محاضرة للأب ألبير عساف المريميّ،
لقاء تنشئة في مرافقة المرضى،
علم الأخلاق أو علم الآداب،
بعد تلاوة الأبانا والسّلام إثر صلاة خاصّة به، استهلّ حديثه بالتّذكير بخلفيّته العمليّة والعلميّة وظروف تدريسه في إحدى الجامعات اللبنانيّة.
أوّل ما علم الأب عسّاف برغبتنا كجماعة في التّكلّم في موضوع كيفيّة مرافقة المرضى المشرفين على الموت، غمرته سعادة كبرى لرؤية هذه النّعم في الكنيسة في لبنان، ومداخلات الرّب الكريمة هذه، في مجتمع بدأ يفقدها على مختلف الأصعدة.
لذا، بدأ حلقته الأولى بالتّكلّم على الأدبيّات أو الأخلاقيّات عامّة، حتى ينتقل فيما بعد إلى أخلاقيات وأدبيات المرافقة. ففي ظلّ مجتمع يؤلّه الجمال، والصّحّة، ويحتقر القبح، والضّعف، وتفكّك الإنسان، ويرذل الإنسان الذي لا قيمة له بنظره، إمّا لأنّه عجوز، أو مريض، أو من ذوي الاحتياجات الخاصّة، وهذا ما نراه في المستشفيات، والمآوي، ودور العلاج المختلفة.
إنّ أكثر ما يحزن، هو استهتار النّاس، واستخفافهم بالمرضى وبحالتهم النّفسيّة الدّقيقة: كأن تسمع طبيبا يعرّف بقسم الأشخاص النّباتيين في المستشفى حيث يعم ، وهم عادة يحيون على الماء والآلات، بأنّه قسم “إيكزوتيكا”، وهو اسم أحد أكبر المشاتل في لبنان. فإن أنا أعطيت نفسي الحقّ باحتقار أيّ إنسان في آخر حياته، سمحت لنفسي بقتله في أوّل حياته. فطرفا الحياة : بدايتها ونهايتها، يقسمان أيّ مجتمع أكثر من قسم.إذ إنّ مكان وجود المسيح، أي الحقّ، لا بدّ أن يشطر لأنّ الحقّ يشطر المجتمعات، والفئات، والجماعات أقساما مختلفة: معه، أو ضدّه، أو بين بين، وغيرها من الاحتمالات.
فالحياة المسيحيّة وحدة متكاملة، لا تنحصر في مجال الكنيسة فحسب، بل في العمل، والتّصرّف، والتّواصل. فأي مسيحيّة نعيش؟ وأين هي الكرامة الانسانية؟ وعن أي رب نتكلّم، ونحن نسخر من الإنسان وآلامه، هو المولود على صورة الربّ ومثاله؟
لذلك، اختار الأب أن تكون الانطلاقة من علم الآداب أو الأخلاقيّات.وهذا العلم هو أوّلا، نابع من تقاليد وقواعد تصرّف تنتمي في الأساس إلى مجموعات كبرى، كالمجتمعات، والقبائل، والفرق.وينظر هذا العلم، بشكل مباشر، إلى التّصرّف الإنساني اليوم، وإلى الخيارات الوجوديّة، وهو مرتبط ،عفويا، بالعادات الاجتماعيّة، والمبادئ العامّة، والقيم الأخلاقيّة والأدبية والدّينيّة والمرجع الأساس لهذا العلم هو: الخير والشر. إذ إنّه يشجّع، ويدفع على الأوّل، ويرفض ويبعد عن الثّاني؛ وهذا هو الدّور النّبوي في الخلاص: أي إن الأنبياء كانوا يسعون إلى دفع الناّس إلى الخير، وتحذيرهم وإبعادهم عن الشّر، حتّى ولو اضطرهم الأمر إلى مواجهة الأشرار بالحقيقة لتغييرهم؛ كما هي الحال في قصّة النبي والملك داود والراعيين والنّعاج، حيث سلب الرّاعي الذي يملك مئة نعجة، نعجة الرّاعي الفقير الوحيدة ليقيم وليمة كبرى. فانتفض الملك داود قائلا إنّ الأوّل يستحقّ القتل؛ فقال له النّبيّ عندها إنّ هذا الرّاعي الطّمّاع القاسي، يمثّله نفسه. ويعالج علم الأخلاق ما يجب أن يعمل، لا ما عمل، كما يفترض “حريّة العمل” أو “حريّة التّصرّف”، إذ لا فضل في عمل نكره عليه، أو نجبر به، أو ننفّذه بعمى وتكبيل. وهو علم يحرّك فينا المسؤوليّة، كلّ أبعادها ومعانيها؛ بفرديّتها، مع الشّخص نفسه، وبمعناها الجماعي مع العائلة، أو الجوقة، أو مجموعة الصّلاة، أو المجتمع، أو الوطن، أو البلد.
وهكذا نستطيع تحديد الآداب بثلاث نقاط :
1- هو علم العلوم كلّها، على حدّ قول المتخصّصين، وهو بحث وتساؤل، وهو علم تمييز الخير من الشّر. وبما أنّه علم، فهو يمنحنا أساليب المعرفة، ووسائل اكتشاف الخير حتّى نعتنقه، والشّر حتّى نتجنّبه؛ وهي وسائل تمكّننا من البحث، وتعطينا القدرة على التّمييز، في حالات الضّياع، أي عدم تمييز الصواب من الخطأ، والحقيقة من الضّلال. ولتجنّب ذلك، أي الانقسام، وهدم تلاقي أطراف المستوى الأخلاقي والأدبي, هناك عناصر تمنحنا الالتزام والواجب والفضيلة في كلّ شيء بما فيه علاقتنا باللّه، وهي كالتّالي:
أ- تحليل الأفكار المجرّدة كالفضيلة وغيرها
ب- قيمة التّفكير الأدبي
ج- تحليل ظروف الحركة
د- ملاحظات حول القيم والأسس والقواعد
ه- التّبريرات الضّرورية
و- مسأليّة العمل المطروح
وهذا التّساؤل في المجرّدات لا يحصر في أشخاص من فئة أو طبقة معيّنة، بل هو مسؤوليّة كلّ كائن بشريّ.
2- هذا العلم تنظيم ونهج ومضمون. في نظر الكثير من العلماء، الأدبيات أو علم الأخلاق هو مجموعة مبادئ هرمية منظّمة ومبرمجة، أي مجموعة تشريعات وعقائد مرتبطة بالتّصرّف البشري.ويطبّق هذا التّنظيم على أصعدة مختلفة فلسفيّة ودينيّة واجتماعيّة.
3- هذا العلم هو عمل، أي خبرة واقعيّة جدّيّة معيوشة ملموسة. هو ترجمة الأفكار بالتّصرّفات والعمل، بل هو العمل على أن أكون أصيلا لا مزيّفا، صادقا لا مواربا؛ أي هو العمل على تحقيق السّلام الدّاخلي مسيحيّا والعمل للشّهادة بشكل أكثر مسيحيّة،إذ إن حضوري وكوني ووجودي ليس إلا في الله وبالله، العامل من خلالي.
وإذا ما جمعنا هذه النّقاط الثّلاث،حصلنا على تحديد الأخلاقيّات والآداب، وقد يقول البعض إن هذه النّقاط تتناقض في ما بينها إلا أنّها على العكس تتلاقى وتتكامل.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.