عظة للأب ميشال عبود الكرمليّ،
كنيسة الجلجلة (دير الصّليب) – بقنايا، المتن.
فضيلة الرّجاء،
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
إنّ الرّوح القدس هو محرّك الكنيسة أفرادًا وجماعات، لذا حين نسأل المؤمنين عن سبب قدومهم إلى الكنيسة للصّلاة، فإنّنا نحصل على أجوبة مختلفة ومتعدِّدة، غير أنّ الرّوح القدس يبقى الدّافع الأساس لحضورهم. فالمؤمن قد يأتي إلى الكنيسة لسبب خارجيّ، وهو رغبته مشاركة مؤمن آخر في مناسبة معيّنة، غير أنّ السبب الأقوى لاستمراره في المجيء إلى الكنيسة هو انجذابه إلى الله، فالله يجذبنا إليه بطرق متنوّعة، لأنّ هدفه هو إيصال المؤمنين إلى ملكوته السّماوي.
في هذا المكان المقدَّس، تجتمع اليوم عائلتان روحيّتان هما: “عائلة أبونا يعقوب”، وجماعة “أذكرني في ملكوتك”. إنّنا نشكر الله على وجود مِثل تلك الجماعات في الكنيسة، الّتي يسعى أفرادها بكلّ جُهدٍ إلى عيش كلمة الله في حياتهم. إنّ الكنيسة هي”جسد المسيح السريّ”، على حسب قول بولس الرّسول: فالجسد لا يكون حيًّا إن كان جامدًا لا يتحرّك، وبالتّالي فإنّ وجود تلك الجماعات في الكنيسة دليلٌ على بقاء هذا الجسد حيًّا، نابضًا بالحياة. تتعرَّض الكنيسة إلى الانتقادات في الكثير من الأحيان غير أنّ ذلك لا يُشكِّل سببًا في ابتعاد أبنائها عن إيمانهم بالمسيح، كما يعتقد البعض، بدليل وجود تلك الجماعات الّتي تضمّ أعدادًا من المؤمنين الّذين لا يزالون يرتادون الكنيسة للصّلاة وللمشاركة في الذبيحة الإلهيّة. يستطيع المؤمن أن يكون تلك “الخَلِيّة الحيّة” في جسد المسيح حين يختلي للصّلاة في غرفته وحيدًا أو في مجتمعه مع عائلته البيتيّة أو في كنيسته. إنّ القدِّيسة تريزيا تقول في هذا الصّدد: “في قلب الكنيسة أمّي، سوف أكون الحبّ”، ففي كلّ مرّةٍ يخلو المؤمن للصّلاة، يجعل قلب الكنيسة ينبض بالحياة إذ يسمح لله بأن يعمل فيه.
“أذكرني في ملكوتك”، هي عبارة قالها اللّص اليمين للربّ يسوع حين كان مصلوبًا إلى جانبه على الصّليب، فتحوّل هذا اللّص إلى قدِّيس إذ دخل إلى الملكوت. إنّ قداسة هذا اللّص لم تكن نابعة من أعماله الحسنة، إنّما هي نابعة من رحمة الله له في لحظات عُمرِه الأخيرة. إنّ هذا اللّص رفض تعييرات لصّ الشمال للربّ، وردّ عليها قائلاً له: إنّ هذا العقاب الّذي نالاه هو نتيجة أعمالهما السيئة، أمّا الربّ فلا يستحقّ الصّلب لأنّه بارّ ولم يرتكب السُّوء، فما كان من لصّ اليمين إلّا أن نظر إلى الربّ قائلاً له: “أذكرني في ملكوتك”. إنّ الكتاب المقدَّس لا يتكلّم عن لصّ يمين أو لصّ شمال، غير أنّ هناك تقليدٌ سائد بأنّ لصّ اليمين هو مَن طلب مِنَ الربّ أن يذكره في الفردوس، لأنّ اليمين تشير إلى الخلاص. لقد وجد لصّ اليمين في المسيح يسوع، المصلوب إلى جانبه والموضوع فوق رأسه لافتة مكتوبٌ فيها:”يسوع المسيح، ملك اليهود”، شخصًا سماويًا، لذا تجرّأ وطلب منه الملكوت السماويّ.
كُثرٌ هم الّذين اختبروا أمام لحظة الموت، عدم جدوى أموالهم وممتلكاتهم، وشهرَتِهم، فطرحوا السؤال على ذواتهم: ماذا بعد الموت؟ إنّ الجواب على هذا السؤال هو واضحٌ تمامًا بالنسبة لنا نحن المسيحيّين، إذ أعطانا الربّ يسوع خارطة الطريق للملكوت في إنجيله. إنّ البابا يوحنّا بولس الثّاني يدعونا إلى العبور إلى الضّفة الأخرى من الحياة بعيون مفتوحة، لأنّ الحياة الأبديّة بانتظارنا. إنّ الحياة الأبديّة تبدأ منذ اليوم، أي أنّ باستطاعة المؤمن أن يعيش سماءه منذ يومه الحاضر مِن دون انتظار موته الأرضيّ: فالمؤمن الّذي يعيش حياته الأرضيّة مع الله، فإنّه حتمًا سيكون معه أيضًا بعد الموت؛ ومَن يرفض الله في حياته الأرضيّة سيكون بعيدًا عنه أيضًا في حياته بعد الموت. لم يعد الموت يُخيف الإنسان المؤمن ويُرهبه: لأنّ المسيح يسوع قد غلب الموت وأعطانا الحياة الأبديّة. في ليلة آلامه، صلّى يسوع إلى الله الآب قائلاً له: “أبعِد عنّي هذه الكأس”. إنّ هذه الرّهبة الّتي عاشها يسوع المسيح أمام الموت، هي شعور إنسانيّ طبيعيّ أمام لحظة الموت، ممّا يؤكّد لنا أنّ يسوع بكامل إنسانيّته وقف أمام الموت، هذا الاختبار الإنسانيّ القاسي.
في إنجيله، يكلِّمنا الربّ يسوع عن الملكوت السماويّ، وبالتّالي يتحوّل الإنجيل إلى خارطة طريق، بالنسبة لنا، تُوصِلنا إلى السّماء. إنّ الإنجيل يُخبرنا أنّ الله قد خلقنا نحن البشر، وأنّه يدعونا باستمرار إلى ملكوته السماويّ. غير أنّ القرار في تلبية تلك الدّعوة يعود للإنسان وحده: إذ يملك ملء الحريّة في قبول الملكوت أو رفضه. إنّ تصرّفاتنا نحن المسيحييّن، لا تدلّ على قبولنا بكلمة الله، إذ نتصرّف كالوثنيين، فنستمرّ بالحقد على الآخرين الّذين أساؤوا إلينا ونرفض المغفرة لهم، كما نستمرّ في الخضوع لشهواتنا الأرضيّة الدّنيويّة، على الرّغم مِن سماعنا لكلمة الله في كلّ أحدٍ في الذبيحة الإلهيّة. إنّ المسيحيّين الّذين يرفضون التَّغيير الّذي تدفعهم إليه كلمة الله، يُشبهون تلك الأرض الصخريّة الّتي يتكلّم عنها الإنجيل في إنجيل الزارع، إذ قد سمحوا للشِّرير أن ينزع من قلوبهم كلمة الله، نتيجة هموم الحياة الّتي تواجههم.
إنّ الحياة المسيحيّة هي دعوة من الله لكلّ المؤمنين به للدّخول إلى الملكوت. إنّ الإنسان لا ينفكّ يفكِّر في مستقبله بعد الموت، وما الّذي ينتظره بعد إغماض عينيه عن هذه الفانية. تقول لنا القدِّيسة أليصابات الثالوث إنّها وجدت سماءها على الأرض، فالسّماء بالنسبة لها هي الله، والله موجود في قلبها، وتمتلكها رغبة قويّة في أن تبوح بهذا السّر لأحبائها. إنّ الإنسان الّذي يعيش مع الله، تفوح منه رائحة الله، وبالتّالي لا يستطيع ذلك الإنسان إلّا إعلان الله وكلمته للآخرين.
إنّ يسوع لا يدعونا من خلال إنجيله لأنّ نكون تُرابًا في القبور عند موتنا، إنّما يدعونا لأنّ نكون أبناءً لله في الملكوت بعد انتقالنا من هذه الفانية. على كلّ مؤمن ملتزمٍ بالربّ وبكنيسته، أن يكون متأكِّدًا من مصيره بعد الموت ألا وهو الحياة الأبديّة. ففي حال وجود أيّ شكٍّ لديه في هذا المصير، فالأفضل له أن يكفّ عن الصّلاة لأنّه صلاته لا نفع منها لأنّه سيكون الخاسر الأكبر في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى، إذ لم أسمع يومًا أن إنسانًا مُصلّيًا نال نتيجة صلاته المكافأت الدنيويّة، بل سمعتُ أنّ المصائب والشدائد تلازم الإنسان الملتزم بإيمانه بالربّ. إخوتي، إنّ الربّ لم يعد المؤمنين به بالسّعادة والأفراح في هذه الدّنيا، ولذا فإنّ مَن يبتعد عن الله بسبب الشدائد الّتي تلاحقه في هذه الدُّنيا، هو إنسان لم يقرأ بطريقة صحيحة مواعيد الله له في الإنجيل. إخوتي، إنّ كلام يسوع للمؤمنين به، هو كلام واضح وصريح إذ قال لهم: “أُرسِلكم كالخراف بين الذئاب”، وحين عاد إليه تلاميذه ليُخبروه بأنّهم طردوا الشياطين باسمه، وشفوا المرضى، كان جوابه لهم ألّا يفرحوا بكلّ تلك الأعمال الخارقة الّتي قاموا بها، لأنّه بالحريّ لهم أن يفرحوا لأنّ أسماءَهم مكتوبةٌ في السّماء.
هذه هي البشارة الّتي أتت جماعة “اذكرني في ملكوتك”، لتُكرِّرها اليوم على مسامعنا، وهي ضرورة الفرح لأنّ أسماءنا مكتوبةٌ في السّماء. إنّ أمواتنا قد سبقونا إلى الملكوت، وبعد فترةٍ من الزّمن سنتبعهم نحن أيضًا إلى الملكوت. لذا عندما نُصلّي لأمواتنا نُعبّر عن تلك الشراكة الّـتي تجمعنا، نحن كنيسة الأرض، بكنيسة السّماء، أي بأمواتنا، وهذا ما تُعبِّر عنه كلّ صلواتنا اللّيتورجيّة، وكلمات الكتاب المقدَّس. لا تهدف صلاتنا لأمواتنا إلى أن نتذكّر باستمرار حزننا على فراقهم، فنتقوقع على ذواتنا، إنّما تهدف صلاتنا لهم إلى الانفتاح على الحياة، فنتذكّر أنّنا من خلال عيشِنا على هذه الأرض، نستطيع مساعدتهم بالصّلوات وأعمال الرّحمة الّتي نقوم بها مع الآخرين، ونحضِّر أيضًا لحياتنا الأبديّة، فهذه الحياة نعيشها مرّة واحدة وعلينا الاستفادة منها. إنّ كلّ الّذين مرّوا بمرحلةٍ مِن الغيبوبة يدَّعون أنّهم اختبروا الحياة بعد الموت، لكنّهم في الحقيقة لم يختبروا ذلك لأنّ مَن اختبر الحياة بعد الموت وذاق طعمها هو كلّ إنسان مات بالجسد وأقامه الله من الموت إلى القيامة الأبديّة. على كلّ مؤمن أن يتحلّى بالرّجاء فيُدرِك أنّه بعد انتقاله من هذه الفانية سيذهب لملاقاة وجه الله القدُّوس. ولذا فإنّ كلّ مؤمن غير واثقٍ من أنّ نصيبه بعد الموت هو السّماء، هو مؤمن قد فقد فضيلة الرّجاء.
“أذكرني في ملكوتك” هي جماعة تُضيء من جديد على فضيلة الرّجاء الّتي على المؤمنين التحلّي بها، كما تدعوهم إلى السير معًا في هذه الحياة صوب الملكوت السماويّ. إنّنا نشكر الله على دعوته لنا لمشاركته الملكوت، وهنا نستذكر قول بولس الرّسول الّذي يقول إنّ آلام هذا الدّهر لا تساوي شيئًا أمام الفرح الّذي ينتظرنا في الحياة الأبديّة. إنّ سفر الرؤيا يتكلّم عن سماء جديدة وأرض جديدة، لأنّ السّماء والأرض ستزولان، كما يُخبرنا أنّ في تلك الأرض والسّماء الجديدتين، لا وجود للأحزان والدّموع، لأنّ الربّ سيمسح من عيون مُحبّيه كلّ دمعة ويزرع الفرح في قلوبهم.
أتمنّى لكم في النّهاية أن تعيشوا كأبناء الرّجاء،كأبناء الملكوت، أبناء الله، الّذي له كلّ المجد من الآن وإلى الأبد. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.