محاضرة للخوري لويس سعد،

خادم رعيّة مار جرجس، غوايا، القبيات.

“إحياء ابْن أرملة نائين” (لو 7: 11- 16)

النصّ الإنجيليّ:

“عندئذٍ يكونُ مَثل ملكوتِ السّماوات كَمَثل عَشرِ عذارى أَخذنَ مصابيحَهنَّ وخَرجنَ للقاء العريسِ، خَمسٌ مِنهنَّ جاهلات، وخَمسٌ عاقلات. فأخذَتِ الجاهلاتُ مصابيحَهنَّ ولم يأخذْنَ مَعهنَّ زيتًا. وأمّا العاقلات، فأخذنَ مع مصابيحِهنَّ زيتًا في آنية. وأبطأ العريسُ، فنَعِسنَ جميعًا ونِـمنَ. وعند نِصف اللّيل، علا الصِّياح: “هوَذا العريسُ! فاخرُجنَ للقائه!” فقامَت أولئكَ العذارى جميعًا وهيَّأنَ مصابيحَهنَّ. فقالَتِ الجاهِلاتُ للعاقِلات: “أعطينَنا مِن زيتِكُنَّ، فإنَّ مصابيحَنا تَنطفِئ”. فأجابَتِ العاقِلاتُ: “لعلَّه غيرُ كافٍ لنا ولَكُنَّ، فالأَولى أن تَذهَبْنَ إلى الباعة، وتَشتَريْنَ لَكُنَّ”. وبينما هُنَّ ذاهباتٌ لِيَشتَريْنَ، وَصَل العريسُ، فدَخلَت معه الـمُستَعِدَّاتُ إلى رَدهَةِ العُرسِ وأُغلِقَ الباب. وجاءَت آخِرَ الأمرِ سائرُ العذارى فَقُلنَ: “يا ربُّ، يا ربُّ، افتَحْ لنا”. فأجابَ: “الـحقَّ أقولُ لَكُنَّ: إنِّي لا أعرِفكُنَّ! فاسْهَروا إذًا لأنَّكم لا تَعلَمون اليومَ ولا السَّاعة”. الـمجد لك يا ربّ!

التأمّل في النّص الإنجيليّ:

الشُّكر لكم؛ والشُّكر لكلِّ مَن يبحث عن كلمة الله، عبرَ كافةِ وسائل التَّواصل الاجتماعيّ، لأنّ في قلبه رغبةً في سَماع صوتِ الله كما يبحث عن إسماعِ الربِّ صوتَه.
بارِكْنا يا ربّ، وبارِكْ هذا اللِّقاء، بارِكْ كلَّ صرخاتِ الّذين يريدون أن يَلمُسوا وَجهك في ملكوتك. جُلَّ همِّنا يا ربّ، ألّا تنسانا. ولكن مَن يقترِب مِنكَ حقيقةً، يُدرك أنّنا نحن الّذين ننساكَ في حين أنَّك لا تنسى أحدًا منّا. أعطِنا في هذا المساء المبارَك، مع هذه الجماعة، ومع كلّ الحاضِرين الّذين يريدون سماعَ كلمتِكَ، أن تكون كلمَتُك مصدرَ حياةٍ لنا، طالبِين إليكَ ألّا تسمح لأيّة دمعةٍ أن تسقط مِن عيوننا إلّا وهي تُمطِر بركات. آمين.

إخوتي، في غالبيّة النُّصوص الإنجيليّة، نلاحظ أنّ المرضى الّذين يحتاجون إلى شفاء مِن الربّ يسوع يتواجدون عند “بابَ مدينة”، أو عند “قارعة الطَّريق”، أو عند “باب أريحا”. وفي هذا النَّص الّذي نتأمَّل فيه اليوم، هناك شابٌ، كانت الحياة أمامه، تُودِّعه أمُّه الأرملة. كان هذا الشَّابُ، بالنِّسبة إلى أمِّه، كلَّ ما تَملِك في هذه الحياة، كان الرِّزق الّذي تَملِكه، كان ضمانتَها الوحيدة في هذه الحياة. في قلب الحُزن والألم، نَطرح على الربّ ألفَ سؤالٍ وسؤالٍ مِن دون أن نلقى منه أيَّ جوابٍ عن أسئلتنا. في ظلّ معاناتِنا، نلاحظ أنّ الربَّ يبقى صامتًا، فيُخيَّل إلينا أنّه صَنمٌ. غير أنّ الّذين اختبروا الألم في حياتهم، خصوصًا عند فقدانهم لِشخصٍ عزيزٍ بالموت أو عند مرافقتِهم لمريضٍ، اكتشفوا أنَّ صمتَ الربّ هو دعوةٌ لهم للتأمِّل في عَمَلِه، خصوصًا عندما يكون الإنسان عاجزًا عن القيام بأيّ شيء. إنّ حديثَنا اليوم سيتمحور حول الأرملة لا حول ابنِها قَبْلَ وفاته. هنا أدعوكم إخوتي، كي يَضع كلُّ واحدٍ منّا نفسَه مكان هذه الأرملة – فكلُّ واحدٍ منّا قد فقَدَ شخصًا أو شيئًا عزيزًا عليه في هذه الحياة- لنتمكَّن مِن رؤية إنسانيّة يسوع الّتي ظهرَت في هذا النَّص، بِحَسب قَولِ اللّاهوتيِين. عند رؤيته لموكب الجنازة، يخبرنا النَّص أنّ مشاعر الربِّ يسوع قد تحرَّكتْ، فدفعته إلى الاقتراب مِن النَّعش ولمسِه والتحدّث إلى الشّاب. إنّ هذه التصرُّفات تجعلُنا نُدرِك أنّ الربَّ ليس بِبَعيدٍ عنّا.

في بداية حديثنا اليوم، سأطرح عليكم سؤالَين، مِن شأنهما أن يساعدانا على وَضع أنفسِنا مكان هذه الأرملة.

السُّؤال الأوّل هو: لماذا أوقَف الربُّ بكاءَ هذه الأرملة؟

والسُّؤال الثاني هو: لماذا قام الربُّ بِلَمسِ النَّعش؟

كم أتمنَّى لو نتشارَك في كلّ كلمةٍ يَضَعها الربَّ في قلوبنا. إخوتي، إنّ الربَّ يطلب إلى كلِّ واحدٍ منّا ألّا يخاف وألا يخجل مِن التَّعبير عمّا يَضعه الله في قلبه، وأن يتجرّأ ويُخبرنا ماذا رأى أوّلاً في طلبِ الربّ إلى الأرملة التوقُّف عن البكاء، وثانيًا في لَمسِ الربّ نعشَ ابن الأرملة.

مداخلة: 

لقد رأيتُ في لمسة الربّ للنَّعش، لمسةَ رجاءٍ، تلك اللّمسة الّتي يمنحنا إيّاها الربّ في قلبِ حزننا.
إذا وَضَعْنا ذواتَنا مكان الأرملة، وشاهدنا الربَّ واضعًا يَده على ابنِنا، أي على أكثرِ شخصٍ نُحبّه في هذه الحياة، أو على أكثر شيءٍ في داخِلنا قد انجرح وخسرناه، ما هي المشاعر الّتي قد تختلج في قلوبنا؟ فلنتخيّل أنّ ربَّنا قد أتى إلينا اليوم ولمسَ هذا الوجع الّذي في داخلنا، أو هذه الخسارة الّتي تعرَّضْنا لها.

تشجَّعوا إخوتي، إنّنا نجِدُ سهولةً في التكلُّم على مصائب الآخَرين، ولكن طوبى لِمَن يسمح للرّوح القدُس أن يُخرِج وجعَه من داخله. وأنا أعتقد أنّ ما يجمعُنا بِجَماعة “أذكرني في ملكوتك”، هو أنّنا اجتَهدنا على إخراج أوجاعنا إلى العَلن، فتَحوَّل هذا الحزن الموجود في داخلنا إلى علامةِ فَرَحٍ ونِعمة وبَرَكة. في هذا النَّص، لا يُكلِّمنا الربُّ على أرملة نائين وحَسب، بل هو يُخبرنا عن كلِّ واحدٍ منّا، لذا رجاءً، إخوتي، فَلنَسمع صوتَ الربّ، ولا نُقَسِّي قلوبَنا.

إخوتي، إنّ إخراج وَجعَنا مِن الدَّاخل إلى الخارج مِن شأنه أن يُشكِّل دَعمًا للآخَرين: ففي الكثير من الأوقات، يلمس الربُّ قلوبَنا في منتصَف “الطريق”، في منتصف مسيرتنا في هذه الحياة، ويطلب إلينا أن نتوقَّف عن القيام بأمرٍ ما، كما فعَلَ مع الأرملة في هذا النَّص.

 مداخلة: 

مساء الخير، إخوتي، ما لَمسني في هذا النَّص، هو أنّ عَينَ الربّ تبقى ساهرةً علينا. ففي خِضَمّ تَعبِنا ووجَعِنا في هذه الحياة، لا نستطيع رؤية الربّ بالعَين المجرَّدة، لذا نعتقد أنّنا وَحدَنا في مواجهة هذه الأزمة أو تلك، فيُسَيطر علينا اليأس. ولكن في الحقيقة، اكتشفتُ مِن خلال اختباري أنّ الربَّ هو أبٌ لنا، وأنّه لا يترُكنا أبدًا، وأنّه يبقى إلى جانبِنا وهو يُشدِّدنا ويقوِّينا ويعزِّينا لنتخطّى صعوباتنا في هذه الحياة. عندما يَلمسُ الربُّ قلبَنا، فإنّه يمنحنا الفرح والسّلام لأنّه هو الفَرَح الحقيقيّ والسّلام الحقيقي. عندما يلمس الربُّ قلبَنا، ننسى الألم والحزن. عند دخوله إلى حياتنا، يشجِّعنا الربّ على بناء علاقةٍ قويّةٍ معه، تساعدنا على التعرّف إليه أكثر فأكثر، ممّا يمنح قلوبَنا التعزيّة الّتي نحتاج إليها. وشكرًا.

إنّ الإنسان ينظر إلى وَجعه بَعد أن يكون قد تخطّاه. ففي قلب الوجَع والحُزن، يشعر الإنسان أنّه وحدَه في هذه الحياة. وهذا ما عبَّر عنه هذا النَّص الإنجيليّ، حين استخدم عبارة “باب المدينة”، وقَصَدَ بها ذلك المكان الّذي لا حياةَ فيه، فالشَّاب والأرملة كانا ذاهِبَين إلى مكانٍ لا حياة فيه. في الكثير من الأحيان، حين نرى نعشَ أحدهم، نُسارِع إلى التأسّف على موت هذا الإنسان، ونَشكر الله ضِمنيًا على أنّ هذه المصيبة قد أصابَتْ غيرنا، ولم تُصِبنا. في هذا النَّص، يأتي الربَّ ليقول لنا إنّه يتكلَّم على وَجع كلِّ واحدٍ منّا، على مُصيبته الخاصّة.

مِن خلال وجودنا في جماعة “أذكرني في ملكوتك”، يريد الربُّ أن يقول لنا “توقَّفوا، فأنا أريد أن ألمسَكم”. وبالتّالي، إخوتي، إذا أردْنا أن نسمع صوتَ الربّ في قلوبنا، فهذا يعني أنّه على قلوبنا أن تكون مليئةً بالدِّفء والحرارة، كي نتمكَّن مِن الولادة مِن جديد مع الربّ، فإنّ هذه الولادة تَنبعُ من الدَّاخل. إنّ ولادَتنا الجديدة تَظهر إلى العَلن، عندما نسمَح لها بِذَلك، أي عندما نُعبِّر عمّا في قلوبنا.

في المشهد الأوّل مِن هذا النَّص، نلاحظ أنّ الأرملة بَقِيَت صامتةً طول الطريق، في حين أنّ الجموع المحيطة بها كانت تُشيد بمزايا تلك الأرملة. كانت الجموع تبكي على الأرملة، لا على ابنها، فهذه الأرملة، بوفاة ابنها، قد خَسِرَت كلّ ما تَملِك في هذه الحياة. هذه هي إحدى ثمار الحياة الـمُشتركة. حين تُلغى الحياة المشتركة، يُسارِع الإنسان إلى طَرح الأسئلة على ذاتِه لمعرفةِ سببَ حصولِ هذه المصيبة معه، فَيَعتقد بعد قيامِه بفحصِ ضميرٍ، أنّ ما أصابه هو عبارةٌ عن قصاصٍ حصلَ عليه نتيجةَ عملٍ خاطئٍ قام به في حياته. في ظلّ الحزن الّذي نتعرَّض له، يَضع الربُّ في طريق حياتنا أشخاصًا، هُم علاماتُ تعزيةٍ ورجاءٍ لنا، ولكنْ تَبقى للربّ كلمةً يقولها.

إنّ الربَّ ينتظرنا، عند بابِ حياتنا الاجتماعيّة، للِّقاء بنا، فالربُّ لا يَقبل أن يكون الموت الّذي نعاني منه موتًا نهائيًا لنا، لأنّه يرغب في تحويل موتِنا هذا إلى علامةِ حياة. في داخل كلِّ إنسانٍ، موتٌ لا يَبكيه أحدٌ ولا حتّى الإنسان نفسَه، يكمن في عيشِ هذا الأخير بعيدًا عن نِعمة الله وهو لا يَعلم بِذَلك، فيكون هذا الإنسان مَيتًا مِن دون أن يُدرِك ذلك. اليوم، يريد الربُّ أن يدخل إلى “نائين”، أي أنّه يريد أن يدخل إلى قلب كلِّ واحدٍ منّا، ليقول كلمتَه.

والآن أريد أن أسمع صدى كلمة الربّ مِنكم، إخوتي. إنّ الرّوح يتمخَّض فينا، لأنّه يرغب في الخروج مِن داخلنا، على الرُّغم مِن محاولاتِنا المتعدِّدة لإبقائه مسجونًا في داخلنا. إنّه يتمخَّض فينا أكثر فأكثر، لأنّه يريد أن يتفجَّر إلى الخارج، لذا رجاءً إخوتي، لا تُوقِفوه فيكم بل ساعدوه كي يَخرجَ إلى العَلن. إنّ الوقت الآن متاحٌ لنا كي نتشاركَ خُبراتِنا الخاصّة، فكلُّ واحدٍ منّا قد عاش اختبار هذه الأرملة، فكلُّ واحدٍ منّا هو هذه الأرملة لأنَّه فقَدَ شيئًا في حياته أو خسِرَ إنسانًا عزيزًا على قلبه، مِن دون أن يعرف سببَ فقدانه له. إنّ الإنسان قد يخسَر شيئًا خارجًا عنه، كما قد يخسر شيئًا في داخله، وفي الحالَتين يشعر بأنّه متروكٌ من الربّ، وأنّه ضحيّةٌ بين أهله وأقاربه وبيئتِه وعَملِه، مِن دون أن يحصل على جوابٍ من الربّ يُفسِّر له سببَ تعرُّضه لهذه الخسارة. اليوم، إخوتي، يأتي هذا النّص، ليُخبرنا أنّ الربَّ جاء ليتدخَّل في حياتنا مِن جديد، ولذا هو يطلب إلينا أن نتكلَّم.

سؤال: ما هو قَصدُ الربِّ يسوع من اقترابه مِن النَّعش ولَمَسِه، والقول للفتى “قُم”، مع العِلم أنّ هذه الأرملة لا تَعرِف يسوع، وبالتّالي، فالربّ لم يُقِم ابنَها نتيجةَ إيمانها به؛ على عكس النّازفة الّتي نالت الشِّفاء مِن مرضِها، بسبب إيمانها به. والسُّؤال هو: هل بالإيمان وبِغَير الإيمان يتمُّ الشّفاء مِن الربّ؟

هذا السُّؤال هو سؤالٌ مِحوريّ، ونحن بحاجةٍ كي تُعطينا أُمّنا الكنيسة الجواب الشّافي عنه. أوّلاً، إنّ الله ليسَ تاجرًا لديه مشاريع، ويَبحث عن شركاءَ له قادرين على تقديم الرِّبح الوفير له! إنّ الربّ يتشارك، لتَحقيق مشاريعه، مع أشخاصٍ يُسبِّبون له الخسارة في كلِّ عملٍ يقوم به. إنّ الإيمان ليس مِعيارًا يرتكز عليه الربّ كي يلمسَ قلوبَنا، فَحُبُّ الربِّ وحده هو كافٍ لِشفائِنا. للأسف، في الكثير من الأحيان، لا يجرؤ الكثيرون مِنّا على الإعلان عن حاجاتهم أمام الربّ، إذ يعتقدون أنّه من الطَّبيعي أن يتعرَّض الإنسانُ لظروفٍ صعبةٍ في حياته، ولا ينجح في الخروج منها جميعها. ولكن، هل نستطيع إنكار عناية الله الدّائمة بنا؟! في الكثير من الأوقات، يتكلّم الربّ إلينا مِن خلال كلمةٍ صَدَرت مِن عابرِ سبيل، كما يستطيع الربّ أن يكلِّمنا مِن خلال لقائنا بشخصٍ ما، أو مِن خلال رؤيتنا لِحُلمٍ، أو مِن خلال ظهورٍ. وبالتّالي، ليس مِن الضروريّ أن يكون الإنسان مؤمِنًا حتّى يُفيضَ الربّ عليه عطاياه. وخَيرُ مِثالٍ على ذلك هُم الأهل، الّذين لا يتردَّدون عن تقديم الطَّعام لأولادهم، والاعتناء بصحتّهم، أكان هؤلاء مُطيعِين لهم أم لا. إنّ الربَّ يمنحنا عطاياه، أكُنّا مستحقِّين لها أَم لا، لأنّنا أبناؤه.

استنادًا إلى الشَّريعة اليهوديّة، لا يجوز لأحدٍ الاقتراب مِن النَّعش ولَمسِه إلّا أهل الفقيد، لئلّا يتنجَّس، وبالتّالي يُصبح محتَّمًا عليه، كما أهلُ الفقيد، اتِّباع إرشادات التَّطهير كما تقتضي الشريعة، الّتي تمتَّد إلى فترةِ أسبوع، قَبْل عودَتهم إلى مخالَطة الجماعة مِن جديد. في هذا النَّص، تخطّى يسوع الشَّريعة اليهوديّة، إذ لم يخَفْ مِن أن يتنجَّس جرّاء لمسِه النَّعش، بل تجرّأ على الاستجابة لصَرخاتِ الجموع الّتي كانت تُرافِق هذه الأرملة.

إخوتي، هناك مَثلٌ شائع يقول: “اِفعَل الخير وارمِه في البحر”. في الحقيقة، لا شيءَ يُرمى في البَحر مع الربّ، فالربّ يَحفَظ كلَّ ما نقوم به مِن خيرٍ، ويُعيده إلينا في الوقت الّذي نحتاج إليه. بعد لَمسِه النَّعش، أمرَ الربُّ الشّابَ قائلاً له: “يا فتى، لكَ أقولُ قُم!” (لو 7: 14). إنّ الربَّ قد استخدم هذه العبارة أيضًا مع لعازر حين أقامه من الموت. إنّ استخدامَ لغةِ الأمر هو دليلٌ على الحضور الإلهيّ، الّذي لا ينتظر إذنًا مِنّا كي يُعطينا الحياة الّتي نريدها بِقُوّةٍ. عندما يكون جسدُنا غيرَ قادرٍ على إعطائنا الحياة، يأتي الربُّ ليُعطي الحياة مِن جديد لهذا الجسد المائت. بعد إقامته لِهذا الشَّاب، فتَح الربُّ حوارًا معه، إذ يقول لنا النَّص إنّ هذا الشّاب أخذ يتكلَّم، ثمَّ يُضيف قائلاً لنا إنّ الربَّ قد سلَّمه بعد ذلك إلى أمِّه.

وهنا يُطرَح السُّؤال: إلى مَن كان هذا الشَّاب يتكلَّم بَعد إقامته من الموت وقَبْلَ تسليمه إلى أُمِّه؟ قَبْلَ موته، كان هذا الشَّاب يتكلَّم إلى الربّ، ولكنّ موتَه أوَقف هذا الحوار بينهما؛ فما كان مِن الربّ إلّا أن أعادَ لهذا الشّابِ الحياةَ ليُتابِع حوارَه مع الربّ، فالربُّ لا يقطع أيَّ حوارٍ بينه وبين الإنسان، حتّى بَعد الموت. إذًا، ليس السِّرُّ في هذا النَّص أنّ الشَّابَ عاد إلى الحياة، فهذا الشَّاب سيَموت بَعد مُدَّةٍ من الزَّمن، مهما قَصُرَت أو طالَت، كما يموت كلُّ إنسانٍ.
هنا أرغب في سماعِ أسئلتكم أو مشاركاتِكم لأنّ كلَّ كلمةٍ تَصدر مِنكم قادرةٌ أن تُشعِلنا مِن جديد، بكلمة الله.

سؤال: إنّ الربَّ يسمح بالألم، في فترة المرض، فيَكونُ هذا الألم بمثابة عمليّة تطهيرٍ للإنسان مِن خطاياه. ولكن، في بعض الأحيان، قد يموت الإنسانُ فجأةً، مِن دون أن يكون هذا الأخير قد استعدَّ للقاء الربّ وجهًا لوجه، مِن خلال سرّ التَّوبة. هنا نسأل: ما هو مصير هذا الإنسان الّذي لم يَحظَ بِفَترةٍ زمنيّة للتَّوبة أي للعودة إلى الله، قَبْل موته المفاجئ؟

أوّلاً، إنّ اللهَ لا يمنعُ الألم، وبالتّالي هو لا يسمح بالألم. في النِّظام الّذي وَضَعه الربّ، جميعُ المخلوقات معرَّضةٌ للموت والألم لأنّها مخلوقاتٌ ضعيفة، فهي ليسَت الله. إنّ كلَّ إنسانٍ يَحمِل في ذاتِه جيناتٍ وَرِثها عن أبَويه: مِنها ما تحمل أمراضًا، ومِنها ما تحمل احتياجاتٍ خاصّة، أي بمعنى آخَر، نحن نَرِث الضُّعف. كما أنّنا نتعرَّض لحوادثَ في حياتِنا، أكانت عامّةً أو خاصَّة. إنّ كلَّ ما خلقَه الله، سيَنتهي يومًا ما. لذلك، عندما خَلَق الربُّ هذه الحياة، لم يَضَع فيها أمورًا مسموحةً وأخرى ممنوعةً. غير أنَّ الإنسان قد يتعرَّض في حياته الأرضيّة إلى حادثةٍ معيّنة أو مَرضٍ معيّن، يدفعه إلى استعراضِ حياته سريعًا، فيَكتشف مِن خلال ما حدثَ معه أنّ الربَّ يُنبِّهُه إلى أمرٍ ما، فيتوب إليه. في حين أنّ آخرين قد يتعرَّضون لمرضٍ أو حادثة، فيموتون على إِثر ما تعرّضوا له سريعًا، وبالتّالي، لا يملكون الوقت للقيام بِفَحصِ ضميرٍ والعودة إلى الله في سرّ التَّوبة.

وهنا، سأتوقَّف عند القسم الأوّل مِن السَّؤال، وهو إذا تعرَّضَ الإنسان لحادثٍ وامتَلكَ الوقت لمراجعة حياته: نلاحظُ أنّ البعض يعتبرون نجاتهم ممّا تعرّضوا له، هو نتيجة حظِّهم الجيّد، فيعتبرون أنّ الّذين ماتوا قد كانوا سَيئ الحظّ. أمّا البَعض الآخَر من النَّاس، فيعتبرون أنّ كلَّ ما يحصل معهم هو علاماتٌ مِن الربّ لهم، هنا نتذكَّر قَول بولس الرَّسول:” فإذا كُنتُم تأكُلون أو تَشرَبون أو تَفعَلون شَيئًا، فافعَلوا كُلَّ شَيءٍ لِمَجدِ الله” (1كور10: 31)، وبالتّالي، فإنَّ كلَّ ما نَملِك هو من الربّ. في الكثير مِن الأحيان، حين نتعرَّض لألمٍ مُعَيّنٍ، نلاحظ أنّ الإنسان المتألِّم فقط يستطيع أن يفهم ما نشعر به ونقوله؛ كذلك الأمر عندما نجوع، إذ نلاحظ أنّ الجائع وحدَه يستطيع أن يفهَم ما نَشعر به. إنّ يسوع قد عاش قمّة الفَقر في حياته: مِن الميلاد في مِذود، والعيش غريبًا في قريته الأُّم، قرية مار يوسف، إلى الموت على الصَّليب عُريانًا. إنّ الربَّ يسوع قد اختبر الفَقر، خصوصًا أنّه قال للّذين يتبعونه إنّ ابنَ الإنسان لا يَملك ما يُسنِد إليه رأسه.

وهنا نَطرح السُّؤال: أَلَم يتمكَّن الربُّ، هذا الإنسان الفقير، مِن أن يُغني الكثيرين؟ أقول لكم: بلى! فإنّنا لا نزال حتّى اليوم نغتني منه، والدَّليل هو أنّ لِكلِّ واحدٍ مِنّا قصَّةَ حبٍّ مع هذا الإله. عندما يكون الإنسانُ غيرَ ناضِجٍ روحيًّا، فإنّ القدِّيسِين يأتون إلى مساندته والتشفُّع له عند الربّ. وبالتّالي، جميع المؤمنين هم رابحون، لأنّه ما أُقصِّرُ به مِن حُبٍّ في هذه الحياة، يُكمِّله القدِّيسون شُفعاؤنا، أحبّاء الله. وهنا نتذكَّر قول الرَّسول لنا إنّنا نُكمِّل في جسدنا ما نَقُصَ من آلامٍ في جسدِ المسيح، أي أنّه علينا أن نحملَ نقائصَ بعضِنا البعض. طوبى إخوتي، للّذي يبقى ابنًا لله، ويعرِف البيت ويعلَم ما في البيت، في هذا الإطار، نتذكَّر قَول الربّ لتلاميذه: “لا أعودُ أُسَمِّيكُم عبيدًا، لأنّ العَبدَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه، لكنِّي قد سَمَّيتُكُم أحِبّاء لأنّي أعلَمتُكُم بِكُلِّ ما سَمِعتُه مِن أبي”. (يو 15: 15). إذًا، إنّ دورَ المؤمِن يكمن في أن يَحمل غير المؤمِن، ودَور الإنسان النَّاضج روحيًّا يكمن في أن يحمل الإنسان غير النَّاضج روحيًا. هذه هي شَرِكة القدِّيسين، هذه هي الكنيسة.

سؤال: هل كُلُّ الّذين حَصَلوا على الشِّفاء الجسديّ من الربّ، قد خِلُصوا فِعلاً ورَبِحوا الأبديّة؟

سنَعكسُ المعادلة، ونقول: ماذا يستفيد الإنسان الّذي شُفيَ جسديًّا، إنْ لم يَكن قد التَقى بالربّ؟ ماذا يستفيد الإنسان الّذي تمكَّن مِن تأمين مصروفِه اليوميّ، إنْ لم يتمكَّن مِن تَذوُّق طَعمَ اللَّحظة الحاضرة؟ وهنا نتذكَّر كلّ ما يَحدث مع غير المؤمِنين عند زيارتهم لضريح مار شربل، وحصولهم على الشِّفاء. بعد شفائهم، نطرَح عليهم بعض الأسئلة لِمعرفة ما إذا كان هذا الشِّفاء الّذي حصلوا عليه قد أدَّى إلى ولادةٍ جديدةٍ، وإلى لقائهم بالّذي سَكِر به القدِّيس شربل. فيأتي الجواب إيجابيًّا، إذ نجِدُهم يعتبرون القدِّيس شَربل، أحد أولياء الله.

إذًا، تحوَّلَ مار شربل في حياة هؤلاء غير المؤمِنِين إلى نوعٍ مِن التَديُّن الطبيعيّ: فالإنسان غالبًا ما يلجأ إلى الله مُلتَمِسًا منه أعجوبةً لحياته. وبالتّالي، إذا كانت علاقتُنا بالربّ، نحن المؤمنِون، تقتصِر على أعجوبةٍ ما، فَهُنا يَصُحُّ فينا قَول مار بولس الرَّسول: “إنْ كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح، فإنّنا أشقى جميع الناس” (1 كور 15: 19)، أي أنّه إذا كان كلُّ هدفي في هذه الحياة المحافظة على حياة هذا الجسد الّذي هو “مِن التُّراب وإلى التُّراب يَعود”، فأنا أشقى النَّاس على هذه الأرض. إخوتي، على المؤمِن أن يسعى إلى بناء علاقة صداقة مع الربّ.

إنّ الأشخاص الّذين بَنوا علاقة مع الربّ، لم يطلبوا منه الشَّفاء عندما تعرَّضوا للأمراض والأوجاع. إنّ القدِّيس اغناطيوس دو لويولا، يدعونا إلى عدم التحيُّز في علاقتِنا مع الربّ، فكما نَقبَل منه الصِّحة، علينا أن نَقبَل أمراضنا. إخوتي، في الكثير من الأحيان، قد لا تكون الصَّحة الجسديّة لِخَلاص الإنسان وسببًا لتسبيحِ الله، بل المرض. في هذا الإطار، يقول لنا الربُّ يسوع: “لا تَخافوا مِن الّذِين يَقتُلون الجسَدَ ولكِنَّ النَّفسَ لا يَقدِرون أن يَقتُلوها، بل خافوا بالحَريِّ مِن الَّذي يَقدِر أن يُهلِكَ النَّفسَ والجَسَدَ كِلَيهما في جَهنَّم”(متى 10: 28).

سؤال: كيف نستطيع أن نُعزِّي أُمًّا فقدَت وَلدها، وهي لا تَقبَل أيَّ كلمةِ تعزيةٍ مِن الآخَرين، وهي الآن تَفقد إيمانها؟

نحن لا نستطيع أن نقول لها أيَّ شيء، إذ ما مِن كلماتٍ تُقال في قلب هذا الحُزن العميق، ولكنّنا نستطيع أن نكون إلى جانبِها، كما فعلَ الربّ يسوع: نحن نستطيع أن نلمُسَها ونخبرها أنّنا إلى جانبها في حالِ احتاجَت إلى أيِّ شيءٍ. فإنّه ما مِن كلمةٍ تستطيع أن تُعطي هذه الأُمّ الحزينة، على فقدان ابنِها، جوابًا شافيًا عن سبب تعرُّضِها لِهذه الخسارة. عند تعرُّضنا للحزن، نجد أنّ الربَّ يبقى صامتًا إذ لا يُعطينا أيَّ جوابٍ شافٍ. إنّ الربّ يتركنا نعيش الصَّمت في هذه الأزمة الّتي نعيشها، ويُعطينا صَمته، فَمن نكون نحن حتّى نُعطي الآخَرين كلماتٍ قد لا تساعدهم على تخطِّي هذه المرحلة! علينا في هذه الحالات، أن نسعى إلى التشبُّه بالمسيح، فنَصمُت أمام حُزن الآخَرين.

إخوتي، فَلنترُك هذا الإنسان المحزون المتألَّم يُعيد النَّظر في حياته، ليتمكَّن مِن تجديد نظرته إليها. إنّ الله لا يُعطي أيَّ إنسانٍ صليبًا فوق طاقته، وعندما يشعر الإنسانُ أنّ صليبه ثقيلٌ عليه، يكون الربُّ هو الّذي يَحمل هذا الصَّليب واضعًا الإنسان على كَتِفَيه. لذلك، إخوتي، لِنتَخِّذ موقفَ الربّ مع الحزانى مِن بَينِنا على فقدان أحبَّتهم، مِن خلال الوقوف إلى جانبهم كما فَعَل الربّ، تاركِين هؤلاء يقومون بمسيرتهم في حَملِ صُلبانِهم. إنّ الإنسان المتألِّم يحتاج إلى “سِمعان القيراونيّ” في حياته، كي يساعده على متابعة مسيرته في هذه الحياة. إنّ سِمعان القَيراونيّ لم يَنطقْ بكلمةٍ، ولكنَّه قام بما طُلِب إليه فأعان الربَّ يسوع على حَملِ الصَّليب. لقد كان إلى جانب الربّ في حَملِ الصَّليب، أي أنّه عمِل على مساندة الربّ.

سؤال: ما الفرق بين المَخاض، والنِّزاع أو الألم الجسديّ؟ أيّهما أصعب؟

إنّ الـمَخاض هو أَلمُ المرأة الحُبلى، وهو نتيجةُ تَحرُّك الجنين في أحشائها، فهذا الجنين يريد أن يخرج إلى الحياة ويُولَد فيها. وهذا الألم يوضَع ضِمن خانة الألم الإيجابيّ. أمّا النِّزاع فهو يوضع ضمن خانة الألم السَّلبيّ. إنّ الـمَخاض يُشير إلى اقتراب ولادةِ إنسان من إنسانٍ آخَر.

إنّ النّزاع هو عبارةٌ عن صراعٍ في الإنسان بين رغبته في البقاء في هذه الحياة، عندما يكون الموت يُصارِع لانتزاع هذه الرَّغبة منه. إنّ الألم الجسديّ يحتاج إلى مُسَكنِّات لَيَرقُدَ الوَجع. إنّ التحدِّي يكمن في عيش الإنسان صراعًا ما بين رغبته في الحياة في حين أنَّ الموت يتآكله، وهذا ما يُسمَّى النِّزاع. إنّ بعض الأشخاص يَسعَون إلى التمسُّك بهذه الحياة، لأنّهم يَرفضون الموت؛ أمّا آخَرون فيَستَسلِمون للموت لأنّهم لا يريدون الحياة. وهناك قِسمٌ ثالث من النَّاس، وَهُم الّذين يتمسَّكون بالربّ، فيَستسلِمون له، أكان في الحياة أو في الموت. وبالتّالي، عند النِّزاع، سيَكون لكلِّ إنسانٍ خبرتَه، وفي هذه المرحلة عليه أن يختار بَين ما يريده وبَين ما يخاف أن يخسره. إنّ الّذين يتمسَّكون بِشِدَّةٍ بِهذه الحياة الأرضيّة، يُسارعون إلى تخليد أسمائهم، من خلال وَضعِ لوائح على كلِّ عملٍ قاموا به في هذه الحياة، عندما يَعلمون أنَّ ساعةَ مغادرتهم هذه الحياة قد اقتَرَبَت، كما نلاحظ استعدادِهم لِصَرف كلِّ أموالهم لإضافةِ يومٍ واحدٍ على حياتهم.

هُنا يُطرَح السُّؤال: هل عَيشُ النِّزاع بهذه الطريقة، يقود الإنسان إلى القيامة؟ 

بالطَّبع لا! بل هو يدفعنا إلى التَّساؤل حول وجود القيامة. مِن ناحيةٍ أُخرى، هناك أشخاص يعيشون النِّزاع كما عاش مار بولس نِزَاعه: فَمار بولس كان يُفضِّل الحياة مع المسيح على البقاء في هذه الفانية، ولكنّه لا مانعَ لديه مِن البقاء في هذه الحياة إن كان وجوده فيها يُشكِّل خدمةً للجماعة المحيطة به. كانت رغبةُ بولس وبقاؤه في هذه الحياة تكمن في زرعِ شهوة العيش مع الربّ، عند جميع البشر. إخوتي، إنّ نزاعَ القدِّيس يختلف كثيرًا عن نزاعِ الإنسان الّذي لم يلتَقِ بِحُبّ الله.

مداخلة: المجد لله، دائمًا لله!
قَدَّسَك الله أبونا، وبَرَكة ربِّنا تكون معكم جميعًا إخوتي. في الحقيقة، إنّ هذا الإنجيل يَروي قصَّتي أنا. أنا أعتَبِرُ أنّ هذه المرأة هي الكنيسة، وعندما يَبتعد أحد المؤمنِين عنها، تَبكيه. والإخوة الّذين يُصلُّون في هذه الكنيسة، هم يُشكِّلون “دموع الكنيسة”.

في حياتي، مَررتُ بِظُروفٍ صَعبةٍ، دفعَتني إلى التَّخلي عن الكنيسة، وعدم الذَّهاب إليها مُجددًا. ولكن في أحد الأيّام، أَظلَمَت الحياة في وَجهي وأصبحتُ لا أعرف ماذا عليَّ فِعله. فقرَّرتُ عندئذٍ الانطلاق بسيارتي، لارتكاب جريمةٍ مُتَذرِّعًا بسكينٍ كان في يدي. وحين كنتُ أقود سيارتي، فجأةً اكتشَفتُ أنِّي تُهتُ وأصبحت أمام باب الكنيسة، فدَخلتُ إليها، وإذا بي أُفاجأ بجماعةِ الرُّوح القدس “دموع الكنيسة” مجتمعةً للصَّلاة، وقد تعرَّفَتْ إليَّ إحدى الحاضِرات فاقتَربَت مني وسألتني عن أخباري، الّتي انقطعَتْ عنهم مُنذ زمنٍ طويل. فأخبرتُها إنّي ذاهب لأنفذَّ جريمةً، وألّا تحاول مَنعي من ذلك، عندها أخبرَتني أنّ الأسقف حاضرٌ معهم، وهو قد أنهى رياضةً روحيّة قام بها لِاثنَي عشر كاهنًا، على عدد رُسل المسيح، وشجَّعتني لأقترب من الأُسقف وأسلِّم عليه، فوافَقتُ. احتفل الأسقف بالقدَّاس الإلهيّ، وبعد القدَّاس اقترب منِّي ووَضَعَ يَدَه عليّ، فشَعرتُ حينها أنَّ رغبتي في ارتكاب جريمة قد تلاشَتْ.

إخوتي، إنّ الربَّ يومَها قد أقامني مِن الموت، وقيامتي هذه قادَتني إلى أن أُصبح اليوم راهبًا، واكتشفتُ أنّ الربَّ أعطاني الحياة الأبديّة. أشكرُ ربِّي على هذه النِّعمة الّتي أعطاني إيّاها: بعد أن كُنتُ مَيْتًا، أحياني من جديد.

سؤال: هل حَملُ سِمعان القيراونيّ للصَّليب مع الربّ، يُفسِّر لنا قَول بولس الرَّسول : “أُكَمِّلُ نَقائِص شَدائد المسيح في جسمي لأجل جَسَده، الَّذي هو الكَنيسة” (كولوسي 1: 24)؟

في الكتاب المقدَّس، يقول لنا القدِّيس يوحنّا إنّه كَتَب عن بعض ما قام به الربّ يسوع كي نؤمِن، وأنّه لو أراد كتابةَ اختبارات كلِّ الّذين التَقوا بِحُبّ الربّ، لما كان كلُّ قرطاس العالَم كافيًا لِذَلك. ما يُخبرنا به الكِتاب المقدَّس عن سِمعان القيرواني هو أنّه تَمَّ تسخيرِه لِمساندة الربّ في حَملِ الصَّليب. وهنا أودُّ أن أخبركم هذه القصَّة: يُخبرون عن إنسانٍ مُلحدٍ قرّر أن يجعل امرأةً مؤمنةً تقيّةً تُنكِر الله، فقال لِصديقه المؤمِن: أنظُر إلى تلك المرأة الفقيرة، فإنّها حتمًا ستُنكِر الله بعد ما سأفعله معها. عندها، قام هذا الرَّجل الـمُلحد بإرسال الطَّعام إليها بشكلٍ يوميّ مع خادمه، مِن دون إخبارها عن اسم صاحب هذه اليَد البيضاء الّتي تهتَّم بها. غير أنّها كانت تُصِرُّ على معرفةِ اسم صاحب هذا القلب المِعطاء، فانزعج منها الخادم وقال لها الشَّيطان. فما كان مِن المرأة إلّا أن شكرَتْ الربّ لأنّه سخَّر الشَّيطانَ نفسَه لِخدمتِها، وليُخبرِها أنّ الربَّ لن يتخلَّى عنها.

تمّ تسخير سِمعان القيراونيّ لِمساندة الربّ في حَملِ الصَّليب، وهو لا يعرف مَن يكون الربَّ. هنا أتذكَّر قول الربّ يسوع: “مَن يَقبَلُ نَبيًّا بِاسمِ نَبيٍّ فأجرَ نَبيٍّ يأخُذُ، ومَن يَقبَلُ بارًّا بِاسمِ بارّ فأجرَ بارّ يأخُذُ” (متى 10: 41). فإذا كانت خَشبةُ الصَّليب الّتي صُلِب عليها الربّ والّتي عليها دمُ يسوع، لم تتمكّن مِن دَفع سِمعان القيراوني للاستفادة مِنها، تكون الكنيسة قد حَملَت سِمعان القيراونيّ في صلاتها، وجعَلَته مِن خلال صلاتها يستفيد مِن صليب الربّ. غير أنّه مِن غير الممكن أن يلتقي الإنسان بالربّ، ولا يستفيد مِن لقائه به، حتّى لو كان ذلك اللِّقاء صامتًا، إذ كان الإنسان منفتِحًا على الربّ. وهذا ما أكدَّه لنا الأخ شربل منذ قليلٍ في شهادة حياته الّتي قدَّمها لنا: فإنّه لو لم يكن الأخ شربل منفتِحًا على الربّ لَما كان باستطاعة أحدٍ نزعَ السِّكين مِن يده ورَدعِه عمّا كان ينوي فِعله. إذًا، الربُّ يكلِّمنا بطريقةٍ شخصيّةٍ ويجذبُنا بطريقةٍ شخصيّة، ثمَّ يَضَع أمامنا “سِمعان القيراوني”، كما قد يَضع أمامَنا أشخاصًا مُلحِدين، كما حصل مع الأخ شربل من “جماعة الرّوح القدس”. فلنسمَح إخوتي للربّ، بأن يقوم هو بالفِعل، لا نحن.

مداخلة: كلّ إنسانٍ يعيشُ موتًا روحيًّا، هو بحاجةٍ إلى لمسةِ الربّ، كي يحيا وينطلق مِن جديد إلى قيامة الحياة.

إنّ كلّ إنسانٍ، يجد الموت الجسديّ موتًا سَهلاً، إذا ما قورِنَ بالموت الرُّوحيّ. إنّ الموت الروحيّ عند الإنسان، يبدأ عندما يتمسَّك بالأنانيّة في ما يحصل عليه، فيشعر بالاكتفاء حين يكون هذا الأخير في حالةٍ من الشَّبَع الماديّ للطَّعام، وفي حالةٍ صِحيّةٍ جيَّدة، إذ إنّ كلّ ما يَعنيه في هذه الحياة هو نفسُه فقط دون الآخَرين. إذا توقّفَ الإنسان في أنانيّته عند كلمة “أنا فقط”، فإنّه سيُصلِّي إلى الله ويقوم بأعمالٍ صالحةٍ، ويخدم الآخَرين مِن أجل أن يُعطيه الربّ كلَّ ما يسأله إيّاه. هذا هو الموت الرُّوحيّ الّذي على كلِّ إنسانٍ أن يَتجنَّب الوقوع فيه. في “مَثل لعازر والغنيّ”، أراد الغنيُّ تسخيرَ لعازر لِخدمته حتّى بعد الموت، إذ طَلَب الغنيُّ مِن ابراهيم أن يُرسِل لعازر إليه ليَبُلَّ طرَف لسانه بالماء، مع العِلم أنّ الغنيَّ حين كان في هذه الحياة، كان يلتقي بِلعازر كلّ يومٍ عند باب بيته، ويراه مطروحًا وكان لا يهتمّ لمساعدته. لا تسمح يا ربّ بأن نموت روحيًّا، بل فقط جسديًّا. ونحن نفضِّل أن نموت جسديًا بشكلٍ يوميّ على أن نتعرَّض للموت الرُّوحيّ.

في الآية 13، قال الربُّ للمرأة: “لا تبكي”. إنّ كلمة “لا تبكي” للمرأة الحزينة على موت ابنها، لا تعكس جوَّ الحزن الّذي نحن في صددِه. أن يقول الربُّ للمرأة “لا تبكي”، تُشبه كمَن يُخبرنا فكاهةً وينتظر منّا أن نتجاوب معه ونضحك، ونحن في حالةِ حزنٍ نتيجة فقداننا لأحد الأحبّاء. إذًا، لو قال شخصٌ آخَر هذه الكلمة للأرملة، لَقُلنا فيه إنّه إنسانٌ غير طبيعيّ، ولكنَّ مَن قال هذه الكلمة هو الربّ. إنّ الربَّ قد خلقَ الطبيعة من أجلِنا وطَلَب إلينا أن نتخطَّى الطبيعة، لنتمكَّن مِن تَخطِّي صعوباتنا. نحن نعيش في هذه الطَّبيعة، ولكنّنا نُدرِك أنّنا في حالةٍ سَفرٍ، نَصِل عند نهايتها إلى مكانٍ لا بُكاء فيه ولا دموعَ ولا ألم، كما يُخبرنا سِفر الرُّؤيا. لذلك، عندما يقول الربُّ للمرأة الّتي تُودِّع ابنها الـمَيْت “لا تبكي”، فإنّه أراد أن يُخبرها أنّ كلّ مَن يؤمِن بالربّ، لا وجود للموت في حياته.

إذا قرأنا الأفعال في هذا النَّص، نلاحظ أنّ الأفعال هي التَّالية: “ذهبَ، وَصَل، لقيَ، رآها، قال لها، دنا، لَمَس.” إخوتي، إنّ الحياة الرُّوحيّة هي كُلُّها أفعال، ولكنَّها أفعالٌ مِن أجل الآخَرين لا مِن أجلي. تقول الأمّ تريزيا: “لم أشعر يومًا بالشِّبَع إلّا حين أطعَمتُ جائعًا؛ ولم أشعر يومًا بالدِّفء إلّا حين كَسَوتُ عريانًا”.

لذلك، أمام هذه الأرملة، نَجِد ذواتنا جميعًا “أرامِل” نبكي على أمورٍ كثيرةٍ خَسِرناها؛ ولكنَّ الربَّ جاء اليوم في هذا النَّص ليقول لنا: “توقَّفوا عن البكاء على ما خَسرتموه، واسمحوا لي أن ألـمُسَكم. توقَّفوا عن النَّدِب والتشكِّي، لأنّ هذا الموت الّذي تَبكونه ليس موتًا. وأنا جئتُ لأقول لكم أيُّ موتٍ يُعَدُّ حَقًّا موتًا”. إنّ ابراهيم، أبا المؤمنِين، قد سُميَّ كذلك لأنّه لم يتردَّد بِتَلبية طلبِ الربِّ حين طلبَ الربُّ إليه أن يُقدِّم له ابنه اسحق، ضمانتَه الوحيدة في هذه الحياة. عندما تَجاوَب مع طَلبِ الربّ، دخلَ ابراهيم في مشروعِ الله العظيم، الّذي لا بدايةَ له ولا نهاية. وبعدما لبّى ابراهيم طلبَ الربّ، قال له الله إنّه سيَجعلُ نسلَه أكثر مِن النُّجوم ورَمل البحر، وأنَّ المسيح سيأتي من نَسلِه.

نحن أيضًا، علينا أن نترك كلَّ الضَّمانات الّتي نتمسَّك بها على هذه الأرض، كي يكون اسمُنا مكتوبًا في ملكوت الله، ومَذكورًا مِن جيلٍ إلى جيلٍ. علينا أن نرمي كلَّ ضماناتِنا الأرضيّة على النَّعش، ونَسمح لها أن تموت، قَبْل أن ننظر إلى الربِّ ونَفتح معه حوارًا كما فَعل ابنُ الارملة بعد إقامته من الموت.

سؤال: إنّ الربّ قال لنا: “مَن سخَّرك مِيلاً، امشِ معه مِيلَين” (متى 5: 41). إنّ السّؤال هو: إلى أين يوصِلنا هذا المِيل الثّاني؟

مِن خلال هذه الآية، أراد الربُّ أن يقول لنا: أَوسِعوا للغَضَب طريقًا، أوسِعوا للشَّر طريقًا. حين يُسخَّر الإنسان ويُدافِع عن نفسه، يُصبح هو والمسخِّر، مِن الطبيعة نفسِها. إذًا، إنّ الربَّ يطلب إلينا ألّا نتماثل مع مسخِّرينا. إنّ التَّسخير هنا لا يعني الاستغلال، لأنّه إذا كان كذلك، فإنّ الربَّ يدعونا إلى إيقاف هذا الاستغلال والتصرُّف بطريقةٍ صحيحةٍ، وهذه نِعمةٌ يُعطينا إيّاها الربّ.

أنا مِثلُ الأخ شربل، وُلِدت مع الربّ حين كنتُ في الخامسة والعِشرين مِن عمري، وقد كُنتُ قَبْلَ ذلك، إنسانًا مَيْتًا، مِثل ابن الأرملة، لا بل أكثر. إنّ سببَ توبتي الأساسيّ هو مسبحةُ العذراء مريم: فأنا كُنتُ منذ صِغري متمسِّكًا بهذه المسبحة وأُصلِّيها. وقد رآني أحدهم أُصليِّها، وكلَّما رآني طَلَبَ المسبحة الّتي بين يديّ، وكنتُ بكلِّ طيبةِ خاطرٍ أقدِّمها له، لأنِّي كنتُ أقول في نفسي، إنِّي لا أريد أن أطمَعَ بشيءٍ بل أريد الذَّهاب إلى العمق مع هذا الشَّخص، ثمّ أذهب لأشتري مسبحةً أُخرى، وكان يُعيد الكَرَّة في كلَّ مرَّة عندما يراني مُمسِكًا بمسبحتي. وبعدما أخذ منِّي هذا الشَّخص ما يُقارب الأربع عشرة مسبحة، مِن دون أن أسأله إن كانت تُساعد الّذين يحصلون عليها في بناءِ علاقةٍ مع مريم. بَعد هذه الحادثة، وقَعتُ في صِراعٍ داخليّ، إذ صُرتُ أطرحُ السَّؤالَ على ذاتي: هل أُتابع إعطاء المسابح لهذا الإنسان، أم أتوقَّفُ عن فِعل ذلك؟ فقرَّرت ألّا أُعطيه بعد الآن مسبحتي، وأخبَرْتُه إنِّي لم أعُدْ أملِك إلّا هذه المسبحة الّتي بين يديّ.

إنّ نِعمة الفِطنة هي الّتي تساعدنا على اكتِشاف ما إذا كان الآخَر يُسخِّرنا لأنّه بحاجةٍ إلى شيءٍ معيَّنٍ، يقوده إلى تصويبِ أمورِ حياته. في هذه الحالة، علينا أن نقبَل أن يُسخِّرنا الآخَر. ولكنْ إذا وجدنا أنَّ هذا التَّسخير هو مِن أجل الاستغلال، أي أنّ تسخيري لا يعود بالمنفعة على الآخَر، فَهُنا يجب أن أتوقَّف عن القيام بما يُطلَب إليَّ. وهنا نتذكّر قَول بولس الرَّسول: “صِرْتُ لليَهود كيَهوديٍّ لأربَحَ اليَهود. وللَّذِين تحت النَّاموس كأنّي تحت النَّاموس لأربَحَ الَّذِين تحت النَّاموس. وللَّذِين بلا ناموسٍ كأنِّي بلا ناموسٍ – مع أنِّي لَستُ بلا ناموسٍ لله، بل تحت ناموسٍ للمسيح – لأربَحَ الَّذِين بلا ناموسٍ. صِرتُ لِلضُّعفاءِ كضَعيفٍ لأربَحَ الضُّعفاء. صِرتُ للكُلِّ كلَّ شيءٍ، لأُخَلِّص على كُلِّ حال قَومًا” (1 كور 9: 19). وبالتّالي، إذا قَبِلتُ أن يُسخِّرني أحدٌ، فهذا التَّسخير يجب أن يكون كي أربَح الآخَر للمسيح، لا من أجل مساعدتِه كي يكون إنسانًا استغلاليًا.

مداخلة: 

الربّ رحوم. فبقدَر ما يكون الحزنُ كبيرًا، والألمُ قاسيًا، بِقَدر ما تكون التَّعزية أكبر. إنّ الربَّ حاضرٌ لِلَمس المحزون.
هنا أطرح علامةَ استفهام: ما معنى “رحوم”؟ هل تعني أنّ الله رَحومٌ أي أنّه يُعزّي حُزننا، أم تعني أنّ المحزون قد نالَ قصاصًا مِن الله بِمَوت أحد أحبّائه؟ لذا، هنا نجد ضرورةً لتصحيح هذه الكلمة. إنّ الإنسان المحزون يحتاج إلى تعزيةٍ، أمّا الإنسان الخاطئ فيحتاج إلى الرَّحمة. إنّ الأُمّ تُقبِّل جُرحَ ابنها، وبالتَّالي إنْ كان المقصود بكلمة “الله رحوم”، حنانُ الله علينا ليُخفِّف آلامِنا، فهُنا يجوز استعمال كلمة “رحوم”. ولكن إنْ كان المقصود بالرَّحمة شفقةُ الربِّ علينا أو مغفرته، سائلِين إيّاه أن يخفِّف مِن آلامنا كوننا ننظرُ إلى آلامِنا على أنّها قصاصٌ مِن الله نتيجةَ تقصيرنا في واجباتِنا، فهذه مشكلةٌ كبيرةٌ تحتاج إلى معالجةٍ.

سؤال: في الحياة المسيحيّة، ما الفرق بين الذُّل والتذلُّل؟ أيّهما مقبولٌ وأيّهما مرفوض؟

إنّ كلَّ شيءٍ ناقصٌ ليس مِن الله؛ فالله هو علامةُ الكمال، وبالتّالي، لا الذُّل ولا التذلُّل هما مِن طبيعتِنا البشريّة. لكن، حين أتذَلَّل فهذا يعني أنِّي أقوم بِذَلك بكامل حرِّيتي. ولكن إذا كنتُ أعيش الذُّل نتيجةَ ظروفٍ معيَّنة فُرِضت عليَّ، فَهُنا يجب أن أتذكَّر أنّ الربَّ بالقُرب منّي وهو لن يَقبَل بأن أتعرَّض للأذى. إنّ الذَّلَ في هذه الحالة قد فُرِضَ عليّ ولم أطلبْه، بعكس التذلُّل. إذًا، إذا كان الذُّل مفروضًا عليّ، يجب أن أتذكَّر أنّه لديّ ربٌّ يرعاني ويعتني بي، وهو يُحَوّل كلّ شيءٍ لِخَيري، وهو يُحَوّل كلَّ ظروفِ حياتي إلى فَرحٍ. وأكبرُ دليلٍ على ما أقول، هو ما حدثَ مع موسى في العلَّيقة المشتعلة، إذ ظهر له الربّ قائلاً له: «إنّي قد رأيتُ مَذَلّة شعبي الّذي في مِصرَ وسَمِعتُ صُراخَهم مِن أجل مُسَخِّريهم. إنِّي علِمتُ أوجاعَهم.” (خر 3: 7).

سؤال: مساء الخير مِن جديد، ما لفَتَني هو إضاءتك على دور الجماعة في أن تكون إلى جانب المحزون وتُصغي إليه، وتَشعر بوجَعِه. هل مِن شيءٍ نستطيع القيام به مع المحزون كي نُفيدَه روحيًّا كأن نكون على مِثال الرِّجال الأربعة الّذين حَملوا المخلَّع إلى يسوع؟ هل علينا أن نكون أكثر سهرًا على حياتِنا الرّوحيّة، مِن خلال القيام بالمزيد مِن الإماتات والصَّوم والصَّلاة، فتَزدادُ ثقتَنا بأنَّ الله سيَستجيب لصلواتنا مِن أجل المحزون، أم أنّه يكفي أن نكون بالقرب منه؟

لقد تكلَّمتِ في سؤالِك عن أمرَين: أوَّلاً، حين يقع الإنسان في مُصاب، على الجماعة أن تَجتمع حوله للصَّلاة، والتَّعبير عن تضامنها مع المتألِّم، كلٌّ كما يشاء. إنّ الجماعة الّتي كانت بِرفقة المخلَّع، اجتَهدَتْ كي تُدلِّيه من السَّقف وتَضعه أمام الربّ، مِن دون أن تَنطق بأيّة كلمة. هذا ما يجب علينا القيام به مع كلّ محزونٍ، إذ يكفي أن نكون حاضِرين إلى جانبه، مِن دون أن نقول له أيَّ شيءٍ، فالمحزون لن يتقبَّل سماعَ أيَّ كلمةٍ روحيّة عندما يكون متألِّمًا، لأنّه في حالةِ مَلامة الله على ما أصابه. إنّ أقوى إنسان روحيًا يقول لله في وقت التّجربة: “أين أنتَ يا ربّ؟”، ويَحقُّ له بِذَلك، مِن باب التَحبُّب إلى الله، فالإنسان المؤمِن لا يَقبل بأن يشعر بأنّه وحيدٌ ومتروكٌ مِن الله، في وقت مصيبته، مع العِلم أنّ الله يكون إلى جانبه ولكنّه لا يَشعر به. إنّ كلّ كلمةٍ نقولها للإنسان المحزون، إيجابيّةً كانت أم سلبيّة، تُضاعِف فيه التمرُّد والعِتاب والـمَلامة للربّ. لذلك، إخوتي، علينا أن نكون مِثل هؤلاء الرِّجال الأربعة الّذين رافقوا المخلَّع، فنَقوم بكلّ ما يمكنه أن يضع المحزون في أحضان الربّ، فيتمكَّن الربُّ من لمسِه وإيقاف كلّ دمعةٍ تَنهمر من عينَيه، ومسحِها.

