عظة للأب جان عقيقيّ،
رعية مار يوسف – المطيلب.
حياتنا كلّها انتظارات،
الله معكم، الله هو دائمًا معكم.
حياتنا كلّها انتظارات. إنّ الطفل ينتظر من أمّه أن ترضعه، ثمّ ينتظر الأهل الطفل كي يكبر ليذهب إلى المدرسة، وبعد ذلك ينتظرونه كي يصبح شابًا فيعمل ويتزوّج. كذلك، نرى الشاب ينتظر أن يجد عملاً وأن يؤسس عائلة وينتظر إنجاب الأطفال بعد أن يجد شريكته في هذه الحياة. حياتنا كلّها انتظارات، الأمّ تنتظر أولادها، والعجوز ينتظر أولاده. وعندما يموت الانتظار في حياة الانسان، تموت الحياة. ففي بعض الأوقات، تكون الانتظارات على مستوى الفرد، وفي البعض الآخر، على مستوى الشعوب. نحن في لبنان، ننتظر حلاً لمشكلة النفايات، وحلاً لرئاسة الجمهوريّة، وكلّها انتظارات على مستوى البلد. على مستوى العالم العربي، ننتظر انتهاء الحروب.
إنّ الكتاب المقدّس هو مليء بالانتظارات. ففي العهد القديم، كان الشعب ينتظر مجيء المخلّص. في العهد الجديد، نعيش منتظرين المجيء الثاني. فإن مات الانتظار، حتّى على مستوى الشعوب، لا معنى للعيش. من ضمن الاشخاص في العهد القديم الذّين كانوا ينتظرون مجيء المخلّص، شابٌ اسمه يوسف، وفتاةٌ اسمها مريم. كان هذا الشّاب كبقيّة الشباب يحلم بالزواج والسعادة والعيش الكريم مع شريكة حياته بالأمانة والإخلاص. وكان هذا الشّاب يسير بمخافة الله عمره كلّه. لم يكن ينتظر هذا الشاب أن تكون خطيبته أمّ الله المخلِّص والمنتظر، لم يكن يتوّقع أن يزور الملاك خطيبته لينقل لها البشرى بأنها ستكون أمّ الله، مع العلم أنّ يوسف كان شخصًا متعمّقًا في الكتب المقدّسة، ويعرف الآية القائلة: “إنّ العذراء تحبل وتلد ابنًا”، ولكنّه شكّ ودفع به شكّه للتفكير بالانفصال عن خطيبته. لقد اضطرب، احتار في أمر خطيبته لعلمه أنّها طاهرة عفيفة، غير أنّ الرّبّ لم يتركه في حيرته. إنّ يوسف بالرغم من حدوث هذا الأمر معه، لم يتفوّه بأيّ كلام ضد مريم ولم يُشَهِّر بها، ولم يتكلّم عنها بالسوء، لكنّه فكّر بالانسحاب. ولكنّ الرّبّ أرسل له الملاك ليخبره بحقيقة أمر مريم وشجّعه وأخبره أنّه هو أيضًا قد تمّ اختياره من قبل الرّبّ ليكون أبًا ومربّيًا لابن الله. إنّ الله أخبره بالأمر ولم يسعَ ليؤثّر على حريّة يوسف في قبوله لهذا المشروع ولم يضغط عليه. عندئذٍ، يوسف آمن بهذا السرّ، قَبِلَ هذه المهمّة التّي أوكلت إليه، وأصبح أبًا شرعيًّا أمام جميع النّاس ليسوع الانسان الذّي قِيلَ عنه إنّه ابن يوسف النّجار. إنّه لشرف عظيم لهذا الشاب أن يُربّي ابن الله! لقد تهلّل يوسف بالملائكة عندما جاؤوا عند ولادة يسوع ورتّلوا المجد للّه في العلى، واستقبل الرّعاة والمجوس عندما سجدوا ليسوع، وهرب أيضًا يسوع إلى مصر عندما رأى الخطر يحدق بابنه. لقد عرف معنى التشرُّد، الهرب، الغُربة، الانتظار مع العذراء مريم. وقد نذر حياته كلّها ليكون قُربَ مريم خطيبته ويسوع ابنه. لقد أَطلَقتُ عليه في هذه السنة، سنة الرّحمة، لقب رسول الرّحمة، إضافةً إلى كلّ الألقاب التّي حصل عليها عن جدارة: أشرف قدّيس، بتول، عفيف، زَينُ الابكار، يوسف المختار، كامل بالفضائل، مملوء من الانعام، شاهد لسرّ الفداء، أب ليسوع ومربٍّ له، شفيع العائلة، شفيع الكنيسة، شفيع البتوليين، صديق الله. أنا أريد أن أضيف لقبًا له وأقول عنه إنّه رسول الرّحمة، ذلك لأنّه عندما اكتشف أمر حَبَلِ مريَم، لم يتكلّم عنها بالسوء، ولم يكشف سرّها علنًا لكي تُرجَم وتموت كما كانت تقتضي الشريعة في حينها. إنّ يوسف كان كاتم سرّ مريم. إن ّأكثر خطيئة تزعجني أنا اليوم، ليست الزنى، إنّما النميمة أي قتل صيت الآخر. إنّ الزِّنى هو إساءةٌ إلى شخص واحد، أمّا النميمة فهي قتل الانسان وجعل صيته ينتشر في كلّ مكان. يُخبرون عن امرأة جاءت إلى الكاهن وقالت له أنّها تثرثر وتتكلّم بالسوء على جاراتها. فطلب منها أن تأتيه بدجاجةٍ منزوعة الريش لكي يغفر لها خطيئتها. ففعلت كما أمرها وأتته بها. عندئذٍ طلب منها أن تذهب وتعيد الريش إلى الدجاجة. فاستغربت طلبه هذا واعترضت قائلةً له إنّ ذلك هو أمر مستحيل. فقال لها إنّ هذا ما فعلته بجارتها، إذ أصبح صيتها سيئًا على كلّ لسان وشِفة. وهكذا فإن قتل الصيت والنميمة، هما أكبر من كلّ الخطايا. إنّ موقف يوسف كان موقف رجل الرّحمة إذ لم يُشَهِّر بمريم على الرّغم من تفكيره بالانسحاب، ولكنّ الرّبّ تدّخل وأوضح له أمر مريم أنّ مريم طاهرة وهي حبلى من الرّوح القدس.
إنّ يوسف هو رجل رحمة مع عائلته: مع زوجته وابنه. اليوم، هناك العديد من الرّجال، للأسف، لا يعيشون الأبوّة في حياتهم، وعند أوّل أمر يُطلَبُ منهم القيام به، ينسحبون بكلّ سهولة: كم هناك من الآباء الذّين يتركون أولادهم وزوجاتهم من أجل لعب الميسر ومن أجل الجري وراء غرائزهم وأمور أخرى تافهة، تاركين عبء التربية لزوجاتهم. إنّ يوسف كان يقف جنب مريم في الصعوبات، كان يقف مع مريم ضدّ الدّهر، وليس العكس. في عمق الصعوبة، عندما كان الملك هيرودس يريد قتل يسوع، هرب يوسف مع عائلته من أجل الإبقاء على حياة يسوع. إذًا نلاحظ التّعاون الموجود بين مريم ويوسف، فهو لم يتملّص من المسؤوليّة ولم يترك مريم وحدها في هذه الصعوبة. إنّ يوسف كان يعمل لِيُقيت عائلته من عرق جبينه، بصدقٍ وأمانةٍ. لقد كان رجلُ عملٍ، لذلك نرى أن العمّال اتخذوه شفيعًا لهم للتّشديد على أمانته في عمله. هذا الرّجل كان رجل رحمة في عائلته، في عمله، مع مجتمعه، ومع الكنيسة أيضًا. لقد هرب يوسف مع عائلته إلى مصر ليحمي يسوع من الموت إذ علم أنّه المخلّص، وهنا نرى أنّ الله جعل من يوسف مدافعًا عن الكنيسة إذ دافع عن المخلِّص لكي يتمّ مشروع الخلاص. كان رجل رحمة مع الكنيسة. في هذه السنة، نستطيع أن نقول أنّ مار يوسف هو رجل الرّحمة، لأنّه كذلك حقًّا، على الرغم من أنَّ الكُتّاب والوُعاظ لا يتكلّمون عنه كثيرًا.
إنّه رجل الرّحمة وشفيع الكنيسة. إنّ البابا فرنسيس أعلن أنّ هذه السنة، سنة 2016 هي سنة رحمة، وقال إنّه سيكون يوبيلاً استثنائياً. في القديم، كانت السنّة اليوبيليّة تُعلن كلّ 50 سنة وكانت تقدّم لله: فمن كان له ثأر على أخيه الانسان، يسامحه في هذه السنة. بل أكثر من ذلك، في هذه السنة لم يكن يتمّ قطف الموسم بل كان يبقى على الشجر لكي يسمحوا لمن هو بحاجة وجائع أن يستفيد من ثمار الأشجار، وكذلك كلّ مارِّ على الطريق. وكانت المسامحة بين المتخاصمين تتمّ في هذه السنة. لذلك قال يسوع عندما قرأ في الهيكل من سفر أشعيا: “روح الرَّبِّ عليَّ، مسحني وأرسلني لأبشِّر المساكين، وأهب العميان البصر، وأحرّر المأسورين، ولتكون سنة مرضيّة لله”. لقد أراد البابا فرنسيس هذه السنة أن تكون سنة مرضيّة لله، ودعا المسيحيين في العالم كلّه ليعيشوا الرّحمة مع ذواتهم ومع الآخر. وقال إنّ هناك أعمال رحمة جسديّة وأخرى روحيّة. فأعمال الرّحمة الجسديّة هي مساعدة الآخر: الجائع والعطشان والمشّرد والمنسيّ، والمأسور. أمّا أعمال الرّحمة الروحيّة فهي السعي لإرجاع شخص بعيد عن الله، وإرجاع الملحد إلى الايمان أو إرجاع إنسان يعيش مرحلة “دفن الميّت”. والسؤال المطروح: كم نحن بحاجة في كنيستنا، إلى أشخاص على مثال مار يوسف، هذا القدّيس الذّي نتّخذه مثالاً لنا وشفيعًا للكنيسة وشفيعا لآبائنا وللبتولييّن، ونسعى للسير على مثاله؟ كم نحن بحاجة إلى أن نكون على مثال مار يوسف، نسعى لعيش الرّحمة الرّوحيّة والجسديّة؟
نحن نصلّي اليوم، مع جماعة “اُذكرني في ملكوتك”، هذه الجماعة المصليّة، التّي تحمل بعضها البعض من خلال الصلاة، وتصلّي من أجل الخطأة، وتحمل في صلاتها كلّ الذّين رقدوا. نحن اليوم نشكر الله على هذه الجماعة، ونقول لها إنّه ما زال هناك الكثير لتفعله في سنة الرّحمة ونطلب لها شفاعة مار يوسف الذّي سنحتفل بعيده، بعد يومين، ونطلب شفاعته، إذ إنّه شفيع الميتة الصالحة، لكي تكون كلّ نفوس موتانا مع الرّبّ في السّماء، بشفاعة مريم العذراء والقدّيس يوسف. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.