محاضرة للأب ادكار الهيبي، 

لقاء تنشئة في مرافقة المرضى،

دور الضمير الشخصيّ في أخذ القرارات المسؤولة،

المقدّمة :

ما يجمعنا اليوم هو الإنسان المتألّم الذي هو على صورة الله ومثاله. ما هي مسؤوليّتنا اتجاه المريض وبخاصة المشرف على الموت؟ هل يعي أهميّة وجوده؟ هل هو محضّر للموت؟ للعبور …؟ للقاء الربّ؟ ما هو دورنا بالمرافقة الروحية؟ هل نحن المخلّصين؟ أم نحن في خدمة خلاصه بحضورنا ، بمعرفتنا…. كي ينمو كل يوم أكثر في مشروع ملكوت الله . كما قال يسوع المسيح ” ملكوت الله في داخلكم “.

الله معكم ، إنّ ما يجمعنا اليوم ليست خبرتنا الشّخصيّة، ولا هي مصادفات الحياة، إنّما هي شراكتنا في الرّوح القدس الكائن فينا؛ ونحن بلقائنا هذا إنّما نحاكي مريم وأليصابات، عند زيارة الأولى للثّانية، وفرحهما الواحدة بالأخرى الذي تجلّى في تهلّل أليصابات وارتكاض الجنين في بطنها…أجل، هذا هو عمل الرّوح القدس فينا، وهذا ما نعبّر عنه اليوم من فرح، بلقاء بعضنا للبعض الآخر…وأنا حامل رسالة، أحاول أن أعبّر عنها، وأن أؤكّد لكم عمل الرّب والرّوح القدس فيكم، حتّى نختبره معا، فنمجّد الرّب…إنّ ما يجمعنا اليوم هو الإنسان عامّة، والإنسان المتألم بخاصّة، وأنا لم آتِ لألقي محاضرة، بل أنا هنا حتى نفكّر سويّا ، ونتشارك الخواطر.
أمّا بالنسبة إلى عنوان الجماعة : ” اذكرني في ملكوتك “، فقد قالت زينة إنّ دافعها، هو إحساسها الصّادق بالمسؤوليّة تجاه المشرفين على الموت، حتّى تصل بهم إلى حضن يسوع المسيح…وقد تختلف الآراء باختلاف الخبرات الاجتماعيّة عامّة، والعائليّة بخاصّة، في موضوع الموت. أمّا تيريز فقد رأت أنّ في رسالتها توق إلى الدّخول إلى الأعماق هربا… وسأما من القشور.
” اذكرني في ملكوتك ” : ملكوت الله في داخلكم.

وبما أنّ الاهمّ عند التعليق على موضوع معيّن هو الانتقال من طريقة تفكير سطحيّة، تعتمد على الأخذ بكلّ شيء، وقبول المعلومات كما هي، إلى طريقة تفكير أعمق نتحوّل فيها من متلقّين سلبيين، إلى محلّلين واعين، وأصحاب قرار يترجم على مختلف أصعدة حياتنا، فالتّنشئة الصحيحة هي تكوين حقيقي، داخليّ “formation “ ينشئ فينا بناء جديدا متينا…فمن لا يعرف كيف يعيش، لا يعرف كيف يموت ، ومن لا يموت عن أشياء كثيرة كل يوم لا يجيد العيش؛عدد لا يستهان به من البشر ، يعيشون من هروب إلى هروب لعدم تقبّلهم صلبان حياتهم، ولعدم تعايشهم مع النّقصان الذي يطبعهم كبشر، في صحّتهم، وسلامهم، وتفكيرهم…إذ إنّ الكمال هو لله وحده!

ماذا نطلب من المحاضر الذي يكاد يعرف كلّ شيء، وهو مستعدّ لمحاولة إقناعنا بما يؤمن به، ولو كان ذلك على حساب راحته…إلا أنّ مشكلتنا في الشّرق الأوسط هي مشكلة لاوعي مخيف! وهذا اللاوعي العام، واللاوعي الأخلاقيّ بخاصّة، هو ما يجب أن نغلّب عليه، عند المريض المشرف على الموت، الوعي الوجودي، -الذي شبهه “فرويد” بجبل الجليد العائم ICEBERG : القسم الظاهر فوق الماء من هذا الجبل يرمز إلى الوعي والقسم الأكبر منه بكثير والمغطى بالمياه: يرمز إلى اللاوعي. هذا ويتكون الوعي من الوعي الوجدانيّ، والوعي النّفسيّ، والوعي الأخلاقي، حتّى ننهض بالمريض روحيّا، فتنكشف له أهمّيّة وجوده، وقيمته الشّخصيّة، حتّى يتمكّن بعدها من تمييز الخير من الشّر…ف” اذكرني في ملكوتك” تعني، “املك أنت على قلبي واجعلني ادخل في سر الوهيتك كي انمو كل يوم اكثر في مشروع ملكك” ، أجل، هذا هو الملكوت .

قال أحد آباء الكنيسة: “لقد صار ابن الله انساناً ليصبح الإنسان ابن الله”. وفي الكنيسة الأرثوذكسية، يُقال أن مشروع الله هو “تأليه الإنسان”، وهكذا، فكلّ منّا بوعيه الوجداني ، والنفسي، وفي عمق ضميره، يكبر كل يوم حتى يصبح “على قياس الله”. وقد قال بولس الرسول في هذا المضمار: دعوتي أن ابلُغ ملء قامة المسيح عندما أعتمد”؛ وهو يعني “ملء قامة المسيح”، ملء الوجدان الإلهي، وهو دعوة كل انسان.
: كلّ، يحيا حياته ، ولا أحد يحيا “عن غيره”، وهذا المبدأ سيف ذو حدين
الحد الأول إيجابي ومريح، يخفّف عنّا مسؤوليّة فشلنا في رسالة مرافقة المشرف على الموت ، لأننا لا نستطيع ان نخلص أحداً بالرغم من امكانياته الوجدانية والنفسية.اما الحد الثاني فسلبي، إذ إنّي على الرّغم من حدود مسؤوليّتي تجاهه، إلا أنّ رسالتي ان أحاول، بشتى الطرق، أن اكوّن لديه دعوة ولو صغيرة حتى ينمو بالألوهية في عمق ذاته. لقد اقتنعنا إذن ان مشروع خلاص الآخر ليس بيدنا، لكننا خدام لكل مشروع بتصرفاتنا ، بحضورنا، بنشرنا للمعرفة، كلّ بحسب اختصاصه. ألسنا نعاين اليوم انعدام المعرفة الوجدانية والعقلانية عند النّاس عامّة، وعند المرضى المشرفين على الموت بخاصّة؟ نحن غير محضرين للموت، وكأنه لا علاقة لنا بحياتنا..

عندما سألني ابني البالغ من العمر عشر سنوات: “هل سأموت ؟”، أجبته: “ليس الآن، بل عندما تكبر”، فبدأ يبكي،؛ لكنّ أخته ، وهي في التّاسعة، أجابته: “لا ، لن نموت!”. علينا أن نغيّر ثقافة الهروب من فشل عدم سيطرتنا على الموت، ومعرفة أنّه انتقال وعبور… فالموت ليس نهاية، إنّما هو، في بيئتنا المسيحية ، بيئة الحياة الابدية، بداية! وعندما نصرّ أن نربّي أولادنا على الضّمير الحيّ الذي يأخذ قرارات مسؤولة، علينا ان نساعد كل انسان على حمل مسؤولية تألهه وخلاصه، أي كي يغتصب ملكوت الله، على ما يقول القديس متى.
لذا، فأول ملاحظة منهجية تقول بضرورة تحول وضعية علاقتنا بالمرضى، وبموت غيرنا ، وبعلاقة غيرنا مع الملكوت: “نحن لسنا المخلصين” ، ونحن في خدمة خلاص الآخر حتى الموت.
والآن انتم الذين تركتم التزاماتكم لخدمة خلاص الآخر، لا تتخلوا عن فضيلة اساسية، هي التواضع؛ فالمخلص هو يسوع المسيح، وليس نحن! وهذا يطبق على تربية اولادنا أيضا… فكل ام هي في خدمة تأله اولادها، وعلينا جميعا أن نتقبل الفشل، عندما نقوم بخدمة نجاح الآخر. ومع المرضى علينا ان نكون حاضرين بروح التواضع والتفاني.

فالمهمة الرسوليّة الأولى لكل مسيحي تجاه كل انسان عامّة، وتجاه المرضى، بشكل خاص، ان يساعد كل شخص على ان يحمل حياته على اكتافه كما فعل المسيح مع المخلّع، هكذا على كلّ منّا أن يحمل مشروع خلاصه وصليبه أوّلا..أخيرا، فلنتخلّ عن منطق أنّ ” الحياة الأبدية تبدأ بعد الموت “، ان هذه الحياة بحد ذاتها تأسيس لاستمرارها عبر الانتقال او الموت، وهناك خطر اذا لم أعش أنا امكانية انتقالي بالموت، يبقى الموت هروبا، فلنحضر للحياة الأبدية في كل لحظة، فقد قال يسوع: ” ملكوت الله في داخلكم”. 

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp