عظة للأب عبدو مسلّم المريمي،
رعية مار ضوميط – عين الخروبة، المتن.
كيف عاشتْ مريم ملكوت الله على الأرض؟
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين
اليوم، نصلّي مع جماعة “اُذكرني في ملكوتك”، من أجل الأشخاص المنتقلين من بيننا الّذين يتمتّعون، فعلاً، أو يُشاهدون الرّبّ يسوع المسيح والثّالوث الأقدس وجهاً لوجه.كما أودّ أن أتأمّل معكم في كيفيّة عَيْش الملكوت على الأرض وتذوّقه؛ لكي أتذوّق الملكوت عليّ أن أعيش خبرة مميّزة من خلال علاقتي بالله أيّ يجب عليّ أن أكون شخصاً على علاقة مع الرّبّ، شخصاً يعرف الصّلاة كما يعرف التّأمّل والغوص في كلمة الله لا بل أكثر من هذا، أن أكون شخصاً يعرف كيف يتأمّل في شخصيّة مريم الأمّ الّتي تُعلّمنا كيف نعيش ملكوت الله على الأرض. لذلك من المستحيل، عندما نتأمّل في مريم، ألاّ نتعلّم منها شيئاً. فالولد أو الإنسان لا يكتسب الخِبرة ولا يتعلّم إلّا من أمّه. ولتكن هذه خِبرةً وعبرة في حياتكم، فالولد لا يحفظ إلاّ ما تُعلِّمه وتقولُه له أمّه، لأنّ كلمة الأمّ تصِل إلى القلب وتثبُتُ فيه إلى حدّ أنّ الإنسان يعيشها، فعلاً، في العمق.
كيف عاشتْ مريم ملكوت الله على الأرض؟ سوف نتأمّل في نصّ البِشارة ولكن قبل ذلك، أريد أن أقول جملةً: أظهر الله ألوهيّته بالتّجرّد والتّخليّ، لقد أخلى ذاته مُتّخذًا صورة عبد. من غير الممكن أن تستطيع التّأمّل بألوهيّة يسوع المسيح إلّا إذا تخلّيتَ عن ذاتك ودخلتَ في منطق الألوهة المتجليّة على الأرض بالتّخليّ والتّواضع. دعونا نأخذ حدث الميلاد كما هو: في ملء الزّمن، عندما اختار الله أن يتجسّد كان اختياره مميّزاً عبر التّاريخ، وكانت البشريّة قد نَضَجت من النّاحية الحضاريّة فأصبح ربّنا قادراً على أن يوصل رسالته إلى كلّ شخص في العالم من خلال الرُّسُل الّذين اختارهم. سأدخل إلى بُعدٍ آخر من التّخلّي الّذي عاشه ربّنا في التّجسّد. دعونا نتأمّل في المغارة: نرى طفلاً صغيراً وقد اختارَّ ربّنا مريم العذراء البالغة من العمر ستّ عشرة سنة، ولم يكن أحد يعرفها، كما اختار مار يوسف، النّجار حتّى يُربّي المسيح واختار الرّعاة حتّى يأتوا لتدفئته. أمّا المكان الّذي اختاره يسوع المسيح ليتجسّد فيه فلم يكن معروفاً من قِبل النّاس، ولكّن إذا أردنا أن نتأمّل في عمق هذا الإختيار سنجد أنّ ربّنا كان دائماً مُحتجِباً عن سرِّ ألوهيّته بسرّ الإنسانيّة الضّعيفة.
ما الّذي يُعلّمنا إيّاه هذا الحَدَث؟ إذا كنتَ تُريد أن تكتشف سرّ التّجسّد عليكَ أن تعيش واقعك الإنسانيّ حتّى في الضّعف الّذي تتخبّط فيه. فمن خلال ضعفك، عليك أن تغوص في عمق ايمانك لتستطيع اكتشاف نعمة الله ومجده متجلياً في حياتكَ الشخصية. إذا كنتَ لا تقبل بواقع الحياة الّتي تعيشها، لن تعرف كيفيّة اكتشاف الله، لذلك عليك أن تقبل حياتك كما هي، لأنّ، في هذه الحياة، الّتي من خلالها أنتَ موجود اليوم على الأرض، ملكوت الله وسرّ الألوهة مُتجسّدان فيها. فلنرَ مريم كيف عاشت هذا الحدث: مريم ومار يوسف هما مخطوبان أيّ لديهما مشروعاً لحياتهما معاً، يحلمان به ويؤسّسان له. في هذا المشروع الّذي يبنيانه، تدخل الله وهنا نفهم، أنّ مشروع حياة الإنسان المتأمّل والملتزم دائماً بإرادة الله، يستحيل أن يختلف مشروعه عن المشروع الّذي رسمه الله له. فيجب أن يكون هناك انسجام كامل ووحدة بين حياتك الشّخصيّة، وحلمك الّذي تبنيه، وبين إرادة الله الّذي يُريد أن يَهبَك نعمه، ويُريدك أن تعيش دعوتك في هذه الحياة وتعيش عمق ملكوت الله في هذه الدّنيا، لكي تستطيع أن تلتقيَ به وجهاً لوجهٍ. كان مار يوسف ومريم مخطوبيْن، أرسلَ الملاك جبرائيل من عند الله إلى مريم ومار يوسف.
عندما دخل الملاك على مريم قال لها: “السّلام عليك يا مريم يا ممتلئة نعمة الرّبّ معك” فاضطربت مريم لهذا الكلام: إذا تأمّلنا في شخصيّة مريم، الممتلئة نعمة، هذا يعني أنّها عاشت دائماً في حالة الفردوس، في الحضور الإلهيّ. لقد كانت، دائماً، في حالة تواصل مع الله في علاقةٍ شخصيّةٍ، لذلك لم تضطرب مريم لأنّ الملاك ظهر لها بل اضطربت لأنّ هناك سلاماً مميّزاً يُعطيها إيّاه ربّنا، ودعوة مميّزة ستحملها في هذه اللّحظة. لذلك عندما سمعت الملاك يقول لها: “السّلام عليك يا مملوءة نعمةً الرّبّ معك” اضطربت مريم لهذا الكلام لأنّها علمت، في هذه اللّحظة، أنّ اللّه سيُحقّق مشروعه الخلاصيّ وهو يُقدّم لها ذاته. كلّ الحبّ الإلهيّ وكلّ المجد الإلهيّ هما جزء، في هذه اللّحظة، من شخصيّة مريم. وهو يعرض عليها ويُقدّم لها ذاته الإلهيّة. طبعاً، أمام تقدمة الحبّ الكامل من قِبل ربّنا، يستحيل على الإنسان ألّا يعيش اضطراباً داخليّاً سائلاً نفسه إن كان يُمكنه أن يُبادل الله المحبة نفسها على المستوى نفسه. وهنا، عليّ أن أثق بمحبّة الله لي وبأنّني أستطيع أن أُحبّه كما هو أحَبَّني. لذلك القدّيسة تيريزا الطّفل يسوع تقول عبارة جميلةً عن الحُبّ: “الحُبّ يتطلّب الحُبّ فالمريض بالحُبّ لا يُشفى إلّا بالمحبّة” وبالتّالي من غير الممكن أن تُبادل الله وتعيش مجد الملكوت وتتذوّقه إلّا إذا قدّمتَ ذاتَكَ، بشكل كامل، إلى المحبّة والطّاعة لإرادة الله.
لذلك مريم، في هذه اللّحظة، أخذت تُفكّر في ما عسى أن يكون هذا السلام، بدأت تُفكّر في نفسها، أيّ أنّها عادت إلى ذاتها، فالله خلق الإنسان على صورته ومِثاله، خلقه والصّفات الإلهيّة كلّها موجودة ومزروعة في البشريّة. عندما يتأمّل الإنسان في ذاته يكتشف الصّفات الإلهيّة، عندها يكتشف أنّه يستطيع، انطلاقاً من فعل الخلق وفعل النّعمة الّتي انسكبت فيه مِن قِبل الله مجّاناً، أن يُبادل الله بالمحبّة نفسها.
لذلك عندما رجعت مريم إلى ذاتها، في هذه اللّحظة، فهمت أنّه عليها أن تتحرّر من خوفها وتتخلّى عن كلّ ما تملكه وتضعه بين يدَي ربّنا، أيّ تتخلّى عن ذاتها من أجل الله، ساعتئذٍ ستجد ذاتها والله سيكون، فعلاً، قادراً على التّخلّي عن مجده وعن عرشه الإلهيّ ويتجسّد في أحشائها، أيّ أنّ المجد الإلهيّ يختفي تحت البُعد البشريّ. لذلك عاش يسوع حياته على الأرض وألوهيّته كانت مخفيّةً تحت إنسانيّته وقد أظهرها، بشكلٍ علنيّ، بعد القيامة. بينما قبل القيامة، كانت البشريّة كلّها في حيرةٍ من هويّة هذا الشّخص. ولكن سرّ المحبّة وسرّ الملكوت لا يتجسّدان إلّا بالتخلّي والتّواضع والطّاعة لإرادة الله. لذلك يقول لها الملاك، على الفور: “لا تخافي، يا مريم، لأنّكِ وجدتِ نعمةً عند الله” والنّعمة هي: “ها أنتِ تحملين وتلدين ابناً وتُسمّينه يسوع وهو يكون عظيماً وابن العليّ يُدعى”. أمام هذه اللّحظة، يستحيل على الإنسان إلاّ أن يقف أمام خيار وهو، دائماً، نابع من عمق العقليّة البشريّة. وقمّة الحريّة عند الإنسان هي الطّاعة. لا أحد يعرف أن يُطيع إذا كان عبداً، الإنسان يُطيع إذا كان حرّاً وقادراً على إعطاء ذاته للمحبّة. لذلك مريم، في هذه اللّحظة، تخلّت، أوّلاً، عن مشروع حياتها “كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟” نفسّر ذلك أحياناً، بأنّ مريم عندما كانت مخطوبة ليوسف كانا قد نَذَرا البتوليّة لكي تردّ مريم على الملاك بهذا الجواب، ولكن إذا تأمّلنا أبعد من هذا النّذر، نستنتج أنّ مريم كانت مُكرّسةً حياتها لله وبالتّالي لا مشروع داخل حياتها يُمكن أن يكون حاجزاً بينها وبين الله. كانت مُستعدّةً للتّخلّي عن كلّ شيء وعندما يتخلّى الإنسان عن ذاته من أجل الله، أيّ هو يعيش التّأمّل والحبّ والرّجاء والثّقة والإصغاء إلى كلمة الله، يعيش عمق الطّاعة وعمق البساطة بالمحبّة والعطاء والحبّ، ويعيش كلّ مواهب الرّوح القدس الّتي تتفاعل في قلبه وبالتّالي يعيش الانجذاب الكامل إلى إرادة الله.
سأُعطيكم مثلاً قبل الانتقال إلى جواب مريم. عندما يدعوك الله، إن لم تُلبِّ الدّعوة فمِن الممكن أن تكون قد أضعتها. سأرجع إلى العروس في سفر الأناشيد، الفصل الثّاني: عندما يأتي العريس السّماويّ، يقرع الباب ويقول لعروسه أربع كلمات من أجمل الكلمات. الكلمة الأولى هي: “يا أختي”، وهذا يعني سرّ التّجسّد في عمقها فلا أحد يكون أخاً للآخر إلّا إذا كان من لحمه ودمه. عندما يقول الله لهذه العروس “يا أختي” كأنّه يقول لها إنّه مُستعدّ أن يتخلّى عن ألوهيّته أيّ أنّ البشريّة والألوهيّة تتّحدان بالتّجسّد. لذلك الكلمة الأولى الّتي قالها لها هي “يا أختي” ويُتابع قائلاً “يا خليلتي” أيّ “يا عروسي” سرّ التّجسّد وحده غير كافٍ، عليّ أن أُكمل فأعيش عمق سرّ التّجسّد حتّى أصل إلى سرّ الصّليب. أصبحت الكنيسة عروساً أمام عريسها السّماويّ، مُقدّسة، مُطهّرة من الخطايا كلّها على الصّليب. ويُتابع قائلاً “يا حمامتي” أيّ أصبح الإنسان في علاقة حميمة مع الله ولكي يستطيع أن يدخل في هذه العلاقة مع الله يجب على الله أن يُعطيه ذاته، فبعد القيامة، أعطى الرّبّ يسوع المسيح الرّوح القدس إلى البشريّة كي تشعر بالثّقة وتستطيع دخول سرّ الألوهة. وعندما تدخل سرّ الألوهة يقول لها “يا كاملتي” أيّ أنّها صارت كاملةً، عروساً مُقدّسةً بلا عيب أمام عريسها السّماويّ. فتُجيب العروس قائلةً له: “لقد خلعتُ ثيابي فكيف ألبسُها” عندما ارتكب آدم وحوّاء الخطيئة في جنّة عدن، كانا يرتديان لِباس المجد وقد خلعاه بسبب الخطيئة وعدم الطّاعة لإرادة الآب السّماويّ وارتديا لِباس الخطيئة، لِباس العار، فمن المستحيل أن تستطيع ارتداء، ثياب المجد من جديد إلّا إذا تجسّد الله ودخل، فعلاً، عمق البشريّة. العروس، في سفر الأناشيد، لم تفهم ذلك، على عكس مريم. وتُتابع قائلةً: “لقد غسَلتُ رِجْلَيَّ فكيف أُوَسّخهما”،
في العهد القديم، على الأقلّ، لقد تطهّرتُ بشريعتك فَلْأتمسّك بها. وكما تعرفون، الشّريعة في العهد القديم كانت عائقاً أمام النّعمة. كم من الكتبة ورؤساء الكهنة قد تمسّكوا بشريعة الله ولكنّهم لم يتمكّنوا من أن يدخلوا حالة النّعمة أيّ أن يقبلوا بالتّجسّد والموت والقيامة، أي حدث الخلاص. العروس، في سفر الأناشيد، اتّخذت هذا الموقف ولكن يسوع حاول أن يقتحم… لن أُفسّر النّصّ بكامله وسأعود إلى موضوع بشارة مريم ولكنّ الله حاول، بطريقة مميّزة، أن يُدخل العروس في سرّ الصّليب عندما قال لها: “قطرات الماء تنزل على رأسي” وحاول أن يفتح الباب ووضع يده على المزلاج وعندها تحرّكت أحشاء العروس واتّجهت مُسرعةً نحو الباب لِتفتحه ولكنّ حبيبها كان قد مضى. وهنا، بدأت العروس بمُلاحقته. طبعاً، ستجده في سفر الأناشيد لأنّ مريم هي الّتي وجدته. لو لم تجده مريم لما كانت العروس في سفر الأناشيد قد وجدته. ولما كانت البشريّة كلّها قد عرفت كيف تستقبل الله لو لم تستقبله مريم، كانت لا تزال تبكي على الأطلال وكنّا لا نزال نبكي على تعاستنا وموتنا. فلنشكر ربّنا أنّه لدينا أمٌّ هي مريم العذراء، عندما قرع بابها وقال لها “يا أختي، يا خليلتي، يا حمامتي، يا كاملتي… افتحي لي” أجابت، على الفور: “ها أنا آمة الرّبّ فليكن لي بحسب قولك”.
أُريد أن أُضيف، بعد، جملةً إلى ما قلته: يبدأ الميلاد بالإخلاء والتّواضع والطّاعة. لا يقدر الإنسان أن يُطيع ربّنا إلّا من خلال سرّ الاعتراف لأنّه في سرّ الاعتراف يضع ذاته بين يدَيْ الله، لأنّه يثق برحمة الله فيقول له: أنا آتٍ إليك يا ربّي لأبادلك المحبّة نفسها على الرّغم من خطيئتي وضعفي. لذلك، إني آت بتواضعٍ ومُنحني الرّأس، ولكن عندما ترفع أنت يا ربّ، في هذه اللّحظة، لمسة رحمتك وتغمرني بها، أستطيع أن أرفع رأسي كما رفعت مريم رأسها قائلةً هذا النّشيد: “تُعظّم نفسي الرّبّ وتبتهج روحي بالله مُخلّصي لأنّه نظر إلى تواضع آمته” عندها يقول لك الرّبّ: “أُدخل إلى سرّ الألوهة، إلى ملكوت الله” فتبدأ، منذ هذه اللّحظة، بتذوّق مجد السّماء.
ملاحظة: دوِّنتْ العظةُ بأمانةٍ من قبلنا.