الرياضة السنويّة 2020 بعنوان: “أقوم وأمضي إلى أبي” (لو 18:15)
عن بعد،
الموضوع الأوّل: “يا قليل الإيمان، لماذا شكَكْتَ؟” (مت 14: 31)
الأب ميشال عبود الكرمليّ،
“وأمرَ يسوع تلاميذه أن يركبوا القارب في الحال، ويَسبِقوه إلى الشاطئ المقابل حتّى يصرف الجموع. ولـمَّا صرفهم، صَعِد إلى الجبل ليُصلِّي في العزلة، وكان وحده هناك عندما جاء المساء. وأمَّا القارب، فابتعد كثيرًا عن الشاطئ، وطَغَت الأمواج عليه، لأنَّ الرِّيح كانت مخالِفة له. وقَبْلَ الفجر، جاء يسوع إلى تلاميذه، ماشيًا على البَحر. فلمّا رآه التَّلاميذ ماشيًا على البحر، ارتَعبوا وقالوا: هذا شبح، وصَرخوا من شِدَّة الخوف. فقال لهم يسوع في الحال: تشجَّعوا، أنا هو، لا تخافوا. فقال له بُطرس: إنْ كُنتَ أنتَ هو يا ربّ، فَمُرني أن أجيءَ إليكَ على الماء. فأجابه يسوع: تعال. فَنَزل بطرس من القارب، ومشى على الماء نحو يسوع، ولكنّه خاف عندما رأى الرِّيح شديدة، فأخذ يَغرق. فصرخ: “نجِّني يا ربّ”. فمَدَّ يسوع يَدَه في الحال، وأمسَكه وقال له: يا قليل الإيمان، لماذا شكَّكت؟ ولـمّا صَعِدا إلى القارب، هَدَأت الرِّيح. فسَجد له الّذين كانوا في القارب. وقالوا: في الحقيقة، أنت ابنُ الله” (متّى 14: 22- 33).
في هذا الإنجيل، نرى عدَّة رُموز، تُعبِّر عن عدَّة حقائق؛ ولكنَّ الحقيقة الأُولى، هي تلك التّي انتهى بها النَّص: “في الحقيقة، أنت هو ابنُ الله”. إنَّ الربَّ يسوع قد أمرَ التَّلاميذ بأن يركبوا القارب؛ وهذه الجماعة الصَّغيرة الموجودة داخل القارب، تُمثِّل الكنيسة. طلب الربُّ يسوع من تلاميذه أن يَسبِقوه إلى الشاطئ المقابل، أي إلى الجهة الوَثنيّة.
صَعد يسوع إلى الجبل كي يُصلِّي في العُزلة: على الجبل صلَّى يسوع، وعلى الجَبل أعطى العِظة، وعلى الجبل تجلَّى، وعلى الجبل مات. تمامًا كما صَعِد موسى إلى الجبل ليلتقي بالربّ، وأخذ منه الوصايا، وايليّا النبيّ صِعد إلى جبل حوريب لِيَعيش حضور الله. إذًا، مَن يريد أن يلتقي بالربّ، عليه أن يخرج من ذاته، وأن يقوم بِجُهدٍ، وأن يتخّذ قرارًا، فَيَكون اللِّقاء مع الربِّ.
وكان هناك وحده عندما جاء المساء: “المساء” عبارةٌ تُعبِّر عن ليل الإنسان، عن ظلمة الإنسان. وإنَّما في الظلمة، هناك كلمةُ الله الّتي تُضيء طريقَنا، وهذا ما قاله صاحب المزمور: “كلامُكَ مِصباحٌ لِخُطايَ”.
إنَّ القارب قد ابتعد عن الشَّاطئ: إنَّ الكنيسة تمشي في قلب هذا العالم. ويقول لنا الإنجيل: إنَّ الرِّيح كانت مُخالِفة للقارب. وهذا يشير إلى أنَّ مسيرة الكنيسة في قلب العالم، سَتُواجِه تيّارات فِكريّة عِلمانيّة مُلحِدة، ساعيةً إلى إغراقِها فيها. غير أنَّ الكنيسة تُدرِك أنَّ إلهها، يسوع المسيح حاضرٌ فيها، لأنّ الكنيسة هي جسد المسيح السِريّ. إنَّ الكنيسة تَغوص في قلب البحر، والربُّ صَلَّى من أجلها؛ وهذا ما قاله الربُّ لبُطرس، في ليلة آلام الربِّ: “صلَّيتُ لَكَ لئلّا تفقِد إيمانك”.
جاء يسوع ماشيًا على الماء، فخاف التَّلاميذ وظنُّوا أنَّه خيال: هذا ما يختبره الإنسان، إذ يتعرَّض في حياته لأزمةٍ روحيّة، يعتقد خلالها أنَّ كلَّ ما يسمعه عن الله هو خيالٌ ولا يَمُتُّ إلى الواقع بِصِلة. وهذه الأزمة لا يستطيع الإنسان أن يتجاوزها إلّا إذا كان قَبْل تلك الأزمة، في معيّة الربّ. حين صرخ التَّلاميذ، قال لهم الربُّ: “تشجَّعوا، أنا هو، لا تخافوا”، أي أنَّه لم يَقُل لهم إنَّه يسوع بن يوسف النَّجار، أو ابن مريم، أي أنّه لم يُعطِهم تفسيرات كثيرة عن هويّته البشريّة، بل اكتفى بالقول لهم: “أنا هو”، فَتَمكنَّوا مِن معرفته لأنّهم سِمعوا صوته، قَبْل تلك الأزمة الّـتي تعرَّضوا لها. وبالتَّالي، لكي يتمكَّن انسان من اجتياز أيّةِ أزمةٍ يتعرَّض لها في حياته، عليه أن يكون قد اعتاد على سماع صوت الربّ سابقًا، ليتمكَّن من معرفة ذلك الصَّوت عند تعرُّضِه للأزمة.
لذلك، نحن لدينا كلّ الإيمان وكلّ الوقت للجلوس مع الربّ، لِنُسلِّمه كلّ خطايانا وضُعفِنا البشريّ، ونسلِّمه كلَّ شكِّنا، فنتمكَّن من سماع صوته يقول لنا: “تشجَّعوا، أنا هُوَ، لا تخافوا”؛ تمامًا كما قِيلَ للأعمى:”تشجَّع، قُم إنَّه يَدعوك”. إذًا، كلُّ واحدٍ منّا يُعاني من خوفٍ مُعيَّن، وخاصَّةً خوف من الخطيئة، ولكن عليه ألا يبقى مُتَمسِّكًا بها. فالقداسة لا تكون بالابتعاد عن الخطيئة فقط، إنّما في التعلُّق بيسوع. “تَقوّوا إنِّي غَلبْتُ العالم”، هذه الكلمة علينا أن نسمَعَها دائمًا أبدًا، في كلِّ مرَّةٍ أتعرَّض فيها لأزمةٍ، وفي كلَّ مرَّةٍ يتوجَّب عليّ المواجهة، وفي كلِّ مرَّة أواجهُ مُستَقبلاً مَجهولاً، وفي كلِّ مرَّةٍ أقع فيها في الخطيئة، ولا أنجح في تَخطِّيها، عليَّ أن أسمع صوت الربِّ، يقول لي: “أنا هُوَ، لا تخافوا”. عليّ أن أنظر في عينيّ الربَّ، من دون خوف.
قال بُطرُس ليسوع: “إنْ كُنتَ أنتَ هو، فَمُرني أن آتي إليك”؛ فأجابه يسوع: “تَعال”. إنَّ كلمة الله كفيلةٌ بأن تجعلنا نقترب منه. سار بطرس نحو الربّ، مِن دون أن يقوم باستعراضٍ، ولكنَّه خاف عندما رأى شِدَّة الرِّيح، لذا أخذ يَغرق. يقول لنا القدِّيس بادري بيو: “الخوف هو شرّ، أَشَدّ من الشَّرِ نفسه”. لذلك على الإنسان أن يسمع صوت الربَّ، يقول له دائمًا: “لا تَخَفْ”، حتّى في عُمق الغرق. ويقول لنا الإنجيل إنَّ بطرس قد صرخ قائلاً: “نَجِّني يا ربّ”. إنَّ صلاة الاستغائة هذه، الّتي أطلقها بطرس: “نَجّني يا ربّ، إليكَ أصرخ”، تدلُّ على إيمانه بأنَّ لدى الربِّ القوَّة، وأنّه إلهه، وأنَّ الربَّ هو مَصدر الحياة. عندها نُدرِك معنى “الله يُخلِّص”، أنَّه يسوع المسيح.
فمَدَّ يسوع يَده في الحال، وأمسَكه وقال له: يا قليل الإيمان، لماذا شكَكت؟: إنَّ الله يمدُّ لنا يَده في كلِّ مرَّة نصرخ إليه، فَهو لا يريدنا أن نغرق، غير أنَّ خوفَنا هو الّذي يدفعنا إلى الغرق. وبالتَّالي، علينا أن نكون على الدَّوام بِقُرب الربِّ، حتَّى عند ارتكابِنا الخطيئة، فنتمكَّن من رؤية يَد الله الممدودة لنا، والّذي يقول لنا: لماذا شكَكت؟ إنَّ هذا الشَّك لا يسمح للإيمان بأن يكون مُعاشًا في حياة الإنسان، لأنَّ الإيمان يمنعنا من الغرق أمام الصُّعوبات وأمام الاضطهادات. “نجِّنا يا ربّ”، هي صلاة الكنيسة الأولى، دائمًا أبدًا.
ولـمّا صَعِدَ إلى القارب، هدأت الرِّيح: إنَّ حضور الله في حياتنا يزيل كلّ اضطراب، وكلّ قلقٍ في قلوبنا. إنَّ أمواج البحر هي على سَطحه، إنَّما في عمق البحر هناك هدوءٌ وسلام. فعلى الرُّغم من الأمواج والصعوبات والمشاكل الّتي تعترض حياتنا اليوميّة، الاجتماعيّة والعائليّة والوظيفيّة، سنكتشف سلام الله ومحبَّته لنا، عندما نجلس مع ذواتنا، وحين نكتشف خطايانا، علينا أن نقدِّمها له.
سجدوا له الّذين كانوا على القارب وقالوا له: “أنتَ في الحقيقة ابنُ الله”: هذه صرخةُ قائدِ المئة عند أقدام الصَّليب. إنَّ قائد المئة صلب يسوع ولكنَّه عندما رأى غفرانه لصالبيه، وكيف انشقَّ حجاب الهيكل، وكلّ ما حَدَث وقت الصَّلب، وعندما سَمِع الربَّ يُسلِم رُوحَه لأبيه قائلًا: “بين يَديكَ استودِعُ روحي”، عندها قال قائد المئة: “كان هذا في الحقيقة، ابنُ الله”. هذه صرختُنا، وهذا إيماننا على الدَّوام: فنحن نؤمن بشخصٍ اسمه يسوع المسيح، لذلك قال لنا القدِّيس بولس: “أنا عارفٌ بِمَن آمَنت” (2تم 12:1).
ملاحظة: دُوِّن التأمّل بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.