“الكآبة والحاجات الأساسيّة”
محاضرة للأب ابراهيم سعد.
في هذه الحياة، يتعرَّض الإنسان، في أحيانٍ كثيرة، إلى خيبات أمل مِن الآخَرين، فيُصاب نتيجتها بالإحباط، والكآبة واليأس. ويحاول الإنسان إخفاء ملامح هذه الكآبة الداخليّة عن الآخَرين، إلّا أنّه يفشل في ذلك، أحيانًا، إذ تظهر ملامحها على وَجهه. عندما يتعرَّض الإنسان إلى خيباتِ أملٍ، تتغيَّر نظرته إلى الحياة، فيقرِّر التوقّف عن مساعدة الآخَرين والقيام بأعمالِ خيرٍ تجاههم، إذ أصبح كلّ ذلك، بالنِّسبة له، لا فائدة منه. إنّ الإنسان لا يُصاب بخيبات الأمل في علاقته مع البشر وحسب، بل قد يُصاب بخيبات الأمل في علاقته مع الله، فيقرِّر التوقُّف عن الصّلاة والمشاركة في القُّداس، كما قد ينقطع عن حضور الاجتماعات والنَّشاطات الروحيّة، بحجّة أنّه لا يشعر بفائدتها عليه.
عندما يُصاب الإنسان بالكآبة واليأس، فإنَّه يشعر بعدم إمكانيّته من تحسين الوَضع، ويفقد حينها كلّ قُدرةٍ له على مقاومة الصُّعوبات الّتي يواجهها من البشر. إنَّ كلَّ إنسان معرَّض للوقوع في هذه الحالة من الكآبة، رجلاً كان أم امرأة، مكرَّسًا أم علمانيًا، غنيًّا أم فقيرًا، مُسِنًّا أم فَتِيًّا.
إنَّ حالة الكآبة الّتي يتعرَّض لها الإنسان تُعبِّر عن معاناةٍ داخليّة مبنيّة على عدم وجود آخَر قادر على الإصغاء لهذا الـمُكتئب في العمق والعمَل على تلبية حاجاته الأساسيّة. حين يكون الإنسان في حالةٍ من الرّاحة الدّاخليّة، فإنّه يكون من المبادِرين إلى حثّ الآخَرين على الصّلاة والمجاهدة في هذه الحياة، والصَّبر على صعوباتها في سبيل النَّجاح لِتَخطِّيها. ولكن حين يواجه الإنسان الصُّعوبات، فإنّه يكون مِن أوّل الرّافضِين للصّلاة ولممارسات النَّشاطات الروحيّة، لأنّه لا يجد فيها نفعًا له.
عند انتهاء زمن المناسبات الروحيّة واللِّقاءات الإنجيليّة، يُصبح المؤمِن أكثر عُرضةً للكآبة، بسبب غياب النَّشاطات الروحيّة، إذ يسمح للاسترخاء الروحيّ والكسل بالسيطرة عليه. بعد انتهاء العُطلة الصيفيّة، يجد المؤمِن صعوبةً في مزاولة النَّشاطات الروحيّة من جديد، لأنَّه قد اعتاد خلال فصل الصَّيف على أحكام “الإحباط وخيبات الأمل”.
إذًا، إنَّ الإحباط يصيب جميع النّاس على حدٍّ سواء، مكرَّسين وعلمانيِّين. ولكنّ الإحباط يكون أقوى عند العِلمانيّين منه عند المكرَّسين: إذ قد يتحوَّل واجبُ المكرَّس الدِّيني إلى دافعٍ له لمواجهة الاسترخاء الروحيّ الّذي يُعاني منه؛ أمّا العلمانيّ فإنّه يأتي إلى الكنيسة بدافع من حبِّه لله لا بدافع الواجب الدِّيني، لذا فَقد يجد سهولةً أكبر في الاستسلام للكسل الروحيّ الّذي يواجهه.
وهنا نتذكَّر قول الرَّسول بولس: “الويل لي إنْ لم أبشِّر”، فالمؤمِن مدعوّ إلى التَّبشير بكلمة الله، مهما كانت حالته الروحيّة، مُحبطًا كان أم سعيدًا. وبالتّالي، من خلال كلام بولس الرُّسول، نكتشف أهميّة مجهودنا الروحيّ الّذي نقوم به، بمجيئنا إلى الكنيسة للصّلاة ومساعدتنا للآخَرين، عند معاناتنا من الإحباط.
على نظرة المؤمِن إلى الحياة أن تكون موضوعيّة لا ذاتيّة: فيركِّز على أعماله الصّالحة الّتي يقوم بها تجاه الآخَرين، أكثر من تركيزه على الإساءات الّتي يتعرَّض لها مِن قِبَلِهم. حين ينظر الإنسان إلى الحياة نظرةً موضوعيّة، فإنّه سيكتشِف أنّه يعيش في حالة من النِّعمة، كما سيكتشف أنّه نِعمةٌ للآخَرين المحيِطين به. على المؤمِن ألّا يُضخِّم الإساءات الّتي يتعرَّض لها، بل عليه أن يُعظِّم قيمة أعماله الصّالحة، حتّى وإن لم يُقدِّر الآخَرون ما قام به. إنَّ بعض المؤمِنِين يُقلِّلون من تقدير أعمالهم الصّالحة، نتيجة سوء فَهمهم لكلمة الله في الإنجيل.
فالربّ لا يدعونا إلى التَكبُّر على الآخَرين بسبب أعمالنا الصّالحة، بل يدعونا إلى الفرح بما نقوم به مِن صلاحٍ تجاه الآخَرين. على المؤمِن أن يُعلِن أنَّ الدُّنيا لا زالت بألفِ خيرٍ على الرُّغم من الويلات الّـتي تواجهه، إذ ما زال بعض المؤمِنِين يُصغون إلى كلمة الله، ويسعون إلى مساعدة الآخَرين. يقصدني في بعض الأحيان أزواجٌ يعانون من المشاكل الزوجيّة، ويُعلنون أمامي عن رَغبتهم في تحقيق الطّلاق بينهما.
عند سماعي لهذا الكلام، أبادر بِطرح السؤال على كلِّ طَرَفٍ منهما منفردًا: ما هي حسنات شريكك؟ فيَبدأ كلّ طرفٍ منهما بالتَّعبير عن حسنات الآخَر، فأُلقي الضّوء على هذه الحَسنات، علَّ ذلك يُساهم في محاولة حلّ المشاكل بينهما مركِّزًا على حسنات الآخَر، لا على سيِّئاته. في الحقيقة، ليست الخلافات الإنسانيّة مبنيّة على سيّئات أحد الطَّرفين، بل هي مبنيّة على عدم حصول أحد الطرفَين أو كِلَيهما على حاجاته الأساسيّة من الآخَر. إنَّ الإنسان مدعوٌّ إلى السّعي لتلبية لا رغبات الآخَر، بل إلى تلبية حاجاته الأساسيّة الإنسانيّة.
إنَّ عدم حصول الإنسان على حاجته الأساسيّة من الآخر، يؤدِّي إلى دَفع الإنسان إلى القيام بما لا فائدة منه، والحُكم على الأمور من حَولِه بطريقة خاطئة. إنَّ ما يُعانيه الأهل مع أبنائهم الشَّباب هو خيرُ دليلٍ على ذلك: فالشّاب يحتاج إلى مَن يُصغي إليه ويقدِّر كلامه ومعاناته، فإنْ لم يجد في أهلِه ما يلبيّ له تلك الحاجة، فإنّه سيسعى إلى الانغلاق على ذاته، عِوضَ الانفتاح على أهِله، بحجّة أنَّ لا أحدَ منهم يستطيع فَهمَه، وهذا ما يدفعه إلى الشُّعور بالإحباط والكآبة.
للإنسان حاجاتٌ طبيعيّة كثيرة، يجب تلبيتها، كي لا يتعرَّض الإنسان للكآبة. غير أنَّه يستحيل على الإنسان إيجاد آخَرٍ قادرٍ على تلبية حاجاته كلِّها. إنَّ أهمَّ تلك الحاجات الإنسانيّة الطبيعيّة هي المؤاساة. على الإنسان أن يُصغي إلى معاناة الآخَر بكلّ اهتمام، فلا يُقلِّل من أهميّة ما يسمَعه من الآخَر، ولا يلقي عليه النظريّات في سبيل إيجاد حلٍّ للمشكلة. فمثلاً حين يفقد الإنسان أحد أحبّائه بالموت، نلاحظ أنَّ وفود المعزِّين ينهالون على المحزون بكلماتٍ لا فائدة منها، إذ إنّها لا تُلبيّ حاجته العميقة، فكلماتهم تكون كالمسامير الّتي تقع في قلب المحزون فتقتله أكثر من شعوره بالحزن لموت فقيده.
إنَّ المحزون يحتاج لِمَن يواسيه، لا إلى مَن يُلقي عليه نظريّات حول الموت ومحاولة إيجاد حلول له، فالمحزون يُدرِك أنّه لا مَفرَّ من الموت. إنَّ بعض المؤمِنِين يقومون بأعمالٍ حسنة تجاه الآخَرين، من دون أن ينالوا التقدير منهم، ممّا يؤدِّي إلى شعور هؤلاء بعدم جدوى أعمالهم الحسنة، خاصّة أنَّهم بذَلوا مجهودًا كبيرًا للقيام بهذا العمل الصّالح أو ذاك. إنَّ هؤلاء المؤمِنِين الصّالحين لا يحتاجون إلى إصلاح بل إلى تلبية حاجتهم في التَّقدير والاحترام من الآخَرين، ولكنْ هذا لا يعني أبدًا الحصول على مديحٍ مبالغٍ فيه، إنّما يعني عدم تسخيف أي عمَلٍ صالحٍ يقوم به الآخر.
فمثلاً، حين يقوم أحد أبنائك بمجهودٍ كبيرٍ لتحسين نتائجه المدرسيّة، فإنّه ينتظر منك سماع كلام التّقدير لمجهوده عند وصوله إلى هَدَفه، لا إلى كلماتٍ تُحبِطه، كأن تقول له إنّك كنُتَ تنتظِر منه ما هو أفضل من هذه النتائج. إنَّ الكلمات المحبطة تدفع بالإنسان إلى الشُّعور بالتَّقصير الدائم في عملِه، وإلى عدم تقدير ذاته.
على الإنسان أن يسعى على الدّوام إلى تلبية حاجة الآخَر في أوانها. يعاني الإنسان نتيجة عدم تلبية الآخَرين لحاجاته الأساسيّة العميقة، كما قد يُعاني الآخرون من عدم شعورهم بأنَّ حاجتهم قد تمّ تلبيتها، بسبب عدم انتباه الآخَر لها. فمثلاً، حين يأتي إليك ابنك ليُخبرك بما يزعجه، عليك أن تُصغي إليه بانتباه، كي تتمكَّن من تلبية حاجته العميقة للتقدير والحبّ والإصغاء، فيتمكَّن عندها ابنك من مواجهة الصُّعوبات الّتي تواجهه في هذه الحياة.
إنّ الإنسان الّذي لم يحصل على تلبية لحاجته مِن قبل الآخَرين، سيشعر بالإحباط حين يواجه الشرور من الآخَرين، في وقت الاسترخاء الروحيّ. لا يستطيع البشر معرفة حاجات بعضهم البعض، بصورة تلقائية، لذا عليهم الإصغاء لبعضهم البعض، ليتمكّنوا من معرفة حاجات الآخَر وتلبيتها. ما يهمُّ الإنسان هو حصوله على أُذُنٍ قادرة على الإصغاء إليه، لمعرفة حاجاته العميقة، كما هو يُعبِّر عنها، لا على أُذنٍ تسعى إلى إسماعه ما تعتقد أنّه بحاجة لسماعه.
إنَّ حاجاتنا الإنسانيّة الطبيعيّة تتلَّخص في ستِّ نقاط، وتتفرَّع منها حاجاتٌ لا تُعَدّ ولا تُحصى. إنّ الربَّ يسوع يلبِّي لنا كلّ حاجةٍ لدينا، أكان للمؤاساة، أم للحبّ أو التقدير، من خلال كلمته المحيية في الإنجيل. وهنا يُطرَح السؤال: كيف يستطيع الإنسان التخلِّي عن هذا “النَّبع” الّذي يلبّي له كلّ حاجاته العميقة، حين يتعرَّض للإساءات من الآخَرين؟ إنَّ ابتعادنا عن الربّ بسبب ضُعف الآخَرين يؤدِّي إلى إصابتنا بالكسل والإحباط. وهذا ما نتعرّض له في كلّ عطلةٍ صيفيّة وخاصَّةً أنَّ ضجيج الصّيف، يضع غشاءً على عيوننا كي لا نتمكَّن من رؤية الأمور على حقيقتها. في فصل الصّيف، تكون حياة الإنسان مليئة بالضَّجيج والمناسبات الجميلة، ولكنْ عند انتهاء تلك المرحلة، يعود الإنسان إلى التذمُّر من جديد على الأمور السيِّئة الّتي حَدَثت معه.
على المؤمن النَّظر إلى الأعمال الصّالحة الّتي قام بها، أو الّتي حَصَلت معه، والتكلُّم عنها لا التَّركيز فقط على الأمور السلبيّة الّتي تعرَّض لها. على الإنسان التركيز على الأمور الجميلة الّتي اختبرها كمساعدة الآخَر، وسَعيه إلى إدخال الفَرح إلى قلوب الآخَرين، والتكلُّم عن شعوره بوجود الآخرين في وَقت الشَّدائد الّتي تعرَّض لها. قد يتذمَر البعض قائلِين: إنْ سَعَيْنا فقط إلى تلبية حاجات الآخَرين، مَن يلبّي لنا حاجاتنا؟ على المؤمِن عدم استغلال الله، لحثّ المؤمِنِين على ممارسة تقويّات زائفة، طالبًا منهم على سبيل الـمِثال احتمال المزيد من الآلام والأوجاع مردِّدين عبارة: “مع آلامك يا يسوع”. إنَّ البشر يحتاجون إلى مَن يواسيهم ويصغي إليهم ويسعى إلى تلبية حاجاتهم من التقدير والمحبّة والاحترام. فمثلاً، على المسؤول في العَمل أن يسعى إلى تلبية حاجات المساعِدين معه في التقدير والاحترام، على الرُّغم من حصول هؤلاء على مقابلٍ ماديّ لأتعابهم.
في فصل الصّيف، يعلو صوت ضجيج المرح على باقي الأصوات، لذا علينا السهر على يقظتنا الروحيّة حين نتعرَّض لخيبات الأمل والإحباط، فنتمكَّن من مواجهتها وتَخَطِّيها. إنَّ مشكلة النّاس تكمن في عدم إصغائهم لبعضهم البعض، لذا يجدون صعوبةً في تلبية الحاجات الأساسيّة بعضهم البعض، ولذا تحصل الإساءات والخلافات بينهم، إذ يسعى كلّ واحدٍ إلى تلبية حاجات الآخَر كما يراها هو، لا كما يطلبها الآخر. إنَّ بساطة التعاطي مع الآخَرين، والصِّدق في الرؤية، وعدم سوء الظَنِّ فيهم، وإيجاد آخَر قادر على الإصغاء لك وفَهمِك، يساهم في تلبية الحاجات الموجودة في داخلك.
إنَّ أكثر الحاجات الّتي تسبِّب آلامًا للإنسان هي، في غالبيّتها، حاجاتٌ قديمة لم يتمّ تلبيتها بشكلها الصَّحيح ولم يُعبَّر عنها، لذا نجد أنَّ أَلَمها يستمرُّ معه على الرُّغم من مرور الزَّمن عليها. لذا أدعوكم إلى التسلُّح بكلمة الله، “سيف الرُّوح” كما يقول عنها بولس الرُّسول، لأنّها الوحيدة القادرة على دَفعكم إلى الوَعي الدائم لحاجات الآخَرين وعدم الاستهزاء بها أكانت صالحة أم سيِّئة.
لا تستهزئوا بالعمل الصّالح الّذي تقومون به، مهما كان صغيرًا، ولكن هذا لا يعني أن تسمحوا لمشاعر التكبُّر بدغدغتكم، بل أن تجعلوا من هذا العمل الصّالح وسيلةً تُذكِّركم بأنَّكم قادِرين على القيام بما هو أفضل. وهذا يخلق في الإنسان طاقة إيجابيّة على الاختيار بين أن يكون إيجابيًّا في نظرته إلى الحياة أم سلبيًّا، أمّا الحياد فيُعتبر موقفًا سلبيًّا لا إيجابيًّا. لذا أدعوكم في الختام كي تجعلوا من كلمة الله الّتي سَمِعتموها منّي، مَصدر قوَّةٍ لكم لمواجهة صعوبات الحياة الّتي ستواجهكم في العُطلة الصَّيفيّة، كما أدعوكم إلى التسلُّح باللُّطف والصّلاة وروح الخِدمة.
إنَّ الله قد ظهر لإيليّا النبيّ في النَّسيم العليل لا بقوّة النّار، وبالتّالي أنتم تستطيعون الحصول على التعزية والفرح من إنسانٍ أو من حدث لا تتوقَّعون أن يُعطيكم تعزية. لذا كونوا متَيقِّظين لحضور الله في حياتكم.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بتصرّف.