إذاً، علينا أن نَضع الإنسان المحزون أمام الله، ونترك الباقي لله كي يتصرَّف. وهنا نسأل: ألا نثق بأنّ لمسةَ الربِّ قادرةٌ على شفاءِ كلِّ إنسان؟! فلنسمح إخوتي للربّ، بأن يكون هو الطبيب، ولنَكُن كالممرضة الّتي تَنتظر التَّعليمات مِن الطبيب لمساندة المريض في التَّخفيف مِن آلامه. هكذا نكون حقيقةً قد نجحنا في تقديم فائدةٍ روحيّةٍ للإنسان المحزون.

مداخلة: المجد لله! دائمًا لله! أبتِ، أودُّ أن أُعبِّر عن اختباري.

كان ابني مهندسًا، في الثّاني والعشرين مِن عمره، حين انتقل إلى جوار الآب. لم أجد مَن يقرع بابي، ولم أرَ أحدًا بقُربي إلّا في أثناء تقديم واجب العزاء. إخوتي، إنَّ المحزون يكره اللَّيل كما أنّه يُحِبّ أن يشعر بِتَعاطف الآخَرين معه، وأن يقرع أحدهم بابه داعيًا إيّاه إلى مائدةِ رحمة، وأن يتمَّ التَّعبير له عن محبَّتهم له.
إنّ المحبّة مُهمَّة جدًّا، فهي الّتي توصِل المحزون إلى الله، إذ يشعر مِن خلال هذه المحبَّة أنّ الله موجودٌ في هذا العالَم. إخوتي، نحن نستطيع أن نعكس صورة الله للمحزون عندما نعبِّر عن محبَّتنا له. كان هذا اختباري، وأنا أحترم اختبارات جميع النَّاس. ولكنَّ المحبَّة هي أعظم شيءٍ نستطيع أن نُقدِّمه للمحزون. عندما يشعر المحزون بمحبَّتنا له، سيَندم على كلِّ لحظةٍ تَمرَّد فيها على الله، مهما كان عمر فقيده الغالي. إنّ الفقيد يبقى ابني، وأنا أشتاق إليه وأبكي فراقه، ولكنَّني أشكر الله لأنّ ابني انتقل، فهذه مشيئة الربّ. وشكرًا.

أشكر الله عليكِ، أختي، وأودُّ أن أقولَ لكِ: “المسيح قام، حقًّا قام”، فالمسيح قام، وهو أمينٌ على كلمته، لأنّه قد وَعَدنا، أنّنا وأمواتنا، لن نبقى في القبر بل سنَقوم معه. إنّ المحبّة الّتي تطلبينها هي مِن أروع ما يقدِّمه الإنسان لأخيه المحزون. يقول أحد المتصوِّفِين، إنّه حين كان يشعر بِبُرودةٍ روحيّةٍ، كان يطلب إلى الله أن يُحبَّه أكثر، أي كما تفعل الأمّ مع ابنِها. لقد أطلَقتِ اليوم هذه الصَّرخة، وكم هو رائعٌ أن تَجِدي جماعةً تَحضُنُك، وتحضن كلّ موجوع، كجماعة “أذكرني في ملكوتك”.

ولكن ما أردتُ أن أقوله لكم هو أنّه لا تتمّ المزايدة على المحزون بكلماتٍ روحيّة وشعاراتٍ وتصوُّفات بأمجادٍ سماويّة.  إخوتي، أدعوكم كي تسمحوا للمحزون بأن يعيش حزنه، وتساعدوه كي يتخطَّى هذه الفترة الأليمة، فتتحوَّل إلى علامةٍ لحضور الله وعنايته به، ويخرج المحزون مِن هذه المرحلة بِثِمارٍ لحياته. إنّ الإنسان يَفرح حين يحصل على ثَمرِ تعبه. لذلك، عندما نتألَّم، على ألَمِنا أن يكون فرصةً لنا كي نكتشف محبّة الله لنا. إنّ ابنَنا أو فقيدَنا قد أصبح في الملكوت مع الربّ. وهنا نَطرحُ السُّؤال: إذا كُنّا نؤمِن بذلك، لماذا نحن لا نزال حزانى إذًا؟! علينا أن نتذكَّر على الدَّوام أنَّ الربَّ أمينٌ، وعلى الحزن أن يكون فرصةً لنا كي نَذوق طعمَ الفرحِ في قلوبنا. وهذا ما يعطينا إيّاه الربّ.

لولا وجود جماعة “أذكرني في ملكوتك” بقربي، لما كان هناك رجاءٌ، ولما كانت البشارة قد وصلَتْ إلى المحزون. وأنا لي كلُّ الفرح في لقائي بكم. إنّ جماعة “أذكرني في ملكوتك” هي الجماعة الوحيدة الّتي مِن المستحيل أن أتركها إلّا بانتقالي إلى السّماء، لأنّها جماعةٌ رائعة، فالأشخاص الّذين ينتمون إليها يُحِبّون بعضهم البعض، ويتأهَّبون لمساعدة بعضهم البعض حتى وإن كانوا لا يعرفون أسماء بعضهم البعض. فما أردتُ أن أقوله هو أن نُعطي المحزون المزيد مِن الاهتمام وأن نُخبِرَه أنّنا نُحبّه كما هو، في كلّ حالاته.

أختي، نحن جميعًا نُحبِّك، ولكنّ البعض لا يعرفون كيف يُظهرون محبَّتهم للآخَرين. وأنا أتقدَّم منكِ بالتعزية لفقدانِكِ ابنكِ.

مداخلة: 

أنا فقط أريد أن أشارك حول الإنجيل. وأريد أن أخبركم بشيءٍ لمسني فيه. في هذا الإنجيل، نقرأ: “دنا الربُّ مِن النَّعش ولمسه”. إنّ الفعل الّذي تمَّ استخدامه هو “لَمس”، وهذا يشير إلى حاجة الإنسان إلى لمسةٍ من الربّ، كي يشعر بوجوده في حياته، فيتوقَّف عن البكاء، قَبْل أن ينطَلِق مِن جديد في حياته. في بعض الأوقات، يكون الإنسان في قلب الجماعة مَيْتًا، وبالتّالي هو يحتاج إلى الشّعور بقرب الله منه، لأنّه إن لم يشعر الإنسان بوجود الربّ الحسيّ في حياته، لن يتمكَّن من الانطلاق في حياته مِن جديد. في بعض الأوقات، قد يتأثَّر الإنسان بالمَيْت روحيًّا ويكون موتُ هذا الإنسان سببًا لانطلاقةٍ جديدةٍ للإنسان الّذي ينتمي إلى الجماعة، فيشعر بتَدخُّل الربّ الفِعليّ في حياته. في الكثير من الأحيان، قد يتساءل البعض: “أين هو الربّ؟”. في بعض الأحيان، يتدخّل الربُّ يسوع بطريقةٍ مباشرةٍ في حياة الإنسان، كي يتمكّن هذا الأخير مِن اختبار وجود الربّ الدائم في حياته. إنّ يسوع موجودٌ دائمًا في حياتنا ولكن في بعض الأحيان نحن الّذين نبتعدُ عنه. وشكرًا.

في الآية 16، يقول لنا الإنجيليّ:” فاستَولى الخَوفُ عَلَيهم، فمَجَدّوا الله قائلِين:”قامَ فينا نبيٌّ عظيم، وافتَقدَ اللهُ شعبَه!”. ما هو الخوف؟ إنّ الخوف هو علامةُ حضور الله. إخوتي، إنّ الله يَظهر فينا، أي أنّه بالقرب منّا. اليوم، في هذه السَّهرة الرّوحيّة الّتي تَعِبَت في التَّحضير لها جماعةُ “أذكرني في ملكوتك”، كما تَعِب فيها جميع المشاركين، لأنَّهم تَخلّوا لبعض الوقت عن أمورٍ مهمَّة في حياتهم للمشاركة في هذا اللِّقاء، أصبح كلُّ واحدٍ منّا نبيًّا، في محيطه، وقد تَحوَّل إلى سببٍ لتمجيد الله. وبالتّالي، ممنوعٌ أن يُقلِّل أحدٌ مِن شأنِ النبوءة الّتي وَضَعَها الله فيه. فلنسعَ إخوتي، كي نكون مِثل يوحنّا المعمدان، الّذي سَنَراه بعد احتفالنا بِعِيد الميلاد، صوتًا صارخًا على نهر الأردنّ، كي نكون أصواتًا صارخةً تنطق بكلمة الله، أي يسوع، لنُعزِّي بعضنا بعضًا.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِن قِبَلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp