عظة للأب مروان الخوري،
كنيسة سيّدة الانتقال – عينطورة، كسروان.
لِنعبر إلى الضّفة الأخرى،
بدايةً، أتوجّه بالشكر إلى كاهن الرعيّة، وإلى جماعة “أذكرني في ملكوتك” الّـتي جمعتنا في هذا اللّقاء الروحيّ العميق وفي هذا الشهر المبارك تحديدًا، الّذي تكرِّسه الكنيسة من أجل ذكر أمواتنا المؤمنين، وبخاصّة الأنفس المنقطعة منهم.
إنّ تأمُّلَنا اليوم يتمحوّر حول سرّ الحياة، فندرك معنى وجودنا فيها، ونعيش حياتنا على هذه الأرض كما ينبعي. في هذا الصَّدد، يقول صاحب المزامير: إنّ الإنسان يشبه السَّفينة الّتي ما إن تبحر حتّى يختفي أثرها سريعًا، وكأنّها لم تكن موجودة على الشاطئ. وهنا يُطرح السؤال: ما فائدة حياة الإنسان؟ أَوُجِد الإنسان في هذه الحياة كي يُمضي فيها وقتًا زمنيًّا محدَّدًا ثمّ يرحل عنها، من دون ترك أيّ أثرٍ له فيها، كما هي حال السفينة؟ أم أنَّ لحياته هدفًا أسمى؟ إنّ الإجابة عن هذا السؤال تبدأ من اكتشافنا لهويّتنا الحقيقيّة، وللغاية الّتي من أجلها وُهِبَت لنا نعمة الحياة، وهذا الاكتشاف لا يتمّ إلّا من خلال تعرُّفنا إلى جابلنا وصانعنا، ألَا وهو الله.
إنّ كلَّ صانعِ آلةٍ، يُرفِقها بدليلِ استعمالٍ، يُخوِّل مستخدِمَها حسن استعمالها، وعدم إفساده لها. إنَّ الإنسان هو صنيعة الله، لذا عليه أن يطلبَ من الله خالقه، دليلَ استعماله في هذه الحياة كي يعرف ما هو هدف حياته، وما هي مشيئة الله فيحقِّقها، فتكون لحياته قيمة، ولا يهدرها سدىً من دون أن يصِل إلى الهدف المنشود من وجوده فيها.
إنّ الموت، بالنسبة إلى الإنسان، هو لحظةٌ مفجعةٌ وقاسيةٌ، يتمنّى الإنسان لو يستطيع إلغاءها من الوجود، غير أنّه لن يتمكّن أبدًا من الهروب منها، لأنّها محتّمة على كلّ إنسان، مهما علا شأنه أو صَغُر. إنّ فلسفات هذا العالم، لا تملك جوابًا واضحًا عن هدف الوجود، لذا لم تتمكّن من مساعدة الإنسان في إيجاد جوابٍ عن سبب وجوده. إنّ هذه الفلسفات تُشبه الأعمى الّذي يقود أعمىً، على حدِّ قول الإنجيل، والنتيجة هي فشل الاثنين في الوصول إلى أهدافهما. إنّ الإنسان لن ينجح في اكتشاف هويّته الحقيقيّة وفي معرفة هدف وجوده، إلّا من خلال كلمة الإنجيل، لذا على الإنسان أن يتمسّك بيسوع، لأنّه هو الوحيد القادر على إعطائه الجواب الّذي يروي ظمأ قلبه.
في النصّ الإنجيليّ الّذي تُلِيَ على مسامعنا اليوم، سَمِعنا أنَّ يسوع كان يلجأ إلى الأمثال لمخاطبة الشَّعب، ولم يكن يُكلِّمهم إلّا بالأمثال. إنّ الحياة مليئة بالرّموز الّتي تحتاج إلى شرحٍ وتفسير، وقد كان يسوع يساعد الإنسان على اكتشاف تلك الرّموز وفهمها من خلال الأمثال. إنّ قوّة الإنسان تكمن في اكتشافه لرموز الحياة وَحَلِّها، فَمِن خلالها يكتشف الإنسان سرّ وجوده.
إنّ الله يشرح للإنسان عن سرّ الوجود من خلال الأحداث اليوميّة الّتي يمرّ بها، والتّي تحتاج في كثير من الأحيان إلى شرح وفكٍّ لرموزها. إنّ بعض الأحداث الّـتي يتعرَّض لها الإنسان، قد تُوقِعُه في حالة من القلق والحزن، ومن عدم الفهم. إنّ العلم قد تمكّن مِن شرح كيفيّة حدوث بعض الأمور الطبيعيّة، ولكنّه لم يتمكّن إلى الآن من معرفة أسباب حدوثها. إنّ العلم قد تمكّن، على سبيل المثال، من شرح كيفيّة وقوع “تسونامي” في أندونيسيا في العقد الماضي، لكنّه لم يتمكّن من إعطاء البشر أسبابًا منطقيّةً لموت هذا الكمِّ من الضحايا. في محاولة تبريره لما حدث مع هؤلاء الضحايا، قال العلم إنّ حظّهم كان سيئًا للغاية إذ تواجدوا في هذا الوقت هناك. هذا أقصى ما يمكن للعلم أن يقول، لأنّه لا يملك المقدرة على تبرير ما حدث وبخاصّة لأهل الضحايا. إنّ السؤال ما زال مطروحًا إلى الآن، وبعد مرور فترةٍ من الزّمن على تلك الحادثة، وهو: ما ذَنْبُ هؤلاء البشر كي ينالوا ميتةً كهذه؟ حين يتعرَّض لأحداثٍ غير مفهومة من قِبَل عقله البشريّ، يتصرّف المؤمِن بالطريقة نفسها الّتي تصرّف فيها العلماء مع حادثة “تسونامي”، فَيُلقي السبب في ما حدث له، على حظّه السيِّئ.
إنّ القول “إنّ حظّي سيِّئ، لهذا حدثت معي هذه الأمور المزعجة”، هو كلامٌ يجرح قلب الله الآب، إذ إنّه لا يمتُّ إلى كلام الإنجيل بِصِلَة، وهو بالتّالي لا يعبِّر في الحقيقة عن إيمان الإنسان بالمسيح. وهنا السؤال يُطرَح: أين هي عناية الله بالإنسان الّذي يتعرَّض لهذه الأحداث المؤلمة؟ لماذا لم يتدخَّل الله ليمنع حدوثها؟ إنّ الله يدعو الإنسان إلى حلّ رموز هذه الأحداث ليفهم سرّ الحياة، وهذا الأمر يبدو مستحيلاً من دون العودة إلى كلمة الله. إنّ الكتاب المقدّس ليس كتابًا علميًّا، بل هو “كتاب الحياة”، أي الكتاب الّذي يساعد الإنسان على فهم سرّ الحياة، ومعنى وجوده فيها.
وفي العودة إلى هذا النصّ الإنجيليّ، نجد أنّ الربّ لا يتوانى عن تفسير كلّ تلك الأمثال لتلاميذه حين يتواجد معهم على انفراد. إذًا، إنّ جلوس المؤمِن مع الربّ، هو أمرٌ في غاية الأهميّة، لأنّ الربّ هو الوحيد القادر على توضيح أسرار كلّ الأحداث الّتي يتعرَّض لها المؤمِن في حياته. على المؤمِن أن يجعل يسوع مرجعه الأساسيّ، خاصّة في الأمور الّتي يعجز العلم عن شرح أسباب حدوثها. فأمام حادثٍ مصيريّ كالموت مثلاً، على المؤمِن الإصغاء إلى كلام المسيح في الإنجيل، لا إلى كلام النّاس المتوافدين إليه ليُقدِّموا له واجب العزاء، لأنّ كلمات الكثيرين منهم قد تدفع بالمؤمِن إلى الشعور بالإحباط واليأس والاستسلام، في حين أنّ الربّ يدعونا إلى التمسُّك بالرّجاء والإيمان به.
إنّ ما حدث مع تلميذي عمّاوس هو خير مثالٍ لنا: لقد كانا عائدين إلى قريتهما ممتلئين كآبةً وحزنًا لأنّ معلِّمهما، الّذي وضعا فيه كلّ آمالهما وأحلامهما، قد مات ميتة المجرمين.
إنّ بعض المؤمنين ينظرون إلى يسوع على أنّه “صاحب شركة تأمين” أي أنّهم ينتظرون منه أن يحميهم ويحمي أفراد عائلاتهم وممتلكاتهم لأنّهم يُصلُّون له. في يومٍ من الأيّام، زرت رجلاً فَقَدَ زوجته إثر إصابتها بمرضٍ، وكانت لا تزال في ريعان شبابها. وبعد موتها، أصيب زوجها بحالةٍ من الرّفض لكلّ ما هو كَنَسِيّ وإلهيّ: فرفض الصّلاة مجدَّدًا لأنّه صلّى كثيرًا إلى الله، ولكنّ الربّ لم يستجِب له. أمام هذا المصاب، لم أكن أملك من الكلام ما يُخفِّف ألم هذا الرّجل ونقمته على الله، فالعقل البشريّ عاجزٌ عن تبرير حدوث تلك المصيبة في هذه العائلة، وخاصّةً أنّ لتلك الفقيدة أطفالاً يحتاجون إلى رعايتها. كان عتب الرّجل على الله عظيمًا جدًّا خاصّةً لأنّه تضرّع إليه كثيرًا في فترة مرض زوجته، وهو لم يوفِّر صلاةً أو نذرًا من أجل شفائها، وهو رجلٌ صالحٌ في مجتمعه، على الرّغم من عدم التزامه بشكلٍ دائمٍ في الاحتفالات اللّيتورجيّة والكنسيّة. إنّ استغراب هذا الزّوج كان عظيمًا إذ كلّما ازدادت صلاته، كلّما تفاقم وضع زوجته سوءًا. وقد وصل هذا الرّجل في النِّهاية إلى مرحلةٍ من اليأس، إذ طلب من الله أن يأخذ روحه منه بدلاً من زوجته، غير أنّ الله في هذه أيضًا لم يستجِب. أمام هذه الوضع المأساويّ، سألني الرّجل قائلاً: ما نفع الصّلاة إلى إلهٍ لا يستجيب إلى تضرّعات المؤمنين به، ويُصرّ على تحقيق إرادته من دون تغييرها بما يتلاءم وصلوات شعبه؟ أمام هذا السؤال، تذكّرت كلام الربّ القائل: إنّ أبناء هذا الدّهر هم أكثر حكمةً من أبناء الملكوت، إذ لم أجد كلامًا منطقيًّا على المستوى البشريّ، قادرًا على إقناع هذا الرّجل أنّ موت زوجته هي حكمةٌ إلهيّة لا يستطيع الإنسان فهمُها من دون العودة إلى الإنجيل. أمام هذا السؤال المنطقيّ، طرحْتُ على هذا الرّجل سؤالاً حول علاقته بالله قبل مرض زوجته. عندها كان ردّ الرّجل قاسيًا قائلاً: هل الربّ يثأر منّي من خلال موت زوجتي لأنّي لم أكن رجلاً ملتزمًا في الكنيسة؟ عندها أجبته قائلاً إنّ مشكلته مع الله هي قديمةٌ جدًّا، وتعود إلى ما قبل مرض زوجته، ولكنّها ظهرت إلى العلن وبدأت تتكشّف معالمها مع مرض زوجته. وأَوضحْتُ كلامي له قائلاً إنّه قد صَنَعَ لنفسه منذ القديم صنمًا أطلق عليه اسم “يسوع المسيح”، شكَّل سببًا جوهريًّا لطمأنينته المزيّفة، وقد اعتقد هذا الرّجل أنّ هذا الإله المصنوع، سيُلغي له كلّ المصائب والآلام الَّتي قد تُصيب عائلته، مقابل بعض الصلّوات والتبرّعات والأعمال الحسنة الّـتي كان يقوم بها. إنَّ هذه الصّورة الّتي كان هذا الرّجل قد رسمها عن إلهه قد بدأت بالزّوال إثر مرض زوجته، وبدأت تنكشف أمامه صورة الإله الحقيقيّ، فرفضه لأنّه لم يَرُدّ عنه الضربات والصّعوبات كما كان يعتقد. وفي نهاية حديثي معه، طلَبْتُ إليه أن يحاول الجلوس أمام الله، ويتكلّم إليه ويقرأ كلمته المقدَّسة ليتمكّن من اكتشاف حكمته من خلال موت زوجته، فيتعرّف إلى إِلَهِهِ الحقيقيّ، تاركًا وراءه تلك الصّورة المزّيفة الّتي كان قد رسمها له. إنّ كلمة الله يصعب على الإنسان فهمَها مستندًا على عقله البشريّ وحسب، لذا عليه الجلوس مع الربّ فيتمكّن الله بواسطة روحه القدُّوس من شرح كلمته له. كما يمكنه الاستعانة بكاهنٍ ليساعده على فهم تلك الكلمة المقدَّسة.
في النّص الإنجيليّ الّـذي تُلِيَ على مسامِعِنا، نقرأ عبارة “مساء ذلك اليوم”. إنّ هذه العبارة تشير إلى اليوم الأخير أي إلى نهاية الحياة، الّتي لا يستطيع الإنسان معرفة ساعة حلولها. لقد طلب تلميذَا عمّاوس من الربّ يسوع أن يمكث معهم لأنّه قد حان المساء. حين يتعرَّض المؤمِن للضيّقات والصّعوبات، عليه أن يسارع إلى الطلب من الربّ المكوث معه، كما فعل هذان التلميذان، فكلامهما يشكِّل صلاة مؤمنٍ في وقت الضِّيق. في هذا النّص أيضًا، نقرأ أنّ الربّ قد طلب من تلاميذه العبور إلى الضِّفة الأخرى. إنّ عبارة “الضِّفة الأخرى” تشير إلى أنّ الربّ لا يريد بقاء المؤمِن في هذه الدّنيا الفانية على الدّوام، بل يريده أن يعبر معه إلى الحياة الأخرى، إلى الملكوت السماويّ. غير أنَّ الإنسان غالبًا ما يتمسَّك بثروات هذا العالم وكأنّه خالدٌ فيه، لذا فليتذكّر كلّ مؤمِن أمواته، كي لا يغيب عن ذهنه يومًا أنّه سيُغادر يومًا هذه الفانية ليَعبُر إلى “الضِّفة الأخرى”، إلى دار الخلود.
وهنا يُطرَح السؤال: كيف يستطيع الإنسان الوصول إلى تلك الضِّفة الأخرى، إلى “شاطئ الخلاص” بحسب تعبير الكنيسة؟ ومَن يستطيع إرشاده إلى ذلك المكان؟ إنّ القدِّيس نعمة الله الحردينيّ، يقول لنا:”الشاطر هو الّذي يُخلِّص نفسه”، وبالتّالي إنَّ من يريد الحصول على الملكوت سيعرف أيَّ طريقٍ عليه أن يسلك. غير أنّ إنسان اليوم، منشغلٌ في أمور كثيرة في هذه الحياة، ويتجاهل قيادة سفينة حياته إلى بَرّ الأمان، بَرّ يسوع المسيح. على المؤمِن الانتباه في قيادة سفينة حياته، كي لا تصِل به أهواؤه إلى شاطئٍ آخر، غير يسوع المسيح، حيث اللّصوص يستعدّون لنَهْبِ كلّ ممتلكاته وثرواته الّتي خزّنها في هذه الأرض. إنّ الربّ يسوع يُحذِّرنا من ربح العالم كلّه مقابل خسارتنا لذواتنا، فإنّ مثل هذا العمل لا يُعبِّر عن حكمة الإنسان بل عن جهله.
في عبور التّلاميذ إلى الضِّفة الأخرى، كان يسوع موجودًا على سفينتهم ، وبالتّالي كي يتمكّن المؤمِن من الوصول بأمان إلى الضِّفة الأخرى من الحياة، يجب أن يكون يسوع حاضرًا في سفينة حياته، أي أنّ عليه التزوّد بكلمة الله، وأن يكون قلبه مسكنًا لله. إخوتي، إنْ كان يسوع جالسًا في سفينة حياتكم، فسفينتكم لن تغرق لأنّكم ستواجهون صعوبات الحياة مع يسوع، وهو سيخلِّصكم من الغرق في بحر هذا العالم. إنّ وصول سفينتكم إلى شاطئ الأمان مؤَمَّن مع يسوع، على الرّغم من أنَّ الصّعوبات ستكون كبيرة. لذا لا تحزنوا إخوتي، على الّذين غادروا هذه الحياة وقلوبهم ممتلئة من كلمة الربّ وحضوره، بل احزنوا على الّذين غادروها وهم بعيدون عن الربّ وعن كلمته. فمَن اختار البُعد عن الله في هذا العالم، فلن يلتقي به في الضِّفة الأخرى من الحياة، لذا فَوَضْعُه عند وفاته يستحقّ الحزن والبكاء. لم يُلغِ المسيح الموت بمجيئه، بل دَخَلَهُ وخرج منه منتصرًا بقيامته من بين الأموات، وبالتّالي لم يعد الموت يُخيفنا، إذ لم يعد بالنسبة للمؤمنين فاجعةً أو كارثةً تَحِلُّ بهم، بل هو مرحلة عبورٍ للإنسان من هذه الفانية إلى الحياة الجديدة، لذا علينا ألّا نحزن على المؤمن الّذي يغادر هذه الحياة إن كان مع المسيح. إنّ الحزن على المنتقل مِن بيننا لا يجب أن يكون حزنًا يملؤه اليأس والإحباط، بل حُزنًا يملؤه الرّجاء. إنَّ حزنَنا على المنتقل من بيننا، يجب أن يكون كَمَن يودّع مسافرًا، عالِـمين أنّنا لن نتمكّن من رؤيته بشكلٍ يوميّ، ولكنّنا سنلتقيه في يوم من الأيّام.
إنّ أفضل وسيلة تساعدنا للالتقاء بِـمَن انتقلوا من بيننا، هي الذبيحة الإلهيّة، لذا علينا أن نقدِّم باستمرار الذبائح الإلهيّة من أجل راحة أنفسهم. إنّ نفوس الموتى المنتقلين مِن بيننا، تحضر في كلّ ذبيحة إلهيّة نقيمها لتُشاركنا التسبيح والتمجيد لله الحيّ، غير أننا نعجز عن رؤيتهم بالعين المجرّدة. إنّ كلّ الموتى يحضرون على المذبح في أثناء الذبيحة، وأوّلهم العذراء مريم وثمّ جميع القدِّيسين، ليسجدوا للربّ المتجسِّد في القربان الأقدس، فَهُم يشكِّلون حاشية الملك الإلهيّ. إنّ موتانا يحضرون للمشاركة في الذبيحة الإلهيّة بفرحٍ لا يوصف، أوّلاً لأنّهم يشاركوننا في تمجيد الإله الحقيقيّ، وثانيًا لأنَّهم يروننا نسير على خطاهم في عبادة الله من خلال سرّ القربان الأقدس. هذا بالنسبة إلى القدِّيسين الّذين دخلوا الملكوت، أمّا بالنسبة للمنتقلين من بيننا وهم لا يزالون في الكنيسة المتألمة “المطهر” ، فإنّهم يحضرون مع سائر الموتى للمشاركة في الذبيحة، ولكنّهم يجلسون على المذبح، وفي قلبهم شوقٌ كي ينالوا نِعمة مشاهدة وجه الله القدُّوس من خلال صلوات أنسبائهم لهم، وصلوات الكنيسة الّتي تذكر أيضًا جميع الموتى وبخاصّة النّفوس المنقطعة. إنّ هؤلاء المنتقلين من بيننا عاجزون عن مشاهدة وجه الله القدُّوس بسبب عدالة الله الّتي تقتضي تكفيرهم عن خطاياهم ليكونوا أنقياء طاهرين، لِنَيل نعمة مشاهدة نور الله. إنّ المنتقلين مِن بيننا، قد ساعدونا مرّات عديدة حين كانوا في وسطنا على هذه الأرض، لذا فإنّ أجمل مساعدة نمنحهم إيَّاها هي تقديم الصّلوات لهم، بخاصّة في الذبيحة الإلهيّة من أجل خلاصهم، وهم سيقدِّمون لنا مساعداتٍ جمّة، نحن الّذين لا نزال في هذه الحياة، حين يُصبحون في الملكوت الأبديّ.
إنّ شراكة كنيسة الأرض مع كنيسة السّماء من خلال الصّلوات والذبائح الإلهيّة، تؤكِّد اضمحلال سلطان الموت، إذ لم يعد الموت قادرًا على تفريق الأحبّاء. مع يسوع المسيح، لم يعد الموت يشكِّل نهايةً لحياة الإنسان، بل أصبح بدايةً لحياةٍ جديدة للإنسان مع الله في الملكوت.
إنّ الربّ لم يُعطِنا هذه الحياة، كي يسترجعها منّا بالموت، ويأخذ منّا أحبّاءنا، بل إنّه يسترجع منّا هذه الحياة ليُعطينا حياةً أفضل وأجمل، وهي حياة أبديّة في الملكوت. ولكن على كلّ مِؤمن لا يزال على هذه الأرض أن يجتهد فيها كي يستحقّ أن ينال تلك الحياة الثانية الّتي يَعِدُنا بها الربّ بعد انتقالنا من هذه الفانية. ونستحقّ تلك الحياة الثانية، حين نجعل يسوع هو القائد لسفينة حياتنا، ونعلِّم كلّ أحبائنا، صغارًا وكبارًا، أن يقتدوا بنا في ذلك. لذا فأفضل ما يمكن أن تُعلِّموه لأحبّائكم، هو ضرورة التقربّ من سرّ المناولة، وأن يكونوا أحبّاء للربّ، سائرين وِفقَ تعاليمه، ومتمسِّكين بكلمته القدُّوسة في الإنجيل. حين نتمكّن من نقل هذه البشارة وهذه التَّعاليم لأحبّائنا وبخاصّة إلى الصِّغار من بينهم، فإنّه لا ضرورة للخوف من غرق سفينتهم، لأنّه مهما اشتدَّت عليهم صعوبات الحياة ومشاكلها، سيتمكّنون من مواجهتها لأنّ الربّ يقود سفينة حياتهم، وسيُوصلهم إلى شاطئ الأمان.
في الختام، نصلّي إلى موتانا، كي يساعدونا على معرفة قيمة هذه الحياة، فنعيشها بهدي الرّوح، وِفق تعاليم المسيح، ونُسلّم سفينة حياتنا للربّ فيقودها وينقلنا من هذه الحياة إلى الضِّفة الأخرى بكلّ أمانٍ، فنحصل على المجد الأبديّ بمعاينة وجه الله القدُّوس، ونلتقي بأحبّائنا الّذين سبقونا إلى ذلك النّعيم. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.