الموت والقيامة،

الأب مروان خوري.

نرتبطُ – نحن كمؤمنين – بشخصِ الرَّبِّ يسوع، وهو الصَّخرةُ التي نؤسِّسُ ونبني عليها كلَّ قراراتِنا ومشاريعَ حياتِنا. وما المشاكلُ التي تعترضنا إلَّا موجٌ يضربُ الأساسَ والبنيانَ، إلا أنَّهُ يتكسَّرُ على هذهِ الصَّخرة ولا يهدمُ شيئاً.
ولا شيءَ يثني المؤمن عن أن يُصلِّيَ برجاءٍ ويخاطبَ الرَّبَّ باستمرارٍ. ويقولُ الرَّسولُ بولس: “إنَّنا ¬نعلمُ بمن آمنَّا وبمن وضَعْنا رجاءَنا عليه”، فيسوعُ هو إيمانُنا، ولكن ماذا يخبرُنا يسوعُ عن سرِّ الموت؟ ماذا يخبرُنا عن هذا اللُّغزِ الذي يجعلُنا نهتفُ أمَامه: “بعيد من هون”؟
نحنُ نحاولُ باستمرارٍ أن نُبعِدَ عنَّا لحظةَ الموتِ، إلَّا أنَّ حَتميَّتَهُ لا يمكنُ إلغاؤها. ويمكنُ لنا أن ننظرَ إلى الموتِ كما ننظرُ إلى الجنينِ في أحشاءِ أمِّه، يسبحُ في حجرةِ المياهِ مدَّةَ تسعةِ أشهرٍ في أمانٍ وطمأنينةٍ، وعندما يحينُ موعدُ الولادةِ، يحاولُ الطِّفلُ البقاءَ في الرَّحمِ في حينِ تعملُ والدتَهُ على إخراجِهِ إلى الحياة، فيشعرُ وكأنَّها تقتلُه بإخراجِهِ إلى مكانٍ خطرٍ، وفي لحظة خروجهِ ورؤيتهِ للأنوارِ وسماعِهِ للضَّجيجِ يصرخُ، وبحسبِ الأطبَّاءِ فإنَّ هذه الصَّرخة هي التي تؤدِّي بجهازِهِ التَّنفسيِّ إلى البدءِ بالعمل. وإن سُئِلَ الإنسانُ بعدَ حينٍ من ولادتِهِ إن كانَ يرغبُ بالعودةِ إلى الرَّحم، سيكون جوابه: “أبداً”. وهكذا نحنُ في هذه الحياة، فالأرضُ هي الرَّحمُ نمكثُ عليها لفترةٍ يُحدِّدُها الله. والموتُ هو لحظةُ الولادةِ، نحاولُ فيها التَّمسُّكُ بهذهِ الحياةِ، ونشعرُ بهولِ الفاجعةِ، ونتساءلُ: إلى أين ذَهبَ المتوفَّى؟ ونأسفُ على رحيل ِمن نحبُّ، في الوقتِ الذي يجبُ أن نسمعَهم هم يأسفونَ لبقائِنا. ولو سألْنا الرَّاقدين إن كانوا يرغبون بالعودةِ لرفضوا، حتى من هم في المطهرِ يعانون العذابَ. فالرَّبُّ إذاً يعملُ على إخراجِنا من هذه الحياة، ونحن نتمسَّكُ بها معتقدينَ لضعفِ إيمانِنا أنَّنا أتَيْنا إليها لنبقى فيها.

علَّنا يا أخوتي نتَّعظُ من الميتِ المـــُسجَّى أمامَنا في الكنيسةِ – فالميتُ هو الواعظُ الأكبرُ في الحياة- مدركينَ أنَّ دورَهُ قد حانَ اليوم ولكنَّنا لا ندري متى يحينُ دورُنا. واللهُ قد أتى بنا إلى هذهِ الحياة، ومَنَحنا حريَّةَ التَّصرُّفِ المطلقةِ في كلِّ شيءٍ، إلَّا أنَّهُ احتفظَ بأمرٍ واحدٍ فقط وهو لحظةُ خروجِنا منها. ويطلبُ مِنَّا الرَّبُّ أن نَستعِدَّ لهذه اللَّحظة، وألَّا نسمح لها بمباغَتَتِنا. وهذه اللَّحظةُ مُهمَّةٌ جدّاً، وقد أسماها قِدِّيسٌ معاصرٌ بــ”امتحانِ نهايةِ العام”، إذ علينا أن نستعدَّ لها كما يستعدُّ التِّلميذُ لامتحانِهِ، لأنَّ المستَعِدَّ لا يخافُ بل يدركُ أنَّه سينتقلُ إلى مرحلةٍ أعلى ويحصلُ على شهادةٍ أهمَّ. وقيمةُ الحياةِ وغايتها تكمنُ في استعدادِنا للحظةِ الولادةِ الحقيقيَّةِ، لأنَّ الحياةَ لو كانت هنا على الأرضِ لأكملنا مسيرتَنا عليها، ولما وُجِدَ الموتُ، ولكن طالما فيها موتٌ فهي ليستِ الحياة الحقيقيَّة.

الخطأُ الكبيرُ الذي يحدثُ في أيَّامِنا هذهِ، هو تربيةُ الأولادِ وكأنَّهم باقون هنا على الأرضِ. فالأهلُ يهتمُّونَ بمأكلِ وملبسِ وتعليمِ وميراثِ أولادِهِم، ويعتقدون أَّنهم بهذا يمنحونَهم كلَّ شيءٍ من بعدِهِم، ولكن ما قيمةُ الحياةِ إن منحنا أولادَنا كلَّ الدُّنيا ووصلْنا بهم إلى خسارةِ الإيمانِ؟ يقول يسوع: “ماذا يفيدُ الإنسان لو ربحَ العالمَ كلَّه وخسرَ نفسَه؟”. ونحن، بماذا نأتي فداءً عن أنفسِنا؟ علينا ألَّا نتَّكِلَ على هذهِ الحياة، بل أن نضعَ إيمانَنا وثقتَنا بيسوعَ وحده، فمعَهُ لا تتحطَّمُ الآمالُ ولا يتوقَّفُ الفرحُ، ويصبحُ بهِ الموتُ مجرَّدَ انتقالٍ، كالشَّمس التي تغربُ في بلدٍ لتُشرقَ في آخر، لا تختفي ولا تضمحلُّ بحسبِ القدِّيس أوغسطينوس.
وإنجيلُ اليوم يخبرُنا بأنَّ كلَّ ما نفعلهُ على الأرضِ يُغفَر لنا، إلَّا خطيئةٌ واحدةٌ عظمى، وهي أن يغلقَ الإنسانُ قلبَهُ عن الله، ويصبحَ كشخصٍ خرج من منزلِهِ واتَّخذ قراراً بألَّا يعودَ إليه أبداً، فيُضحِي اللهُ كأبٍ رفضَ ابنَهُ الاعترافَ بِهِ، دونَ أن يستطيعَ أن يفعلَ لهُ شيئاً، وقد أسماها الرَّبُّ بــــــ “الخطيئةِ ضدَّ الرُّوحِ القدس”.
وجهنَّمُ ليست للخطأة، لأنَّنا جميعاً خطأةٌ ورحمةُ الله تنتشلُنا، أمَّا جهنَّم فهي لمنِ اتَّخذَ قراراً لا رجوعَ عنهُ برفضِ الله أي بارتكابِ الخطيئةِ التي ضد الرُّوح القدس، ويتحدَّثُ عنها إنجيلُ يومِ الأحدِ الذي يخبرُنا عن غنيٍّ عاشَ يتنعُّمُ بخيراتِ الدُّنيا، وفقيرٍ اسمه لعازر ملقى على بابِ الغنيِّ، إلَّا أنَّ الغنيَّ لم يتنبه إلى حاجةِ الفقيرِ يوماً، وهذا هو القلبُ المغلقُ الذي لم يحبَّ من الدُّنيا إلَّا ذاته، ولم يهتمَّ إلَّا بنزواتِه وشهواتِه.
وفي إنجيلٍ آخر يقولُ يسوع: ” تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ”، ويقول لمن أغلقوا قلوبهم: “اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ، لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَانًا فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضًا وَمَحْبُوسًا فَلَمْ تَزُورُونِي”. فالمحبَّةُ هي الفعلُ الوحيدُ الذي يُدخِلُنا إلى ملكوتِ السَّماوات، إذ نتركُ كلَّ شيءٍ هنا على هذه الأرض، ونأخذُ معنا كميَّةً من الحبِّ نقفُ بها أمامَ الرَّبِّ الخالق، الذي لن يسألَنا عن اسمِنا أو علمِنا أو شهاداتِنا، بل عن محبَّتِنا للآخرِ وللحياةِ. وعندما مكَّنَت عذراءُ مديغورييه الرؤاةَ السِّتة من رؤية المطهرِ، شاهدوا أنفساً مكرَّسةً هناكَ، وبكوا وسألوا العذراءَ عن سببِ وجودهِم في المطهر فأجابتهُم بأنَّ نقصَ الحبِّ لديهم هو السَّبب.

والحبُّ هو الذي يمنحُنا هويَّةً، فيتعرَّف اللهُ علينا. ففي إنجيلِ الغنيِّ ولعازر، لا يُذكَر اسمُ الغنيِّ ولا تُعرَف هويَّته: “كان غنيٌّ”، بعكسِ اسمِ الفقير: “وكان مسكينٌ اسمهُ لعازر”، وكأنَّ الرَّبَّ يقولُ لنا أنَّنا مهما كبُرنا في هذه الحياة، إن لم تكنْ في قلوبِنا محبَّةُ حتى أسماؤنا تُلغى ولا تَعُد تُعرف، وأبناءُ السَّماءِ لن يتعرَّفوا علينا بعدها.
وعندما يرى الغنيُّ لعازرَ يتنعَّمُ في حضنِ ابراهيم، يرجوه أن يُرسِلَ لعازرَ ليَبُلَّ إصبعهُ بماءٍ ويرطِّبَ حلقَهُ الملتهب. وهناكَ عادةٌ في كنائِسِنا، وهي رشُّ الماءِ المقدَّس على جثمانِ الميتِ، لأنَّها تخفِّفُ جدَّاً من لهيبِ عذاباتِ الخطيئةِ، لذا اعتادَ الكهنةُ في القِدَم، وفي بعضِ المناطقِ القليلةِ في أيَّامِنا هذه، أن يزوروا المدافِنَ ويرشُّوا عليها الماء المــُصلَّى ليرطِّبوا الحلقَ الملتَهِبَ حريقاً، ويُضيئوا الشُّموع المباركة، لأنَّها بعد أن تُبارَكَ من قبلِ الكاهن يُصبِحُ نورُها مطهِّراً للخطيئة. وللأسفِ فقد بَطُلَت هذه العاداتُ في أيَّامنا هذه لأنَّنا اعتقدنا أنَّها خرافاتٌ وتقاليدٌ باليةٌ، حتى أنَّنا بِتنا ننزعُ الصَّليبَ عن المحملِ عندَ وضعِهِ في القبرِ، ناسينَ أنَّ هذا الصَّليبَ هو زوَّادةُ الميتِ. هذه الأمورُ جميعُها تُعتَبرُ “زُوادةً” للموتى تمنحُها لهم الكنيسةُ بالسُّلطةِ التي أعطاها إيَّاها الرَّبُّ لتخفِّفَ من عواقِبِ خطاياهُم.

كما يقولُ ابراهيمُ للغنيِّ: “تَذكَّرْ… بيننا وبينكم هوَّةٌ عظيمةٌ قد أثبتت حتَّى أنَّ الذين يريدونَ العبورَ من هَهُنا إليكم لا يقدرون َولا الذين من هناكَ يجتازونَ إلينا”، فبعدَ الموتِ لا تَعُد لدينا إلَّا الذكرى، وما كتبناهُ على الأرضِ نُكمِلُ بهِ في السَّماء. إن كَتبْنا الهلاكَ نُكمِلُ بالهلاكِ، وإن كَتَبنا الخلاصَ نُكمِلُ بالخلاصِ. وبهذا ندركُ أهميَّةَ القرارِ الذي علينا أن نتَّخذَهُ في هذه الحياة، وأهميَّةَ هذه الدُّنيا التي نُقرِّرُ فيها مصيرَنا الأبديِّ. وقد قالت عذراءُ مديغورييه في ظهوراتها أيضاً أنَّ جهنَّم ليست أمراً نصلُ إليهِ، والسَّماءُ كذلك، بل السَّماءُ تبدأُ من هنا وتكتَمِلُ فوق، وجهنَّم تبدأُ من هنا عندما نُغلِقُ قلوبَنا عن اللهِ والنَّاس فنثبُتُ فيها بعدَ الموت. وحتى لحظة الموت نستطيعُ أن نُغيِّرَ قرارَنا. والهوَّةُ التي يتحدَّثُ عنها ابراهيمُ في المثلِ تُحدِثُها خطايانا، وقلوبُنا المغلقةُ الرَّافضةُ للحبِّ، وباستطاعَتِنا أن نردمَ هذه الهوَّة ونجعلَ من صليبِ يسوعَ جسراً نعبرها بواسطته، ولكن من يرفضُ التَّوبةَ والحبَّ لن يتمكَّنَ من العبورِ.
ويُقالُ أنَّ عذابَ جهنَّم ليسَ عذاب النَّار الماديَّة التي نعرِفُها، بل هو عذابُ الإحساسِ بالخسارةِ التي لا يُمكنُنا تعويضها إلى أبدِ الآبدين. وفي التَّعليم الدِّينيِّ قديماً، كانوا يُصوِّرون جهنَّم على أنَّها مكانٌ مظلمٌ، فيهِ ساعةٌ نُزِعَت عقاربُها وكُتِبَ عليها “إلى الأبد”، أي لا وقتَ محدَّدَ للبقاءِ فيها بل إلى الأبد.
وفي النِّهايةِ يقولُ الغنيُّ لابراهيم: أسألُكَ إذًا يا أبتِ أن تُرسِلَه إلى بيتِ أبي، لأنَّ لي خمسة أخوةٍ حتى يشهدَ لهم لكي لا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هذا. قال له إبراهيم: عندهم موسى والأنبياء ليسمعوا منهم. فقال: لا يا أبي إبراهيم بل إذا مضى إليهم واحدٌ من الأمواتِ يتوبون. فقال له: إن كانوا لا يسمعونَ من موسى والأنبياءِ ولا إن قامَ واحدٌ من الأموات يُصدِّقون”. وهناك فكرةٌ تُراوِدنا باستمرارٍ، إذ نتمنَّى أن يكشفَ اللهُ لنا عمَّا ينتظرُنا، فيؤمن النَّاسُ جميعاً، ولكنَّه يجيبُ: “عندهم موسى والأنبياء”، أي الكهنةُ والتَّعليمُ الكنسيُّ، وإن لم نستمع لهم فحتى وإن ظهرَ لنا أحدُ الأمواتِ لن نتوب. فمن يغلقُ قلبه عن الله، حتى وإن رأى أعجوبةً قد ينبهرُ ولكنَّهُ سيعودُ لوضعهِ بعدها. فالمشكلةُ ليست إذاً في أنَّ اللهَ يخفي عنَّا أو لا يريدُ أن يُبيِّن لنا فلا نؤمن، المشكلةُ في القلبِ الذي لا يريدُ أن ينفتحَ على الله، وهذا هو سببُ الهلاك. وسرُّ الخلاصِ هو قلبٌ يقبلُ الرَّبَّ، وعندها مهما كثرت خطايانا فإنَّ الله قديرٌ أن يغفِرَها.

ونختمُ مع قصَّةٍ للأب يوزو، الذي كان يُخبرنا بأنَّ الكثير من النَّاس يأتونَ إلى مديغورييه ليرَوا حقيقةَ الظُّهورات وسببَ ظهورِ العذراء هناك، ويرجعون كما يأتون، دون أن تلمسَ العذراءُ قلوبَهم البتَّةَ، وبعضهم يأتونَ ولا يرونَ الظُّهورات ولكنَّهم يؤمنون. يقولُ الأبُ يوزو بأنَّ النَّاسَ أشبه بزجاجةٍ فارغة، إن أُحكم إغلاقها ورُميَت في البحر وبقيَت 10 سنواتٍ، لن تدخُلها قطرةٌ من المياه، كما لو أنَّ البحرَ خالٍ من الماءِ. والخلاصُ يبدأ عندما نفتحُ قلوبَنا ونقولُ: “يا ربُّ نرغبُ في أن نتعرَّفَ عليكَ، نرغبُ في أن نبنيَ شراكةً معكَ، أن نتوبَ ونضعَ مصيرَنا بين يدَيْكَ”، ومن هنا تبدأُ السَّماء ويبدأُ سرُّ الحياةِ، عندما نتوجَّهُ إلى كرسيِّ الاعترافِ ونقرِّرُ أن نتوبَ عن خطايانا، أي عندما نُقرِّرُ أن نُعيدَ إلى قلوبِنا كميَّةً من الحبِّ. لذلكَ فإنَّ القرارَ يتوقَّفُ علينا، وليسَ على الله، إذ قالَ يسوعُ: “أنا لا أدينُكم، أعمالُكم ستدينُكم”. نحنُ نعتقدُ أنَّ اللهَ سيعاقبُنا، إلا أنَّ اللهَ مُحبٌّ لا يعاقِبُ، بل أعمالُنا وقراراتُنا التي نتَّخذها على الأرض هي من تُعاقبُنا. القرارُ يتوقَّفُ علينا بالتَّوبة عن خطايانا، بالعودة عن سيِّئاتنا، وبعودةِ الحبِّ والرَّحمة إلى قلوبنا.
نُصلِّي في هذه الذَّبيحة على نيَّةِ من سبقونا، لأنَّهم بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى صلواتِنا. وإن كانوا في المطهرِ نتيجةً لنقصِ الحبِّ، فذكرُهُم في الذَّبيحةِ الإلهيَّةِ يعودُ عليهم بالمنفعةِ الروحيَّةِ، إذ إنَّ أكبرَ عمليَّة حبٍّ على الإطلاق هيَ موتُ اللهِ على الصَّليب، ويجسِّدُها الكاهنُ في كلِّ مرةٍ يُقيمُ فيها الذَّبيحة الإلهيَّة. لذا لِنَقُلْ لله عندما ندخلُ إلى الذَّبيحة: “بحقِّ الحبِّ الذي أحبَّنا إيَّاهُ ابنكَ حتى الموت، نرجوكَ خُذْ من محبَّةِ يسوعَ عن هذا المذبحِ وعَوِّض ما نقصَ من حبٍّ في قلوبِ موتانا”.
والقدِّيسُ الكاهنُ جان ماري فيانيه كان يُقيمُ الذَّبيحة الإلهيَّة في إحدى المرَّات – وكانَ يرى رؤىً – فرأى صديقاً له متوفَّى يتعذَّبُ بنارِ المطهر، وكان يحبُّهُ جدَّاً، لذا فأثناء قراءَتِه للكلامِ الجوهريِّ أمسكَ القربانَ وقالَ ليسوع: “قد أمسكتُكَ، ولن أفلتَكَ حتى تُفلتَ نفسَ صديقي من المطهرِ، وعندَ المناولةِ سأعطيكَ للنَّاس بفعلِ الحبِّ، وأرجوكَ أنتَ بدوركَ أن تأخذَ نفسَ صديقي وتعطيها لأبيكَ السَّماوي فعلَ محبَّةٍ أيضاً”، وعندما أنهى المناولة وعادَ إلى المذبحِ رأى الملائكة يمسكونَ نفسَ صديقِهِ ويرفعونها إلى السَّماء. لا يمكنُنا أن نتصوَّرَ كم يُريحُ الحبُّ الموجودُ في القدَّاس الإلهيِّ أنفسَ موتانا، فهم بحاجةٍ إلى رحمتِنا، ويجبُ أن نبقى في شراكةٍ معهم، فنزورهم في مدافِنِهم، ونعبِّرَ عن محبَّتِنا لهم، ونرشَّها بالمياه المباركةِ ونضيءَ الشَّمع المبارك، ونذكرهم في صلاتِنا باستمرارٍ، كما نذكرُ أنفس من لا يذكرهم أهلهم الذين نسمِّيهم بالنُّفوس “المــُنقطعة”، وإن ساعدناهُم نِلنَا رحمةً كبيرةً من الرَّبِّ، وسيشفعونَ بنا ليلاً ونهاراً، وعندما نغادرُ الحياةَ سيرافقونا إلى عندِ يسوع، ويطلبونَ لنا الرَّحمة لأنَّنا رحمناهُم عندما كُنَّا على قيدِ الحياة.
هذه حقيقةُ إيمانِنا، لنُصَلِّ على نيَّةِ موتانا في هذه الذَّبيحة، ونذكر المقدَّم “الياس الخوري” الذي توفي فداءً لقريةٍ كاملةٍ ليعطيَهُ الله الرَّاحة، ويمنحَ التَّعزية لأهله. كما نصلِّي لكلِّ الموتى الأبرياء الذين يموتون بلا سببٍ، علَّ اللهَ يفتقدُهم ويمنحُ بدمِهم السَّلامَ والراحةَ لبلادِنا، آمين.

 

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp