عِظة للأب ريمون جرجورة،

خادم رعيّة الميلاد الإلهيّ – الحضيرة، بيت الشعار، المتن.

انتقلوا من هذا العالم ليكونوا في قلب الله،

.باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

ها نحن نحتفل اليوم، بالذكرى الثانية لانضمام جماعة “أذكرني في ملكوتك”، إلى رعيّتنا. إنّ هذه الجماعة تُصلّي من أجل الراقدين من بيننا، مِن أهل وأحبّاء، من خلال المشاركة في الذبيحة الإلهيّة؛ لذا خصّصنا الذبيحة الإلهيّة، في الاثنين الثّاني من كلّ شهر، لذكر الرّاقدين وبخاصّة أولئك الّتي تمّ تسجيل أسماءهم في سجلّ هذه الجماعة، منذ انطلاقتها إلى الآن.

لماذا تُصلّي الكنيسة من أجل الرّاقدين؟ سؤالٌ يُخالجنا في الكثير من الأحيان، من دون أن نجد له جواب. لهذا السَّبب، سنتطرّق لهذه المسألة من الناحية اللاهوتيّة.

انطلاقًا مِن مفهومنا اللّاهوتيّ، تنقسم الكنيسة إلى قسمين: كنيسة مجاهدة، وكنيسة ممجدّة. تتألّف الكنيسة المجاهدة مِن الأحياء الّذين لا يزالون يتنَّفسون هواءً مصدره الغلاف الجويّ لكَوكَب الأرض، أمّا الكنيسة الممجدّة فتتألّف من الأحياء في عالم الله، الّذين يتنّفسون هواءَ مَصدره الله. إنّ الكنيسة المجاهدة تُصلّي للرّاقدين رغبةً منها في استمرار التواصل بينها وبين الكنيسة الممجَّدة: في عالمنا الأرضيّ، يتواصل البشر مع بعضهم البعض، من خلال وسائل متعدِّدة، منها: الزيارات، أو الاتصال هاتفيًّا، أو عبر المراسلة، إضافةً إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ؛ أمّا التواصل مع أحبّائنا الموجودين في حضن الله، في قلب الثّالوث، فإنّه يتمّ فقط من خلال الصّلاة، وبخاصّة في الافخارستّيا، أي في الذبيحة الإلهيّة. في الذبيحة الإلهيّة، تجتمع الكنيسة المجاهدة مع الكنيسة الممجدّة في جسد ودم يسوع المسيح، الحاضر على المذبح.

إنّ الكنيسة تُصلّي من أجل الرّاقدين وتذكرهم باستمرار في كلّ ذبيحة إلهيّة: فإنّ الذبيحة الإلهيّة الّتي يحتفل بها الكاهن، منفردًا كان أم مع الشَّعب المؤمِن، تفترض تحضيره للحمل إضافةً إلى وَضع صورة للعذراء مريم، كما يتوجّب عليه ذِكر الملائكة والقدِّيسين وجميع الرّاقدين على الإيمان، كما عليه أن يذكر الكنيسة المجاهدة، أي جميع المؤمِنين في هذه الأرض. إذًا، في كلّ ذبيحة إلهيّة يتمّ ذِكر الموتى المؤمِنين، وإن لم تكن الذبيحة مقدَّمة من أجل راحة نفس أحد المنتقلين مِن بيننا.

حين نُقدِّم الذبيحة الإلهيّة من أجل راحة نفس موتانا، فإنّنا في ذلك الأمر نؤكِّد لهم رغبتنا في الإبقاء على هذا التواصل بيننا وبينهم، وأنّنا نرغب في الاتِّحاد معهم، هم الكنيسة الممجدّة من خلال الربّ يسوع الموجود في القربان. حين نُقدِّم الذبيحة الإلهيّة من أجل الراقدين، فإنّنا بهذا الفعل نطلب من أمواتنا مساعدتَنا في مسيرتنا الأرضيّة، وبالتّالي فإنّ صلاتنا هذه لأجلهم، تُساهِم في خلاص نفوسنا، إذ لا يمكن تغيير أيّ أمرٍ بعد الموت.

في الإنجيل الّذي تُليَ اليوم على مسامِعنا، نسمع الربّ قائلاً لنا إنّ يوحنّا المعمدان هو إيلّيا الّذي عاد ليُهيّء الطريق للمسيح المنتظر. إنّ العهد القديم يُخبرنا أنّ إيلّيا قد صَعِد إلى السّماء بمرَكَبَةٍ ناريّة، وبالتّالي فهو لم يَمُت، وما هذا إلّا دليل على أنّ المؤمِنين بالربّ هم أحياءٌ في السّماء. إنّ الموتى المؤمِنين قد انتقلوا من هذا العالم ليكونوا في قلب الله، أي أنّهم أحياء إلى الأبد، وبالتّالي وَصَلوا إلى هدفهم وهو السُّكنى مع الربّ.

إذًا، إنَّ صلاتنا لأجل الموتى المؤمِنين ليست فقط من أجل الّذين انتقلوا إلى ديار الربّ، بل مِن أجلنا، نحن المؤمِنين الأحياء الّذين عاجلاً أم آجلاً سننتقل من هذا العالم، كي تكون مسيرتنا في ختام حياتنا الأرضيّة صالحة.

إنّ القرابين الّتي نُقدِّمها من أجل راحة نفوس موتانا، ما هي إلّا تعبير عن محبّتنا لهم، لذا نساهم من خلال ما نُقدِّمه، في دعم الكنيسة المجاهدة على هذه الأرض. إنّ “حَسَنَة القدَّاس” الّتي نُعطيها للكاهن ليُصلّي من أجل راحة نفوس موتانا، تهدِف إلى دَعم الكنيسة المجاهدة وبخاصّة الفقراء منها والمحتاجين. حين نُقدِّم القربان للمذبح من أجل راحة نفوس موتانا، فإنّ الكاهن يضع جزءًا منها مع القرابين الموجودة على المذبح، ليُعبِّر بذلك عن رغبة الكنيسة المجاهدة، وبخاصّة مِن قدَّموا القرابين، في الاتِّحاد الكامل مع الكنيسة الممجدّة، أي برغبتها في استمرار التواصل ما بين الكنيسة المجاهدة والكنيسة الممجدَّة.

إنّ التواصل مع أمواتنا هو دليلٌ على محبّتنا لهم، فاختبارنا في هذه الأرض علّمنا أنّ مَن نحبّه نتواصل معه، ومَن لا نرغب في استمرار علاقتنا معه، نقطع التواصل والحوار معه. إنّنا نعبِّر عن محبّتنا لموتانا من خلال استمراريّة التواصل معهم بالصّلاة، ولنؤكِّد لهم أنّ تلك العلاقات المتينة الّتي بَنَيناها معهم حين كانوا في هذه الأرض، لا يستطيع الموت الجسديّ إيقافها، بل هي تستمرّ إلى الأبد، وأنّه بعد انتقالنا نحن أيضًا من هذه الأرض، سنلتقي بهم، وبالربّ يسوع الّذي هو القيامة والحياة، فهو الوحيد الّذي يستطيع أن يهَب الحياة والقيامة للمؤمِنين به.

في هذا المساء المبارك، نرفع صلاتنا في هذه الذبيحة الإلهيّة، بشفاعة جميع القدِّيسين وكلّ الذين سبقونا، كي نحافظ على رجائنا بالربّ في هذه الحياة الفانية، لنتمكّن بعد انتقالِنا مِنها مِن الوصول إلى قلب الثّالوث، فنَحيا الله، ونلتقي بجميع الّذين سبقونا إلى الحياة الأبديّة. كما نرفع صلاتنا في هذه الذبيحة من أجل إخوتنا المرضى، المعذَّبين نفسًا وجسدًا، طالبين من الربّ أن يمنحهم نِعمة الشِّفاء، وأن يهبهم القوّة ليتحمّلوا آلامهم بكلّ شجاعةٍ، محوِّلاً آلامهم هذه، إلى آلام خلاصيّة.

وختامًا، نصلّي إليك يا ربّ من أجل كلّ العائلات المحزونة نتيجة فقدانها لأحد الأعزّاء، ازرع يا ربّ في قلوبهم نعمتَك ورَحمتَك وتعزّيتك وبَلسَمكَ. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ  مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp