عظة الأبّ إيلي خنيصر،
رعية القدّيسة بربارة – زحلة.
حبة الخردل،
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
أيام قليلة تفصلنا عن عيد الميلاد، سنتحدّث عن حبّة الخردل التي نَمَت في حقل الزارع وأصبحت شجرة، وسوف نرى في آخر العِظة، كيف تتهيَّأ المغارة لقبول مريم العذراء ويوسف. لقد ذُكِرَ في الإنجيل أنّ حبّة الخردل، الصّغيرة جدًّا قد أصبحت شجرة، وهي تشبه إيماننا الذي كان صغيرًا وكَبِرَ، فإيماننا بالمسيح يُنمّينا، وما نزرعه نحصُده. في إنجيل اليوم حديثان فقط: الأول، حديث مَثَل الزارع: حيث خرج الزارع ليزرع زرعه، فسقط الزرع جانب الطريق على الصخر والشوك، وعلى الأرض الجيّدة. ويُخبرنا يسوع عن مَثَلٍ ثانٍ، الزارع الذي أخذ حبّة الخردل ورماها في بستانه الخاص، وبستانه عبارة عن أرض جيّدة، لأنّ الزارع الذي يُصَوّر بالله الآب، يكون بُستانه أشبه بالفردوس، ونمو الشّجرة وكبرها، يدلانّ على جودة نوعيّة التربة وعلى اهتمام الزارع بأرضه.
كان الرُعاة في فاطيمة، ميديغوريه، غير قادرين على وصف السّماء، فطلبوا من بولس أن يصِفَها لهم، فأجابهم: “ما لم ترَ عينٌ ما لم تسمعْ أُذنٌ ولم يخطر على بال إنسانْ، ما أعدّه الله للذين يحبونه” (اكور 9:2)، ولكنّ الله وصفها لهم عند النبع قائلًا: “يُشْبه ملكوت السماوات إنسانا زرع زرعًا جيدًا في حقله”(متى 24:13).
عندما بدأ يسوع رسالته، قال: “توبوا لأنّه قد اقترب ملكوت الله” (متّى17:4)، ولكنّ اليهود احتقروا الحديث عن هذا الملكوت، الذّي بشّر به يوحنّا المعمدان، والرّبّ يسوع، فعندما تحدّث الله عن ملكوت السّماوات في البدء، كان حديثه أشبه بحبّة الخردل، ولكن يسوع عندما بدأ برسالته، وبصنع المعجزات، وظهرت قدرة الله فيه، عندها بدأ الملكوت بالتوسّع، وبدأت الجماعات تأتي لسماع كلمة يسوع بكُلِّ حبّ وشغف، وبدأ الملكوت بالنُمو، وأصبح شجرة عظيمة. عندما مات يسوع وقام مِن بين الأموات، أصبح الملكوت يُشبه هذه الشجرة، التي بسطت أغصانها وجذورها في كل أقاصي الأرض، ووصل رأسها إلى أعلى السّماوات، فسجدت له الملائكة ومجَّدَهُ البشر، وارتعدت الشّياطين من هذا الملكوت.
ترمز الشجرة في الإنجيل إلى السّلام والحيويّة، فهي نبض الحياة للأرض. ويقول الرّبّ يسوع في الإنجيل: “الشجرُ قال عنه الله، لتُنبِت الأرضُ نباتًا، عُشبًا يُبذرُ بذرًا، وشجرًا مُثمِرًا، يحملُ ثمرًا بذره فيه من صنفه على الأرض، فكان كذلك، فأصبح الشجر هو علامة الوجود” (تك 11:1)، لأنّ الأرض مِن الباطن تحتوي على المياه، وحيث المياه، هناك الحياة. ثانيًا: الشّجر في الكتاب المقدّس يدلّ على التبدّل في الطّقوس والمناخ، واستشهد يسوع على ذلك في الكتاب المقدّس: “إذا رأيتم بأنّ التينة مالت أغصانها وأورقت، تعلمون أنّ الصيف قريب” (متى 32:24).
ومَثَل حبّة الخردل، موجود في العهد القديم، في أسطورة نبوخذ نصّر الذي استدعى دانيال ليُفسِّر لهُ الرؤيا، وعبَّر عمّا رأى قائلًا: “رأيتُ وأنا نائم في فراشي، شجرة في وسط الأرض مُرتفعة جِدًّا، فرَبيَت الشجرة وقَويَت، وبلغ ارتفاعُها إلى السّماء، ومَرآها إلى كل أقاصي الأرض، وأوراقُها بهيّة، وثمرُها كثير، وفيها غذاءٌ للجميع، وتحتها تستظلُّ وحوش البريّة، وفي أغصانها تُقيم طيورُ السّماء، ومنها يقتات البشر”. وقد تكلّم الكتاب المقدَّس عن عدّة أشجار: الشجرة الأولى: شجرة الحياة المغروسة في الفِردوس، الشجرة التي قطفت منها حواء، ولكنّ الله أقام الشجرة في قلب الفِردوس، ومِن هنا نلاحظ قيمة القلب في الطبيعة والحياة الإنسانيّة، فالقلب هو نبض الحياة، والقلب هو نبض الفردوس، فكانت شجرة الحياة في قلب الفردوس. الشجرة الثانية: الغالب معي، يأكل من شجرة الحياة المغروسة في السّماء، وصفات هذه الشجرة، أنّها تُثمر لاثني عشر شهرًا، وتُطعم كل أهل السّماء مُدّة اثني عشر شهرًا، الثمر الذي لا ينفذ. الشجرة الثالثة: لوّح لها نبوخذ نصّر، وارتفعت إلى السّماء بحيث يراها كلّ العالم من أقطار الأرض الأربعة ، وهي عود الصّليب. فعندما ارتفع يسوع على الصليب قال: “ومتى رُفعت، جذبتُ إليّ كثيرين”(يو 32:12)، وهذا الجذب لا يتم إلّا عندما ينظر الكثيرون من أقاصي الأرض إلى هذه الشّجرة في شموخها إلى العَلاء.
هذه الحبّة تُشبه مريم العذراء، المتّجهة الآن إلى المغارة، ونحن ننتظر نمو ملكوت الله من باطن الأرض، لأنّ مريم سوف تُلقي البذار في داخل الأرض، داخل المغارة. فمريم هي حبّة الخردل التي أخذها الله الآب وزرعها في بُستانه والذي هو الفردوس، الجنة الخضراء التي تتفجّر منها ينابيع المياه، ولكي تُعطي مريم العذراء الحياة لابن الله، يجب أن تنمو الحبّة في أرض الله، وتستقي من مياه الله التي يُفجّرهُا مِن فِردَوسه. ومريم العذراء هي حبّة الخردل التي زرعها الله في أحشاء حنّة، فقد كانت صغيرة، وعندما ولِدَت بدأت تنمو، إلى أن جاءها الملاك وقال لها: “السّلام عليك أيّتها الممتلئة نعمة”(لوقا28:1). وقد بدأ الملكوت معها، كما بدأت هي صغيرة، وستصل إلى مرحلة تُصبح فيها شجرة إلهيّة مُعظّمة. فهي الشجرة التي تنبض بالحياة، وتُشير إلى أنّ فصل السّماء ليس بشتاء أو خريف، بل هو ربيعٌ مُزهِر، وصيفٌ مُثمر، إلى أبد الدهور. فهي الشجرة التي لن يتساقط لها ورق، لأنّها تتغذّى مِن مياه الله الآب، مياه الفردوس، وتدعو الجميع إلى أن يحتموا تحت أغصانِها، ويشربوا من مياه الفردوس التي شربتْ مِنها هي.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.