كلمة رجاء للخوري جوزف سويد،
خادم رعيّة مار شربل – عمان، الوكيل البطريركي للموارنة في الأردن.
تعالَوا يا مبارَكي أبي، رِثوا الملكوت الـمُعَدّ لكم منذ تأسيس العالَم” (مت 25: 34)
باسم الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
نسمَعُ كلام الربّ، الّذي يُذكِّرنا قائلاً لنا: “تعالَوا يا مَن بارَكهم أبي، رِثوا الـمُلك الـمُعَدّ لكم مِن قَبل إنشاء العالم” (متى 25: 34). وهذا يعني بكلّ بساطة أنّ ربَّنا، الـمَلِك والرَّاعي الدَّيان، قد تماهى مع الجِياع والعِطاش والعُريانِين والغرباء، والمسجونِين والمرضى. هِيَ ستَّة أفعالٍ موجودة في نصّ الإنجيليّ متّى الإصحاح 25، وأمّا الفعل السَّابع فَهو الفِعل الّذي من المفترض أن نُركِّز عليه اليوم، ونَطرَحه على مائدَتِنا.
بدايةً، إنّ الربَّ يسوع لم يكن يَعني بالجوع جوعَ البطن، بل أراد القول ما هو أبعد من ذلك: أراد أن يقول لنا إنّ أخانا الإنسان اليوم هو مهجَّرٌ، مُنهارٌ، مهروسٌ، مجروحٌ، يعيشُ حالةَ موتٍ وحالة بؤس، وقد يكون هذا الإنسان “مُفَجَّم روحيًّا” لِكَثرة ما نال من صَفَعات من الحُكَّام، صَفَعاتٍ من الأيّام. اليوم، أخونا الإنسان سجينٌ في وَطَنِه، في أرضه وفي بيته. اليوم، أخونا الإنسان أَسيرٌ، مخطوفٌ، مقهورٌ، لديه جوعٌ للحريّة وللكرامة وللاستقلال، كما قد يكون لديه جوعٌ للبحث عن ذاته.
اليوم، أخونا الإنسان جائعٌ، مريضٌ، مسلوبُ الكرامة، مُهانٌ، منهوبٌ، غارقٌ في الدّيون تتآكله الهُموم. وأنتم تعلمون كم أنّ هذه الأيّام صعبة! إنّ أخانا اليوم يعيش في حالةٍ من القلق والقَرَف، والضّياع: هل يبقى أو يهاجر؛ ولا يدري إنْ كان الوضع سَينفرِج أو سينفَجِر، هل ينحجر أو ينتحر؟ كلّ هذه التساؤلات تدفع أخانا الإنسان إلى العيش في حالةٍ من الضَّبابيّة. هذا ما تكلَّم عليه الإنجيليّ متّى في الإصحاح 25، وهذا ما سنُركِّز عليه اليوم: ماذا يفعل الإنسان اليوم وماذا سيَفعل غدًا؟ لا أحد يعلم.
ما أريد أن أَقوله لكم هو أنّه علينا أن نَطمئِنّ، فالربُّ قال لنا: “تَعالَوا إليّ” وسَمّاهم: “تعالَوا أنتم يا مَن باركهم أبي”. وأريد أن أقول لكم: كم أتمَّنى أن يتكاثر “المار بولسِيِّين”، فَيَسمعون صوت الربِّ يقول لهم: تعالوا أيّها “المار بولسيِّين” الّذين كان همُّهم على هذه الأرض إشعال قلوب النَّاس. تعالوا “أيُّها اليوحنّاوييِّن” الّذين وضَعوا رؤوسهم على صَدر يسوع المسيح، كي يَسمعوا دقّات قلبه ويُصغوا إلى إلهاماته. تعالوا يا أصحاب القلوب الطَّيبة، الّذين لوَّنوا سواد الحياة، بمؤسَّساتٍ إنسانيّة ضَعيفة. تعالَوا يا مَن شمَّرتم عن زنودكم، ونزلتم إلى أرض الواقع، وقد ذَهَبتُم إلى ما وراء خطوط العَدّو، حَيثُ لا يَجرؤ الكثيرون إلى الذَّهاب صوبه؛ تعالَوا لأنّكم نزلتم إلى الشَّوارع وانَحنيتم على كلّ الأرصفة، وأَضَأتُم عيونَكم، وحَمَيتُم الضَّائعين، وأَطعمتم الّذين لم يبقَ لديهم رغيف كي يأكُلوا ويتقاسموه.
تعالَوا، أنتم الّذين تذهبون إلى كُلّ الأماكن وتُحبُّون أعمال الرَّحمة، وتأتون بالأشخاص الّذين مَحَتهم ظروف الحياة. أعلمُ أنّ المطلوب إليكم اليوم هو عملٌ استثنائي. أَعلمُ أنَّ الكثير من النَّاس قد أصبَحت وجوههم، مِثلُ لونِ الخريف، إذ بدأت سِماتُ التَّعب تبدو على وُجوههم. أعلمُ أنّ هناك الكثير مِن الـمَنسيِّين والـمَرمييِّن في العتمات، في البيوت. تعالَوا، يا كُّلّ الّذين يُطرَدون من الحَقّ، كُلّ الّذين يطالبون بأنْ يُعطَوا الحقّ، أي أنْ ينالوا العدالة. تعالَوا يا أيهّا النَّاس، إلى يسوع الّذي قال لكم: “تعالَوا يا مَن بارَكهم أبي”. تعالَوا أنتم الّذين باركهم أبي، أنتم الّذين أَمضَيتم ساعاتٍ تَسمَعون وتُصغون إلى الّذين سُرِقت منهم نعمة الحياة والفرحة والبسمة والمستقبل.
أعرِف أنَّ خراف الربّ كثيرةٌ جدًّا، وهؤلاء يستطيعون أن يكونوا مِن الأشخاص الّذين يسمعون هذه الآية: “تعالَوا يا مَن باركهم أبي”. تعالَوا أيها النِّعاج الّذين كافَحتُم، كي تكونوا علاماتٍ فارقة في هذا الزَّمن الرَّخيص. تعالَوا يا أيّها الِحملان الّذين كُنتُم بِصدِقٍ سُعاةَ خَيرٍ وأَيادي بيضاء، وقد كارَمْتُم بِصدِق الكرَّام والكرم، وقد تكون “الإكراميّة” الّتي تحصلون عليها ليست كافية؛ وعلى الرُّغم من ذلك تذهبون بِصِدقٍ لِتَدفئة القلوب الباردة. تعالَوا يا أَصدقاء يسوع، الّذي يقول لهم اليوم: تعالَوا يا مَن بارَكهم أبي”.
تعالَوا أيُّها الأصدقاء، لِتُتابِعوا ورشةَ عملِ يسوع، لِتتابعوا مشروعه الخلاصيّ. تعالَوا يا أصدِقاء القُربان، تعالَوا يا أصدقاء العذراء، تعالَوا يا أصدقاء إخوتي الأبرار والصدِّيقين جميعًا، مار شربل والقدِّيسة رفقا والحرديني، وكلّ القدِّيسين الَّذين تُقيمون لهم التِّسعاويات، لأنّكم أنتم أيضًا في صلاتكم تُلهِمون الكثيرين؛ فأنتم كُنتم العاصفة في وَجه المرائين، كُنتُم فَعلةً في حِصاد يسوع الكبير، وما زال الربُّ يبحثُ عن فَعلةٍ لِحِصادِه. تعالَوا “أَيّها البُطرسِيِّين”، الّذين نَسِيتُم ذواتِكم على شواطئ الدُّنيا، فَكُنْتُم صيّادي بشر. تعالَوا أيّها الرُّعاة، الكهنة والأساقفة والمطارنة والبطاركة وكُلُّ الإكليروس، الّذين تَركتُم الموائد الممدودة في قصور القياصِرَة، وفرشتُم موائدكم للجِياع والعِطاش والعربانيين والغرباء والمرضى والمساجين. تعالَوا يا أيّها الكَهنة الِّذين ما زلتم محافِظين على طَعمِ القُدَّاس الأوَّل. أريد أن أقول لكم: نعم، نحن نستطيع أن نحافظ على طَعم يسوع المسيح!
وفي النِّهاية أريد أن أقول لكم: أعلم أنّه إنْ لَم نسمع من الربّ عبارة: “تعالَوا يا مَن بارَكهم أبي، رثوا الـمُلك المعَدَّ لكم مِن قَبْل إنشاء العالم”، فهذا يعني أنّ نصيبَنا قد يكون مِن نصيب الَّذين كلَّمنا عنهم يسوع أيضًا، في نصّ الإنجيليّ متَّى، في الإصحاح 25، حين قال: “اِذهبوا عنِّي يا ملاعين، إلى النَّار الـمُعدَّة لإبليس وملائكته”. إخوتي، هذه النَّار ليست مُعدَّة لكم، أنتم الّذين تسمعوننا اليوم؛ إنّما هي مُعدَّة لإبليس وملائكته. تعالَوا يا أَيّها التُّجار الّذين لم تقبلوا تسويق بِضَاعةٍ كاذبة وفاسدة كالّتي نسمع عنها اليوم، ولم تَقبلوا إّلا أن تكونوا تجَّارًا حقيقيِّين، تبيعون وتتاجرون بالوزنات الّتي أَعطاكم إيّاها الله، في حين أنَّه في الجهة المقابلة، هناك تُجّارٌ هم مُرتزقةُ الهيكل. إنّ لبنان ليس هيكلاً علينا سَرقتَه، وهنا نتذكَّر قول يسوع لِتُجَّار الهيكل: أنتم “جعلتم من بيت أبي مغارةً للُّصوص”. معروفون هم تجَّار الهيكل نظيفو الكَفّ، ومَن هم تُجّار الهيكل ذات الكفِّ الوَسِخ.
أُحيِّيكم وأطلب إلى الربّ، أن يجمعكم في اليوم الأخير، من الرِّياح الأربعة ويضمُّكم إلى مملكته السَّماويةّ. آمين.
ملاحظة: دُوِّن التأمّل بأمانةٍ مِن قِبَلنا.