عِظة للأب عبود عبود الكرملي،
كنيسة دار المسيح الملك – زوق مصبح، كسروان.
“أنظُروا، لا تحتقروا أحدًا من هؤلاء الصِّغار” (مت 10:18)
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.
في هذا المساء، كما في الثُّلاثاء الثّاني من كلِّ شهر، نجتمع في كنيسة يسوع الـمَلِك، الـمَلِك على قلوبنا، على حياتنا، على عيالنا، على وطننا، كي نشكر الله على كلّ النِّعَم والمواهب الّـتي مَنَحَنا إيّاها. كما نجتمع أيضًا لنتذكّر أمواتنا الّذين سبقونا إلى الملكوت السماوي، فنُقدِّم الذبيحة الإلهيّة لأجل راحة نفوسهم، إذ إنّنا نعلم أنّ الصّلاة وبخاصّة الذبيحة الإلهيّة، هي الصِّلة الوحيدة الّتي تجمعُنا بأمواتنا المنتقلين مِن هذا العالم. في الذبيحة الإلهيّة، نتشارك الصّلاة معًا لتسبيح الله وتمجيده وشُكرِه على كلّ ما أنْعَمَ بهِ علينا، كما أنّنا نتشارك في تَناوُلِ جسد الربّ، الّذي يدخل إلى حياتنا فيُقدِّسها. عظيمةٌ هي تلك النِّعمة الّتي ننالُها بأفواهنا، نحن الخطأة!
هذا الزّمن هو زمن العنصرة، زمن حلول الرّوح القدس المعزّي، والمانح الحياة للبشر. ولكنّنا للأسف، في الكثير من الأحيان، نتذكّر أعيادَ القدِّيسين ونصلّي لهم، وننسى الصّلاة للرّوح القدس، الّذي هو الله، الـمُساوي للآب والابن في الجوهر، كما نُعلِن في قانون الإيمان. إنّ الله يزرع فينا مواهبه من خلال الروح القدس الّذي ينمِّيها فينا، ويساعدنا للوصول إلى القداسة مُحقِّقين مشيئة الله في حياتنا. علينا أن نتوجّه في صلاتنا لا إلى الله الآب، والابن يسوع المسيح وحسب، إنّما أيضًا إلى الرّوح القدس، الّذي يمنحنا الاندفاع والقوّة لمتابعة مسيرتِنا في هذه الحياة نحو القداسة. ويمكننا أن نتَّخذ في هذا الصَّدد مثالاً لنا بعض القدِّيسين والقدِّيسات الّذين تمكّنوا من الانطلاق في محبّة الله الآب والابن، ومحبّة الكنيسة جمعاء، مِن خلال صلاتهم للرّوح القدس.
إنَّ زمن العنصرة الّذي يمتدّ لفترةٍ زمنيّة طويلة من السَّنة، يشكِّل فرصةً لنا كي نتذكّر أهميّة الرّوح القدس في حياتنا وفي حياة عيالنا وكنيستنا، فنحوِّل صلاتنا إليه، طالبين منه أن يمنحنا القوّة والمساندة لنتمكّن من متابعة مسيرتنا على هذه الأرض. في هذا الزّمن، نتذكّر انطلاقة الكنيسة مع العذراء مريم والرّسل والتّلاميذ الّذين كانوا مجتمعين في العليّة، والخوف يملأ قلوبهم خاصّةً بعد صعود المسيح إلى السّماء. لقد تبدَّد خوفهم حين حقّق الربّ يسوع وَعدَه له، إذ أرسل لهم الرّوح القدس، البارقليط. فكلّما أدرَكنا أهميّة الرّوح القدس، كلّما ازددنا نموًّا في حياتنا.
في هذا النّص الإنجيليّ الّذي تُلِيَ على مسامِعنا، نقرأ الآية القائلة: “اُنظروا، لا تحتقروا أحدًا من هؤلاء الصِّغار، فإنّي أقول لكم: إنَّ ملائكتَهم في السّماوات يُشاهِدونَ كلَّ حينٍ وَجه أبي الّذي في السّماوات”(متى 18: 10). إنّ الربّ يسوع يدعونا إلى التشبّه بالأطفال، لأنّ الأطفال يتمتَّعون ببساطة التصرّف، على عكس الرّاشدين. إنّ تصرّفات الأطفال بريئة، ولا تهدف إلى الأذيّة، حتّى وإن بَدَت في بعض الأحيان مُزعجة. إنّ تصرّفات الأطفال تشكِّل رسالةً شخصيّة للرّاشدين في بعض الأحيان كي يتَّخذوا المبادرة في تحسين بعض الأمور الخاطئة في حياتهم، وفي الحياة من حولهم.
إنّ تصرّفات الأطفال لا تشبه تصرّفات الرّاشدين: فالرّاشدون يتمسّكون بعنادهم ولا يقبلون بآراء الآخرين إذ يعتقدون أنّهم على صواب في ما يُعبِّرون عنه، وأنّ الآخرين مُخطِئون على الدّوام؛ أمّا الأطفال فهم ينصاعون لأوامر والديهم وآرائهم، من دون تحليلٍ لها أو تفكير فيها. إذًا، حين يدعونا الربّ للتشبّه بالأطفال، فهو يدعونا إلى التخلّي عن العِناد وعن التمسُّك بآرائنا، وإلى التحلّي ببساطة التصرّف، فنقبل بالإصغاء لآراء الآخرين المختلفة ومناقشتها فنصل إلى رأيٍ مشترك يجمع الآراء المتباعدة. وهذا الأمر يتطلّب مرونة من الإنسان ليتقبّل رأي الآخر، وللتخلّي عن رأيه الخاصّ إن كان خاطئًا.
إنّ الأطفال يتمتّعون بنعمة الاستسلام، فهم يقبلون بآراء والديهم من دون أيّة مناقشة، ولا يختلفون مع الآخرين، على الرّغم من اختلافهم في الرأي، فحُزنُ الأطفال لا يدوم، إذ لا تلبث أن تظهر ابتسامتهم سريعًا على وجوههم. إنَّ الأطفال يعبِّرون عن محبّتهم الصّادقة والحقيقيّة تجاه الآخرين، الّتي لا رياء فيها، أمّا الرّاشدون فيتمسَّكون بكبريائهم، مستغلِّين ضُعفَ الآخرين من خلال استغلالهم للمواهب الّتي وَضعها الله بين أيديهم.
إنّ الربّ يمنحنا تلك النِّعم لِما فيها مِن خيرٍ لنا وللآخرين. هذا ما يقصده الربّ بكلامه لنا، حين يدعونا إلى التشبّه بالأطفال: أن نتخلّى عن كبريائنا وعِنادِنا وأن نتمسَّك ببساطة الأطفال المتمثِّلة بالاستسلام الكلّي لوالديهم، ومحبّتهم الصّادقة لكلّ مَن حولهم.
في شهرِ نَيسانَ الماضي، أصدر قداسة البابا إرشادًا رسوليًّا بعنوان “افرحوا وابتهجوا”، حثَّ فيه المؤمنين في عالمنا المعاصر إلى السّعي من جديد نحو القداسة، لأنّها ليست حِكرًا على المكرّسات والمكرّسين في الكنيسة فقط، بل هي بِذرةٌ زُرِعت في كلّ مؤمِن يوم عماده، وبالتّالي على كلّ مؤمِن السّهر على نموِّها في حياته. إنّي أدعوكم إخوتي، إلى قراءة هذا الإرشاد الرّسولي والتأمّل به، لما له من أهميّة في إعطائنا غذاءً روحيًّا ودَفعًا نحو انطلاقة جديدة في حياتنا.
فكما أنّ الإنسان يحتاج إلى طعامٍ كي يستمرّ في هذه الحياة، وإلى اللّباس كي يتجنّب البرد، وإلى الأدوية لمكافحة الأمراض والمحافظة على صحّته، كذلك يحتاج الإنسان إلى التأمّل في كلمة الله، للمحافظة على حياته الروحيّة.
إنّ الحياة الروحيّة لا تنمو من خلال قراءة كلمة الله وحسب، بل تنمو أيضًا من خلال قراءة المؤمِنين لكتابات الآباء القدِّيسين، وتلاوتهم لمسبحة أمِّنا مريم. إنّ العذراء تفيض اِنعاماتها على كلّ الّذين يُصلّون بإيمانٍ مسبحتها، وهي تحميهم بثوبها المقدّس، وبخاصّة بثوب الكرمِل. إنّ قداسة البابا يوحنّا بولس الثّاني، قد نجا من محاولة اغتياله بفضل ارتدائه لثوب الكرمَل، وقد عبّر عن حماية العذراء له بثوب الكرمِل.
إذًا، إنّ الصّلوات تُساهم في نموّ حياة الإنسان الروحيّة، كما يُغذّي الطّعامُ جسدَه البشريّ الضّعيف. فكلّما ازددنا تعمّقًا في إيماننا، كلّما اكتشفنا بُعدَ المسافة بيننا وبين الربّ، وهذا يدفعُنا إلى التخلّي عن كبريائنا وعِنادِنا وعن كلّ ما مِن شأنِه أن يُبعِدنا عن الربّ لنتحلّى بالتواضع والبساطة وكلّ ما يُقرِّبنا منه.
في هذا الإرشاد الرّسوليّ، يذكِّرنا قداسة البابا فرنسيس، بأنّ القدِّيسين ليسوا فقط أولئك الّذين أُعلنَتْ قداستهم على المذابح، بل يؤكِّد لنا أنّ القدِّيسين هم فيما بيننا، فيقول لنا في الفقرة السادسة من الفصل الأوّل منه: “لا نُفكِّرنَّ فقط بالّذين تمَّ تطويبهم، أو أُعلِنت قداستهم. إنّ الرّوح القدس يفيض القداسة في كلّ مكان، في شعب الله المقدَّس والأمين، لأنّ الله قد شاء “أن يقدِّس النّاس ويخلِّصهم، لا فرديًّا وبدون أي ترابط فيما بينهم، بل أراد أن يجعلهم شعبًا يعرفه في الحقيقة، ويخدمه في القداسة”. إذًا، إنّ بِذرةَ القداسة تُزرَع في الإنسان المؤمِن في يوم عماده، ويفعِّلها المؤمِن وينمِّيها في حياته بأفعاله وأقواله، فتظهر قداسته للآخرين.
أخواتي وإخوتي، نُصلّي إلى الله واضعين أمامه كلّ أفكارنا ونوايانا، طالبين منه أن يُرسِل إلينا نِعَمِه فنتمكّن من تكريمه، هو الثّالوث الأقدس، الآب والابن والرّوح القدس. كما نسأله أن يجعل مِن كلمته الإلهيّة، غذاءنا الوحيد الّذي يقودنا إلى القداسة الحقيقيّة، القائمة على إعلاننا يسوع مَلِكًا على حياتنا. إنّ قداستنا تظهر من خلال أقوالنا وأفعالنا مع المحيطين بنا، لأنّهم أمانةٌ أعطانا إيّاها الربّ لنشهد له في وَسَطِهم.
ملاحظة: دُوِّنت العِظة بأمانةٍ من قبلنا.