعيدين عن الله، فنتشارك جميعًا في الوليمة السماويّة، مع الله الآب، فنكون جماعةً على حسب رِضى الله.

إنَّ الخلافات بين البشر لا تحصل فقط بين الرِّجال، بل تحدث أيضًا في الجماعات النِّسائية، وإليكم مِثالاً حيًّا عن ذلك من العهد الجديد، وهو علاقة مريم ومرتا (لو 10: 38-42). إنّ مرتا ومريم هما أُختا لِعازَر، الّذي أقامه يسوع من الموت. عندما عَلِمَت الأختان بمرور يسوع في قريتهما، اجتهدتا على تهيئة المكان لاستضافة يسوع والجموع الّتي كانت ترافقه. إنّنا مدعوّون جميعًا كي نجعل من بيوتنا بيوت ضيافة، حاضرةً لاستقبال الربِّ فيها. عند وُصول يسوع إلى منزلهما، استقبلته كلّ مِن الأختين على طريقتها، فانهمكت مرتا في الخدمة من خلال الاهتمام بالضيوف، في حين أنَّ مريم اختارت الجلوس على قدميّ يسوع والاستماع له. لكلِّ مؤمِنٍ طريقته الخاصّة في استقبال يسوع، وهذا ما نختبره في الجماعات الكنسيّة فنجد أنَّ في الجماعة الواحدة، هناك مَن يشعر بالفَرح حين يقوم بالخدمة على مِثال مرتا، بينما آخرون يجدون فرَحهم في الاستماع إلى يسوع والتكلُّم معه، أي من خلال الصلاة، على مِثال مريم.كانت مريم جالسةً عند أقدام يسوع في حركة تتلمُذٍ وإصغاء وتوبة. لا تستطيع أيّة جماعةٍ كنسيّة إكمال مسيرتها نحو الربّ إن لم يتوفّر فيها هَذان الوجهان: وجه الصّلاة ووجه الخدمة، فهذان الوجهان يُكمِّلان بعضهما البعض.

مع انطلاقة الكنيسة، لم تختفِ تلك الخلافات بين البشر بل استمَّرت، فالكتاب المقدَّس يُخبرنا عن خلاف ابنَي زبدى على سبيل الـمِثال مع بقيّة الرُّسل حول أحقيّة الجلوس عن يمين الله وعن يسارِه في الملكوت. كما اختلف الرُّسل أيَضًا حول موضوع: مَن هو الأكبر في الملكوت. وبعد قيامة الرُّسل، ذهب بطرس ويوحنّا لمعاينة القبر الفارغ، وقد تسابَقا على ذلك، فدَخل يوحنّا أوّلاً.
كي نتمكّن من عيش المحبّة الّتي يريدها يسوع في جماعاتنا، علينا الالتزام بالشروط التّالية:
أوّلاً، إنّ محبّتنا للآخرين تفترض منّا القيام بمبادراتٍ تِجاههم.
ثانيًا، على محبّتنا أن تكون منسجمة مع نشيد بولس (1كور 13)، فتتحمّل كلّ شيء، وتصبر على كلِّ شيء، وتفرح بالحقّ.
ثالثًا: إنَّ المحبّة تتطلّب منّا مسامحة الآخَرين على أخطائهم، واختبار الغفران مع بعضنا البعض.
رابعًا: المحبّة تُصدِّق كلّ شيء. إذًا، المحبّة مبنيّة على الثِّقة بكلام الآخر.

إنّ المحبّة الّتي تُعاش وِفق هذه الشُّروط، لا بُدَّ لها أن تكون محبّة متَّقدة، فتتشوّق للقاء محبّة وسلام يجمع بين أعضائها، إذ يشعر أعضاؤها بأنّهم عائلةٌ واحدة.
“ما مِن حبٍّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه”(يو 15: 13)، هذا هو جوهر المحبّة، وهذا ما يدعونا إليه ربّنا يسوع المسيح. ويضيف الربّ قائلاً لنا: “بهذا يعرف العالم أنَّكم تلاميذي، إذ أحبَّ بعضكم بعضًا” (يو 13: 35). إنَّ المحبّة هي العلامة المسيحيّة، الّتي ترمز إلى الحياة السماويّة، ففي السّماء لا يوجد إلّا الحبّ أي يسوع المسيح، وجميع سكّان السّماء يتعامَلون مع بعضهم البعض بمحبّةٍ. وبالتّالي، عندما تسود المحبّة على هذه الأرض، تتحوّل أرضنا إلى سماءٍ جديدة.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp