محاضرة للخوري جوزف سويد،

الوكيل البطريركي للموارنة في الأردن.

“إحياء ابنَة يائيروس”(مر 5: 35-43)

النصّ الإنجيليّ:

“وبينما هو يتكلَّم، وَصلَ أُناسٌ من عند رئيسِ الـمَجمَعِ يقولون: “اِبنَتُكَ ماتَتْ فَلِمَ تُزعجُ الـمُعلِّم؟” فلَم يُبالِ يسوع بهذا الكلام، بل قالَ لرئيسِ الـمَجمَعِ: “لا تخفْ، آمِنْ فحسب”. ولم يَدَعْ أحداً يَصحبُه إلّا بطرسَ ويعقوبَ ويوحنَّا أخا يعقوب. ولـمَّا وَصلوا إلى دار رئيسِ الـمَجمَعِ، شَهِدَ ضجيجًا وأُناسًا يَبكونَ ويُعْوِلون. فَدخلَ وقالَ لهم:”لـماذا تَضِجّون وتبكون؟ لم تَمُت الصَّبيَّة، وإنّما هِيَ نائمة”، فضحكوا مِنه. أمّا هو فأخرجَهم جميعاً وسارَ بِأبي الصَّبيَّةِ وأُمِّها والَّذين كانوا معَه ودخلَ إلى حيثُ كانتِ الصَّبيَّة. فأخذَ بِيَدِ الصَّبيَّةِ وقال لها: “طَليتا قومي!” أي: يا صَبيَّة أقولُ لكِ: قومي. فقامَتِ الصَّبيَّةُ لوقتِها وأخذَت تَمشي، وكانتِ ابنةَ اثنتَي عشرَةَ سنة. فَدَهِشوا أَشَّدَّ الدَّهَش، فأوصاهم مُشدِّداً عليهم ألاّ يَعلمَ أحدٌ بذلك، وأمرَهُم أن يُطعِموها”. حقًّا والأمان لجميعكم.

التأمّل في النّص الإنجيليّ:

باسم الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

في الحقيقة، أودّ أن أشكركم على هذه الاستضافة. وأتمنّى أن تكون هذه التنشئة الّتي تقومون بها تنشئةً مفيدةً لكلِّ الأشخاص الّذين سيلتَحِقون بها. وأعلم أنَّ الكثيرين جياعٌ إلى سماع كلمة الله، وهذا العطشُ يتزايد خصوصًا في ظلّ التَّداعيات الّتي نراها في لبنان وفي العالم أجمع. هناك أسئلةٌ كثيرةٌ تُطرَح اليوم، كما أنّ هناك وجعًا كبيرًا أيضًا، على كلّ واحدٍ منّا أن يسعى إلى الإجابة عنها. اليوم، سَنَقرأ معًا هذا النَّص من إنجيل القدِّيس مرقس (5: 35- 43)، الّذي ذَكرَه أيضًا القدِّيس لوقا في إنجيله، مع وجود بعض الاختلافات بين النَّصَّين. ولكن على الرُّغم من اختلافهما، يبقى المغزى منهما واحدًا. أمام هذه الكلمة الّتي سنقرأها على مسامِعكم، نستطيع التوقُّف عند مَعانٍ ورموزٍ كثيرة.

إنّ هذا النَّص هو نصُّ إحياءِ ابنة يائيروس، وتَقرأه الكنيسة الـمارونيّة في زمن الصَّوم، مع نصّ النَّازفة. إنّ نصَّ النَّازفة وشفاءَ ابنة يائيروس متداخلان في إنجيل لوقا، أمّا في إنجيل مرقس فَنَصُّ إحياءِ ابنة يائيروس يأتي كَنَصٍّ منفصِلٍ.

كان الربُّ يسوع يتكلَّم إلى النَّاس ويتواصل معهم، حين جاء إليه رئيس المجمع طالبًا إليه أن يأتي إلى منزله لشفاء ابنته المريضة. وفيما كان رئيس المجمع يتكلَّم إلى الربِّ يسوع، إذ بمجموعةٍ من بَيتِه قد قَدِمَت إليه لتُخبره بألّا يُزعج المعلِّم لأنَّ ابنتَه قد ماتَتْ. “لا تُزعج المعلِّم”: أحيانًا نشعر أنَّنا نُزعج بعضَنا البعض ونُزعِج المعلِّم. نشعر بأنَّنا نُزعج المعلِّم، أي الربَّ يسوع، لِكَثرة ما نتكلَّم ونطلب إليه بِقَدر ما لدينا من وَجعٍ. في بعض الأحيان، قد نجد مَن يقول لنا: ما نَفعُ الكلام بَعد؟ لا نفعَ لصلواتِكم وطِلباتكم، إذ إنّها بِلا فائدة. في الحقيقة، إنَّ الربَّ يسوع يُحِبّ أن نُزعِجَه، يُحِبّ أن نطلبَ إليه ونسألَه. هَل نَسِيتُم أنّه هو الّذي طَلَبَ إلينا أن نَطلُبَ إليه؟ “اِسألوا تُعطَوا، أُطلبوا تَجدوا، اقرَعوا يُفتَح لكم” (لوقا 11: 9)، “مَن يَسألْ يَنَل، ومَن يَطلب يَجد، ومن يَقرَعْ يُفتَح له” (لوقا 11: 10).

فإذا كان الربُّ يُحِبّ أن نسأله، لماذا نخجلُ من أن نَسألَه، أو نخاف من ذلك أو بكلِّ بساطة ننسى فِعل ذلك؟ إنّ أغلَبَنا اليوم ينسى أنَّ لديه ربًّا، وأنَّ هذا الربَّ هو الباب الّذي نستطيع أن نَقرَعَه، وأنّه الإله الّذي يملك آذانًا تُصغي إلينا. إنّنا لا نَطلب إلى الله من أجلِنا وَحدنا، بل في الكثير من الأحيان، نَطلب أيضًا من أجل الآخَرين: السّلام والأمان وسواها من الأمور. وبالتّالي، إذا كان الإنسان في حالةٍ من السّلام، سينعكس هذا السّلام على الآخَرين مِن حَولِه؛ وإذا كان في حالة اضطرابٍ مع نفسه، سينعكسُ ذلك على الآخَرين أيضًا. وفي تأويلي لكلمة الله هذه: “لا تُزعِج الـمُعلِّم، ابنَتُكَ ماتت”، أي إذا أردتُ أن أعكسَ هذه الكلمة الإلهيّة على حالتِنا اليوم في لبنان، لَوَجدتُ أنّ أشخاصًا كثُرًا في لبنان يعيشون في حالة يأسٍ، وأنّ لبنان قد انتهى أمرُه في نَظَرِهم. منذ مدَّةٍ قصيرةٍ من الزّمن، كُنّا نسمَع بعض وسائل الإعلام تُعبِّر عن الوَضع في لبنان بالقَول: إنّ لبنان في العناية الفائقة، وقد ذهب البعض منها إلى القول بأنّ لبنان مات.

كُلّ هذه التوصيفات لحالة الشَّرق المتألِّم، من لبنان إلى العراق والأردنّ وإيران وليبيا، تدفعنا إلى الشُّعور بحالة الموت، وخصوصًا عندما ننظر إلى محيطنا، أي في بيوتنا وشوارِعنا وقُرانا، حتّى إنّ اليأس قد دفع البعض إلى اعتبار ذواتهم مجرَّد “تُرابٌ يمشي”. تُرى، هل وَصلنا فِعلاً إلى حَتفِنا، أي إلى النِّهاية؟ “لا تُزعج المعلِّم”، تعني أنّه ما مِن شيءٍ بعد الآن ينفَع، فالفتاة قد ماتت، والقصّة قد انتهَت؛ فَبِحسب الـمَنطِق البشريّ، دَخلت طليتا، ابنة الاثنتي عشرةَ سنة، في نفق الموت، الّذي هو نهاية كلّ شيء.

عند مجيء مجموعةٍ من النَّاس من بَيت يائيروس ليُخبروه بألّا يُزعج المعلِّم لأنَّ ابنته ماتت، نجد الربَّ يسوع يشجِّع يائيروس، طالبًا إليه أن يتحلَّى بإيمانٍ قويّ لأنّ ابنته لم تَمُت بل هي نائمة. مِن الطَّبيعيّ أنَّ الّذي سَيسمَع الربَّ يسوع يقول هذا الكلام ليائيروس، سَيَسخرُ منه حتمًا، لأنّه يَعرف أنّ الفتاة ماتت، أي أنّ الرُّوح فارقتها، وبالتّالي لا أملَ لها بالعودة إلى الحياة. غير أنّ يسوع، الّذي هو سيِّدُ الحياة، يعلم جيِّدًا أنّه هو الّذي يُعطي الحياة وهو وحده الّذي يستطيع أن يستَرِدَّها، لذلك طَلبَ إلى رئيس الـمَجمع أن يؤمن.

أَخَذَ الربُّ معه إلى بيت يائيروس ثلاثةً من تلاميذه، هُم: يعقوب، يوحنّا وبطرس، وهؤلاء الثّلاثة رافقوه في عدَّة مشاهد إنجيليّة. عندما دخل الربُّ إلى حيثُ كانت الصَّبيَة، قال لها: “طليتا، قومي”، أي “يا صبيّة قومي”. نعم، أشياءُ كثيرةٌ ماتت في داخلنا أو بالأحرى أمَتناها، وأمورٌ أُخرى ننظر إليها ونقول: “فالج، لا علاج منه”.

إلى متى سنبقى نتعاطى مع ذواتِنا والآخَرين والوَطن، كما نتعاطى مع الموت، أي نتعاطى معها كأنَّها أمورٌ لا أملَ في تحسُّنها؟ متى سنُغيِّر هذه “الأسطوانة”، فننَظُر إلى الأمور الّتي نعيشها لا على أنّها أمورٌ فَرِغَت منها الحياة، بل على أنّها أمورٌ قد تتحسَّن عندما نتمسَّك بالإيمان، كما فَعل الربُّ يسوع مع يائيروس عندما قال له: “آمن، فتَخلُص ابنَتُكَ”! نعم، القضيّة هي قضيّةُ إيمانٍ: هل لدينا إيمانٌ بهذه الأرض، الّتي تُسمّى لبنان؟ هل لدينا إيمانٌ بهذا الشَّرق؟ هل لدينا إيمانٌ بِذواتِنا؟ هل لدينا إيمانٌ بالـمُخلِّص؟ هل نحن حقًّا أُناسٌ، نُدرك أنّ أمورَنا هي بين يَدَيّ الربّ، لا بين أيدينا؟

أمام هذا النصّ، أسئلةٌ كثيرةٌ تُطرَح: عند سماعِنا أنّ طليتا ماتت، ماذا يَسعُنا القول أمام هذا الواقع المؤلم؟ إنّ الواقع هو موتُ صبيّةٍ؛ فَطَلِيتا، هذه الصَّبيّة الّتي عُمرُها مِن عُمر الورد، أصبَحت صفحةً من الماضي وقد طُوِيَت، بكلامٍ آخر، هذه الصبيّة قد انطفأت. كذلك، شَرقُنا ولبنان ينطفِئان كما انطفأت هذه الصَّبيّة. هل انتهى كلّ شيء؟ ومَتى أستطيع القول إنّه يَجِبُ العودة إلى الإيمان وقَرعَ بابِ مراحمِ الله، من خلال الطَّلب إليه أن يتدخّل لإحياء الأمور الميؤوس منها في حياتنا؟ “إسألوا تُعطَوا” (لوقا 11: 9).

ماذا علينا أن نطلب إلى الله؟ ما هو الطَّلبُ الأَعَزّ إلى قلبنا كي نَطلبه إلى الله؟ وإذا لم يكن على قلبنا طلبٌ نَطلبُه، تُرى هل هذا يشير إلى أنّنا فقَدنا الأمل والرَّجاء؟ كم مِن أشخاصٍ “بُومِيِّين” نُصادِفهم في حياتنا، “أوراقَ نَعوةٍ” يُسارِعون إلى التَّعبير عن شعورهِم بِفُقدان الأمل والرَّجاء في عودة الأمور مِن حولِهم إلى الحياة. إنّ أمثالَ هؤلاء، وهُم كُثرٌ في وطَننا الآن، يَنعون الوَطن والسيَّاسِيين وغيرها من الأمور، فيَصحُّ فيهم القول إنّهم “أوراقُ نَعوَةٍ مُتَجوِّلة”، في حين أنّ المطلوب هو أن نكون “إذاعاتٍ بِشارَتِيِّةً متجولِّة”.

تُرى، هل دَعوتي في هذه الحياة أن أكون “بُوم”، أي أَنعي كثيرًا وأتذمَّر كثيرًا وأشكو كثيرًا وأن أكون إنسانًا بائسًا ويائسًا على الدَّوام، أم أنّ دعوتي في هذه الحياة أنُ تُشِّع عيوني رجاءً وحياةً؟ في صِغَري، كنتُ أنظُر إلى السَّمكة وأتساءل: لماذا السَّمكة تَخرجُ مِن المياه وعيناها مفتوحتان؟ نعم، ما هو مطلوبٌ إلينا هو أن نَسبح في بحر هذا العالم، مع بقاء عيوننا مفتوحةً على الحياة؛ وحين ينطفئ جسدُنا الأرضيّ وتُعلَن وفاتُنا، في تلك اللَّحظة عيونُنا ستضيئ في مملكة الآب.

انطلاقًا من هذا الكلام، أُشبِّه المسيحيَّ الحقيقيّ بالسَّمكة الّتي تبقى عيناها مفتوحتَين، حتّى بعد أن تَخرج من مياه البحر الّذي تَسبح فيه! نعم، طليتا ماتت، لكنَّ يسوع لم يَرَ في موتِها إلّا نومًا. أنا أستطيعُ أن أرى في هذه الرقّدة الّتي عاشتها طليتا، وطنَنا وشرقَنا، اللّذين يعيشان في حالةِ رقادٍ، كما هي حالة العذراء، الّتي رَقَدَتْ بالربّ ولَم تَـمُت. إخوتي، إنّ المسيحيّ قد عَبَرَ الموت، ووَطِأه بمَوته كما معلِّمَه. على المسيحيّ أن يكون إنسانًا “عبوريًّا”، “فِصحيًّا”، وهذا يعني أن يتعاطى مع فِكرة الموت بِرَجاء، فَيَخرق حاجزَ الموت إذ إنّه يؤمن بأنّ بعد الموت هناك حياة، ويُدرِك أنَّ الموت ليس هو النّهاية، بل هو أوَّلُ خطوةٍ صَوب الحياة. على المسيحيّ أن يعرف قراءة علامات الحياة، وأنْ يختار الحياة.

نعم، في حياتنا، أشخاصٌ يتساءلون، كما تساءلت الجموع في بيت يائيروس عند مجيء يسوع، قائِلين في نفوسِهم: ألا يُدرِك الربُّ أنّ الصَّبيّة ماتت وليست نائمةً كما يقول؟ هل هو يسخر منّا؟ هناك أشخاصٌ إذا كلَّمتَهم على الأمل والرَّجاء والغَد الأفضل والـحُلم، أي على الأمور الّتي لا تريد أن تخسرها، يَسخرون منك قائِلِين: هل أنتَ فِعلاً تؤمن بأنَّ الغَد سيكون أفضل في لبنان وأنّ أوضاعه يمكن أن تتحسَّن؟

نعم، أنا ما زِلتُ أؤمن بأنَّ الأمور ستتحسَّن في لبنان وفي شرقِنا وفي العالم. أنا أُصدِّق لأنّي أؤمن بأنَّ القضيّة لم تكن يومًا بين أيدي أُناسٍ، بل هي في يديّ الربّ. إنَّ الربَّ يريد أن يأخذنا حتّى النِّهاية، وهنا علينا أن نعلم أنَّ مشيئة الربّ ليست أن نلعب مع “ذَنَبِ الأفعى”، فالنَّاس الّذين يُقدِّمهم لنا الإعلام على أنَّهم أبطال هذه المرحلة الَّتي نمرّ بها في أوطاننا، أي قادَتِنا وزعمائنا، هُم السَّبَبُ في ما وَصَلنا إليه.

إنَّ هؤلاء الزَّعماء والقادة ليسوا الأبطال الحقيقيِّين لِـما نعيشه، فَهُم “دُمًى متحرَّكةٌ” يُحرِّكها الشَّيطان إضافةً إلى نزواتهم وأفكارهم البائسة وأموالهم ورِفاق السُّوء الّذين يعيشون في وَسَطهم. أُطالِبُكم إخوتي، أن تَدخلوا في منطِق يسوع، الّذي سَخِر من قيافا الّذي كان بِدَوره يسخر من الربّ عندما طالبَه بالنُّزول عن الصَّليب كي يؤمن به. إنّ منطقَ الربّ يسوع يقوم على السّخرية من بيلاطس الّذي حَكمَ عليه بالموت، معتقدًا أنّه بِتِلك الطريقة يَنتهي أمرُ يسوع. إنّ منطقَ يسوع يقوم على السّخرية من الصَّالبين والهازئين والمتربِّصِين بالربّ بُغيَة التخلُّص من مشروعه لأنّه كان يحتَلّ مكانهم. كان يسوع متَّجهًا نحو “وِكر الأفعى”، أي إلى مكان اختبائها للقضاء عليها.

إخوتي، نحن نعلم أنَّ وَطننا يعيش في حالة موت على مِثال طَليتا، ولكنَّ هذا الموت ليسَ هو الموت النِّهائي. نعم، هذه الصَّبية اليوم تُدعى لبنان أو الشرق، أو أيّ شيء آخَر تريدونه؛ لا يَحقُّ لنا أن نحكم عليها بالموت، لأنَّ الله وَحده هو الذي يستطيع أن يفعلَ ذلك. نحن نعلم أنَّ هناك أشخاصًا تربَّصوا بهذه الصَّبيَة وأعلنوا وفاتها. وهنا أودُّ أن أقول لكم إنَّ الطبيبَ واحدٌ وهو يسوع الـمسيح، وهو سيأخذنا إلى حيثُ هو موجودٌ.

وحين يستسلم جميع النَّاس الّذين يشعرون بأنَّ في أيديهم مُقدَّرات ومقوِّمات الحياة مُعلِنِين أنَّه ليس باستطاعتهم شيء، سيَكون الوقت قد حان لِيَتدخَّل الله الّذي لديه الكلمة الأخيرة في أيِّ وَضعٍ كان، فعِندَه وحده كلمة الحياة. عندما أُدرك أنَّ الله هو الحياة، عندها أُدرِك أنَّه هو يستطيع أن يقول كلمته الّتي توقِظ الأموات مِن رقادهم، قائلاً للمَيْت أو الرَّاقد: تفضَّل، أُدخل إلى الحياة؛ وللّذين مِن حوله: “أطعِموه”، أي ساعدوه على استعادة صحتَّه.

إخوتي، إنَّ واقِعَنا كلّه يُشبه الواقع الّذي قرأناه في هذا النَّص، أي إنّه واقعٌ عبوريّ؛ فهذه الصَّبيَّة الّتي تَليقُ بها الحياة، الّتي ما زالت نَضِرة، أي أنّها تدفقُ حياةً وتعطيها، قد انطفأت وذَبُلَت كالزَّهرة. لو كانت الفتاة حقًّا نائمة، لَما كان هناك داعٍ لِدعوة يسوع لإيقاظها، غير أنّ الـمُحيطين بها كانوا يعلمون جيِّدًا أنّها ماتت. عند سَماعه كلامَ الجموع الّذين أعلنوا وفاة الصَّبيّة، أتى يسوع إلى هذا البيت، ليقول لهؤلاء: لقد قلتُم كلِمتكم البشريّة، فاسمَحوا لي بأنّ أقول كلمتي الإلهيّة، وقد قالها عندما أقام الفتاة من رُقادِها. إنّ الكتاب المقدَّس، العهد الجديد، يُخبرنا عن عدَّة مشاهد، كانت فيها الكلمة الأخيرة للربّ: إحياء طليتا ابنة يائيروس، إحياء لِعازَر، إحياء ابن أرملة نائين. إنَّ كلمة الله هي كلمة حياة.

اليوم، نفوسُنا ميِّتة، وأحلامُنا في حالةِ رقادٍ وموت، إضافةً إلى أُمورٍ كثيرة في داخلِنا بدأت تَذبُل وهي الآن على شَفير الموت. اليوم، عندما أَنظر إلى العديد من الشَّباب والصَّبايا الّذين يَجب أن تضجَّ فيهم الحياة وتكون كلمتهم مُرعِدة، وأَراهُم في حالة انطفاءٍ، فاقدين الرَّجاء، هذا يعني أنّ الوقت قد حان لِنُعلن ونعترف بأنّ الكلمةَ الآن هي لله وَحده. على كلمة الله أن تكون هي الأساس في حياتنا، لأنَّ كلمته هي الوحيدة الّتي تُعيد إحياء العِظام الرَّميمة، وتُشدِّدُ الإنسان.

لا أدري اليوم إنْ كُنّا نَثِق فِعلاً بأنَّ كلمة الله قادرةٌ على أن تُغيِّر الإنسان وأن تُعطيه مَعنى لحياته، وأن تُحييه، وتُعيد له الرُّوح. عندما يموت إنسانٌ، نقول إنَّ روحَه فارقَتْه “طِلعِت روحو”، ولكنَّ السُّؤال الّذي يُطرَح: إلى أين ذهب هذا الرُّوح؟ فإنْ كان الرُّوح هو مُلكُ الله وهو لا يريد أن يسترِدَّه الآن، فمَن يستطيع أن يمنعه مِن ذلك؟ فإذا كان الّذي أعطانا هذا الرُّوح هو سيِّدُه، فهل يحقُّ لي أن أقول إنّ الأمور انتهَت؟ أقول لكم إخوتي، لم ينتهِ شيء، ولكنّ الأمور قد تكون متَّجهة إلى أبعد ممّا نراهُ اليوم. لَسنا نَحن مَن يَرسم نهايات الأمور، ولا مَن يكتُبُها. في نظر الشيطان، موتُ الربِّ يسوع على الصَّليب هو النَّهاية، هو الغلبة، هو الانتصار؛ بينما نرى أنَّ موت يسوع لم يكن النِّهاية، موتُ يسوع كانَ بدايةَ تحريرِ كلُّ مَن كان مربوطًا، أو مخنوقًا، أو موضوعًا في جحيمه للشَّيطان.

ورأينا في إنجيل متّى، كيف تفتَتَّت الصُّخور، واهتَّزت القبور وتَفتَّحت، وقام الرَّاقِدون وخَرجوا مِن قبورِهم، عندما قام الربُّ يسوع. إذًا، الأمر نفسُه تَكرَّر مع طليتا. إحياء طليتا هو استباقٌ لموت الربِّ يسوع وقيامته، ومن خلال إحيائها، أراد الربُّ أنّ يقول للمؤمِنِين به إنّ رغبته هو أن يُعطينا الحياة، وأنَّ حياة هذه الفتاة هي بَين يديه. إنَّ حُلم الفتاة وأهلِها يتجسّد في أن تبقى هذه الصَّبيّة على قيد الحياة وتعيش بينهم. إنّ هذا الحُلم لا أحد يستطيع أن يُحقِّقه لهذه العائلة غيرَه هو لأنّه سيِّدُ الحياة، وبالتّالي لن يسمح الربُّ لأحدٍ بسرقة هذا الحُلم من يديّ الربّ. إذا كُنّا نرغب في أن تكون أحلامُنا وأوطانُنا قابلة للحياة، والنّاس الّذين نُحبِّهم من أبناء الحياة، علينا أن نضعهم بين يديّ الربّ. وهنا نتذكَّر الإصحاح العاشر من إنجيل يوحنّا، الّذي فيه نقرأ بِما معناه: مَن يستَطيع أن يختَطِف من يدي الله شيئًا؟ لا أحد.

إذًا، إنّ حياتي بين يديّ الربّ، وهذا يعني أنَّ الربّ هو الّذي يَهبها لنا وهو الّذي يُقرِّر مَتى يسترِدَّها منّا. إنّ الله هو الّذي أعطى الحياة لِطَليتا، وهو الّذي يستَرِدَّها منها ساعةَ يشاء هو، لا ساعة يشاء الآخَرون أي الـمُحيطون بها قائلِين للربّ: الفتاة ماتت، ونحن نستطيع أن نميِّز بين النَّوم والموت، ولسَنا بحاجة إليك كي نُعلِن وفاتها. إخوتي، نحن البشر قد نعَلم شيئًا ولكنَّ أشياءَ كثيرة عن الحياة لا نَعلَمها، لذلك يقول لنا الربُّ إنّه هو سيِّدُ الحياة.

وإذا كُنتم تؤمنون حقًّا أنّي سيُّدُ الحياة، دَعوني أعمل فأُعطي الحياة مِن جديد، دَعوني أَضُخُّ الحياة فيكم وفي كلِّ شيءٍ حولَكم. إخوتي، إنّ تفكيرنا البشريّ بعيدٌ كلَّ البُعدِ عن تفكير الله، وقد عبَّر الله عن ذلك فقال لِبطرس: “اذهب عنِي يا شيطان” (متى 16: 23) إذ إنّ فِكرَكَ هو فِكرٌ بشريّ لا فِكر الله. نعم إخوتي، أحيانًا تكون أفكارُنا بشريّة، لا أفكارًا إلهيّة.

ماذا وإلى أين يأخذنا الربّ؟ حتّى ولو فَرَغنا من الحياة، حتّى ولو لم يتبقَّ لنا رصيدٌ من الدَّقات في قلوبنا تَدُقُّ للحياة، الربُّ تركَ فينا شيئًا من دَقاتِّه السَّماويّة لتَنبُض فينا الحياة من جديد، وكم يتمنَّى الربُّ أن يقول لنا: انتهى زمانُكم على هذه الفانية، تفضَّلوا تابعوا عمركم وحياتكم الحقيقيّة معي في الملكوت السَّماويّ. أنا شخصيًّا، لا أُحبُّ أن أتكلَّم على الحياة على الأرض، وعلى الحياة في السَّماء، إنَّما أُحبّ أن أتكلَّم على عُمرٍ نقضيه على هذه الأرض وعلى حياة أبديّة نقضيها في السَّماء. هذا ما أحببت أن أقوله لكم عن هذا النَّص.

في الخِتام، أودُّ أن أطرَح عليكم هذين السُّؤالين:

“إنّها لم تَـمُت إنّها نائمة”: هل تعلمون أنَّ النِّيامَ كُثُرٌ اليوم، فماذا نقول لهم؟

النِّيامُ كُثُرٌ في عالَمنا اليوم، وأعلم أنَّ أشخاصًا كُثرًا ينامون على أموالهم، ينامون على أمجادٍ، ينامون على أملِ أن يكون الغَدُ أفضلَ. وقد يقول البعض إنّ الوقت الآن ليس مناسبًا لإظهار قُدراتهم؛ أمّا البعض الآخَر فقد يُفضِّلون السُّكوت عن بعض الأمور من أجل المحافظة على حياتهم عند تَغيُّر الأنظمة.
عادةً، عندما تجد الأمُّ أنّ ابنها قد استغرق في النَّوم طوال النَّهار، تُسارِع إلى إيقاظِه قائلةً له: هيّا يا بُنيّ، قُم من النَّوم، استيقظ، فإنَّك أَمضيتَ النَّهار بِطولِه نائمًا.
إنَّ أشياءَ كثيرةً نائمةٌ في داخِلنا: الماردُ الموجود فينا نائمٌ، البَطلُ الموجود في داخِلنا نائمٌ، أحلامُنا وقِصَصُنا الّتي نُحبُّ أن نَكتبها نائمةٌ فينا. في الكثير من الأوقات، نلاحظ وجود أشخاصٍ في هذا العالم، لا يليق بهم إلّا أن يكونوا “رجالات مقابر”. أقول لأمثال هؤلاء: متى سَيَحين الوقت، بالنِّسبة إليكم، كي تضخُّوا الحياة في هذا العالم؟ إخوتي، إنّ بعض النَّاس يستلِّذون بالنَّوم، لِدرجةٍ أنّ النَّوم يَحتَلُّ حياتهم، فيشعرون برغبةٍ في النَّوم من جديد متى استفاقوا، مع أنّ الوقت قد حان للاستيقاظ. متى ينتهي هذا الرُّقاد؟ متى يحين وقت الصَّحوة؟ في النّهاية!
إذًا، هناك أشخاصٌ ينامون على أمجادٍ، كما أنَّ هناك أشخاصٌ ينامون على كنز معلوماتٍ مهمَّة جدًّا يحتاج إليها شعبُنا وحكّامنا، ولكنَّ هؤلاء يرفضون الإفصاح عنها. للأسف، في الشَّرق الأوسط وفي لبنان، هناك قُضاةٌ يُفضِّلون الإبقاء على بعض الملَفَّات المهمَّة والدَّسمة في أدراج مكاتبهم بدلَ الكَشف عنها. تخيّلوا معي هذا الفجور! أقول لكم إنّ أمَثال هؤلاء يحتاجون إلى مَن يوقِظهم من سُباتِهم العميق.

إنّ ليتورجيّة الموتِ جميلةٌ جدًّا في كنائسنا. فَلماذا لا نزال متمسِّكين بالعادات والتَّقاليد والأعراف للتَّعبير عن حزننا؟

غريبون هُم النّاس! فَعلى الرُّغم من تعبيرهم عن الإيمان والرَّجاء والرَّحمة والمحبّة، نَراهُم عند مواجهتهم لمأساةٍ معيّنة، سُرعان ما ينهارون كما تنهار حبّات العِنَب. أَتفهّمُ بكاءنا وحزنَنا، فَيَسوع نفسه قد بكى أمام قبرِ صديقه لعازر؛ لكنْ أنا لا أستطيع أن أفهم بعض الحركات الّتي يقوم بعض النّاس في أثناء الدَّفن، على سبيل المِثال، عندما يطرق البعض بأيديهم على التّابوت، وإطلاقهم صرخاتٍ لا تُعبِّر عن الرَّجاء، وترقيص التابوت. في بعص الأحيان، حين تجمَعنا المأساة حول الجثمان، نُقيم للأسف مَندَبة غيرَ طبيعيّةٍ. إنّ ليتورجيّتنا في الكنائس الأرثوذكسيّة والبيزنطيّة والكاثوليكيّة والمارونيّة هي ليتورجيّات حياة. فعلى سبيل المِثال، في ليتورجيّتنا المارونيّة، نرتِّل قائلين:”مع يسوع الـمَيْتُ حيّ، فيه تمّ كُلُّ شيء. فالأموات في البيعة ردّوا الوديعة. خُذْ مِنهم ما سلَّمتَ، واجمعهم حيثُ أنتَ. في رؤياكَ الفردوسُ، أنتَ الملكوت. هَبْهم ذِكرى كالبَخور، في الدُّنيا واجعلهم نور. مِن نور الدَّهر الآتي، عندما تأتي، لولاكَ ضاعَ المعنى، لكنْ مُذْ أنتَ مَعنا، آمَنَّا أنَّ الموتى غابوا في الحضور”. أين نحن مِن هذا الكلام الّذي نردِّده في ليتورجيتنا في أثناء الدَّفن؟ إخوتي، مِن الطَّبيعي أن نحزَنَ على فراق الأحبّة، لكنْ “لا تحزنوا كسائر النَّاس الّذين لا رجاءَ لهم”(1 تس 4: 13). فإذا كان لدينا إيمانٌ ورَجاءٌ ومَحبّةٌ وكلّ الفضائل المسيحيّة، لا يَنقُصنا بعد ذلك إلّا واحدة وهي الثّبات فيها.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp