القدّاس الاحتفاليّ في عيد القيامة المجيدة،
كنيسة دير مار الياس الراس – جعيتا، كسروان.
عظة القدّاس الإلهيّ لسيادة المطران بولس روحانا، راعي أبرشيّة صربا المارونيّة:
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين
حضرة رئيسة وراهبات هذا الدّير المبارَك “دير مار الياس الراس” المحترمات،
إخوتي الكهنة والرُّهبان الأفاضل،
أيّها الإخوة والأخوات، أبناء وبنات جماعة “أذكرني في ملكوتك”،
أيّها الأحبّاء، إنّنا نلتقي اليوم، في القدّاس السّنويّ لجماعة “أذكرني في ملكوتِكَ”، الّتي تضمّ عدَّة جماعاتٍ تمكنَّتْ من الالتقاء اليوم في هذا الدَّير المبارَك، بعد أن احتَفَلتْ الكنيسة، بحسب التَّقويمَين الغربيّ والشَّرقيّ، بِعِيد القيامة. فَفي روحانيّة “أذكرني في ملكوتِكَ”، يتَّخِذ الاحتفالي السنويّ بُعدٌ مسكونيّ، أي أنّنا نلتقي، كمسيحيِّين من كلّ الكنائس، لِنُفكِّر بالحياة الأبديّة. وهنا، أرى ذاتي، أنا وإخوتي المسيحيِّين مِن تَسميّاتٍ مُختَلِفة، داخل هذه الشَّبكة الّتي طَلب الربُّ من الرُّسل أن يَرموها في البَحر فاجتَذَبَت السَّمَك، ومع كَثرة السَّمك الّتي تّم اصطيادها لم تتمزَّق الشَّبكة. إنّ الكنيسة، في عَرفِ الإيمان، هي واحدةٌ؛ إنّها شَبَكةٌ لا يُمكن أن تتمزَّق مهما اعترضَتها المشاكل والانقسامات، لأنَّ وَحدتها هي مِن الربِّ الّذي دعاها وجَمَعها. نُصلِّي اليوم، قَبل أن نتأمَّل في موضوع “أذكرني في ملكوتِكَ”، من أجل أن نكونَ شُهودًا لِوَحدة الكنيسة، لِوَحدة “الشَّبكة” الّتي تسلَّمناها من الربِّ يسوع.
أيّها الأحبّاء، لقد اعتَدْنا القَول: “المسيح قام، حقًّا قام!”. هنا، نَطرح السّؤال: ماذا يَحمِل هذا الإعلان؟ هل هو مُجرَّدُ هُتافٌ عاطفيّ نَقولُه دون التّفكير به؟ أَم أنّه يَحمِل بالفِعل مَضامِين من إيماننا، ممّا يعني أنّ كلّ إيمانٍ مَدعوّ إلى أن يُترجَم بالأعمال؟ لا أستطيع أن أفَهم هذا الإعلان: “المسيحُ قام!”، إلّا على ضوء الجماعة المسيحيّة الأُولى، الّتي، بَعدَ أن اعترفَتْ بقيامة الربِّ يسوع، لبَّتْ نداء الربِّ لها وأعلنَتْ البشارة، وهذا ما نقرأه في الآيات الأخيرة من إنجيل متّى، في الإصحاح 28، إذ نجد أنّ المسيح، القائم من الموت، قد تراءى للتّلاميذ الأحد عَشر، وأرسلهم ليُبشِّروا ويُتَلِمذوا الاُمَم كلِّها. إنّ هذه الإنطلاقة الرِّساليّة والرَّسوليّة، بَعدَ حدثِ القيامة، تُشير إلى أنّ المسيحيِّين الأُوَل والتّلاميذ الأحَدَ عشر والجماعة المسيحيّة الأُولى قد اختبروا شيئًا في غاية الأهميّة، وهو قوّة القيامة، إذ تمكنَّوا فورًا من أن يتحوّلوا إلى فريق رِسالة، إذ ذهبوا للتَّبشير بالمسيح، الـمُعلَّق على الصّليب والقائم من الموت، في العالَم الّذي كان مَعروفًا آنذاك. بعد مرور ألفَي سنة، على عمل التّلاميذ التبشيريّ، لا يمكننا إلّا أن نُقدِّر ما قاموا به، وأن نُعلِن “المسيح قام، حقًّا قام!”.
هنا، نسأل ذواتنا: هل يا تُرى، ما زال لدينا اليوم هذا الاندفاع الرِّسالي، أَم أنّنا نكتفي فقط بإعلان نوايا، عندما نقول: “المسيح قام، حقًّا قام”؟ في الرِّسالة (الأُولى أو الثانية) إلى أهل تسالونيقي، يقول مار بولس للمسيحيِّين الأُوَل، الّذي كان يتوجّه لهم بالكلام: “لا نُريد أيّها الإخوة أن تَجهلوا مَصير الرَّاقِدين، لئلّا تَحزنوا كما يَحزن سائر النّاس، الّذين لا رجاء لهم. فإنْ كُنّا نؤمِن أنَّ يسوع مات وقام، نؤمِن أيضًا أنَّ الّذين رَقدوا بيَسوع، سيُقيمُهم الله مع يسوع”. عندما نُصاب بأذيّة أو بِمَرضٍ أو بِمَوتٍ، نَحزَن ونَضطَرِب، وربّما أيضًا نصرخ على الربّ، ونَحزَن كَمَن لا رَجاءَ لَهم، وننسى إعلانُنا أنّ “المسيح قام، حقّا قام!”. إذًا، في بَعض الأحيان، هناك طلاقٌ أو تَباعُد بين ما نُعلِن وبين ما نَعيش. إنّ بولس الرَّسول نفسُه، يَقول لنا إنّ قيامة يسوع هي أساسُ قيامتنا: “إن كان المسيحُ يُبَشَّر به أنّه قام من بين الأموات، فكيفَ يقول بعضٌ منكم أنّ لا قيامة للأموات؟ فإن كان لا قيامة للأموات، فالمسيح أيضًا لم يَقُم، وإن كان المسيح لم يَقُم، فتَبشيرُنا فارغٌ، وفارِغٌ إيمانُكم”.
أيّها الأحبّاء، حين نقول اليوم في قانون الإيمان، إننا “نترجّى قيامة الموتى والحياة الجديدة في الدّهر الآتي”، بعد أن نُعلن إيماننا بالآب والابن والرُّوح القدس، وبالكنيسة وبالمعموديّة الواحدة الغافرة، فإنّ هذا من شأنه أن يقودنا إلى اعتبار وجودِنا في هذه الدُّنيا مَسيرةٌ، بعد أن يدعونا الربُّ إليها، مسيرةٌ صوب الحياة الأبديّة؛ وانطلاقًا من تفكيرنا بالحياة الأبديّة في مسيرتنا الأرضيّة، نُعطي المعنى لحياتنا اليوميّة، في بيوتنا، وفي رعايانا وأديرَتنا، ومجتَمَعنا الواسِع. لذلك، عندما نُعلِن أنّنا نترَّجى الحياة الأبديّة، فهذا يعني أنّنا نريد أن نلتَزِم شؤون هذه الدُّنيا، على صعوباتها وخيباتها، فَنلتزِم بها على نور القيامة، بِفعل قيامة الربِّ يسوع.
مِن هنا، نلتقي جميعنا اليوم، حول صرخة اللِّص اليَمين، الّذي قال ليَسوع، حين كانا كِلَيهما معلَّقَين على الصّليب: “يا يسوع، أُذكرني عندما تأتي في ملكوتِكَ”. في جماعة “أذكرني في ملكوتِكَ”، نتأمَّل في صرخة لِصّ اليَمين التائب، والّذي اعتَرف بأنَّ يسوع هو ليس كاللِّصَين المعلَّقَين، إنّما هو إنسانٌ بار. لقد تاب اللِّص اليَمين إلى ربِّه، فنال التعزيّة: “اليوم تكون معي في الفردوس”.
أيّها الأحبّاء، إذا أردنا أن نتأمَّل ولو لِبِضِع دقائق، في هذه الحقائق المهمَّة، أريد أن أبتدِئ بِنَصِّ، من الطقس المارونيّ، يَقوله الكاهن، نهار الخميس من أسبوع الحواريِّين، يقول فيه الكاهن على مدى الزَّمن، زمن القيامة: “أيّها المسيح إلهُنا، يا مَن علَّمتَنا بِقِيامتِكَ أنّ حياتنا على الأرض هي عبورٌ إلى الحياة الأبديّة مَعَك. يا مَن علَّمتَنا بقيامَتِكَ أيضًا أنَّ قيمةَ حياتنا على الأرض هي بِما ندَّخِرُ فيها مِن أعمالٍ صالحة بالإيمان والرَّجاء والمحبَّة، وأنَّ لا غايةَ لها سواكَ “. في هذا النَّصّ، الكثيرُ من المعاني الرُّوحيّة العميقة: إنَّ يَسوع بقيامته، يقول لنا إنّ مرورنا على الأرض هو عبورٌ وإنّ الموتَ ليس هو النِّهاية الـمُحتَّمة، بل هو عبورٌ إلى حياةٍ أبديّة معه. عندما نقوم بالأعمال الصّالحة، على نور القيامة، لا نقوم بها كما نقول في قانون الاعتراف، “لا طَمعًا بالنَّعيم ولا خوفًا من الجَحيم، بل حُبًّا بِكَ يا ربّ، آمين”. يقول لنا نَص الصّلاة هذه، إنّنا نقوم بالأعمال الصّالحة بروح الإيمان والرَّجاء والمحبّة.
- الإيمان هو هذه العلاقة التّي تجمع الإنسان بِرَبِّه، هذه الشراكة مع الله، هذا التَّتلمُذ ليَسوع. إذا كنتُ مؤمنًا، فأنا تِلميذٌ أي أنّي أُصغي إلى تعاليم الربّ يسوع، أُصغي إليه بشغفٍ كما كانت تُصغي إليه مريم أُخت مرتا، الّتي كانت تجلس عند قَدَميه لِتَسمَع كلامَه. هذا هو الإيمان الحقيقيّ: عندما نُقيم علاقة، شراكة مع الله، أي عندما نُصغي إليه عن حُبٍّ؛ إذ إنّنا قد نعجز عن فَهم كلام يسوع مِن الـمَرَّةٍ الأُولى، فنَحنُ بحاجةٍ إلى العُمر كلِّه، كي نَفهم المعاني العميقة الصّعبة في بعض الأحيان، في الإنجيل.
- لذلك، نحن نريد اليوم أن نُجدِّد إيماننا، إذا إنّنا من “عُشّاق الحياة الأبديّة”، وبالتّالي، فَلنبدأ أوَّلاً بالإيمان، أي بالشّراكة مع الربّ. إخوتي، نحن لسنا وَحدنا في هذه الحياة، فلو كان كذلك، فما الجدوى من الإيمان؟ نحن لسنا وحيدِين، فالمؤمن هو شريكٌ مع آخر، هو الربّ؛ صحيحٌ أنّنا لا نراه بأعيُننا المجرَّدة، إنّما حضوره قوّيّ لِدرجةٍ يستطيع أن يلمس قلبنا.
- كذلك نقوم بالأعمال الصّالحة بروح الرَّجاء، الّذي هو ثباتٌ في الإيمان. الإنسان الّذي يملِكُ رَجاء هو الإنسان الّذي يستطيع الصُّمود، إبّان الأزمات والمصاعِب، لأنّه مقتنع بأنّ مواعيد الربِّ له، ستتحقَّق في الوقت الّذي يريده الربّ، وبالطريقة الّتي يرتَضيها هو أيضًا. الإنسان الّذي يملك الرَّجاء يُدرِك كيف يمشي في هذه الحياة ولو بِضَوءٍ خفيف، فالضَّوء الخفيف يكفي الإنسان المتَّمسِك بالرَّجاء لمتابعة المسيرة، لأنّه مقتنِعٌ بأنّ الربّ سينُير أكثر فأكثر طريقه، فيستمر بالتزامه بِدَعوته، مهما كانت المسيرة صعبة. أرى الرَّجاء في قلب الأُمّ والأب، في قلب الرّاهب والرّاهبة، في قلب الكاهن والأسقف والعامل في المجتمع المدنيّ. وكلّنا نعاني ونتعب ونجابه الصِّعاب.
نُصلِّي اليوم أيضًا، كي تقوى فينا فضيلة الرَّجاء، حتّى نثبت خاصّة في بلَدِنا، على الرَّغم من المصاعِب، لأنّنا أبناء الرَّجاء.
أخيرًا، نُصلِّي أيضًا كي نقوم بالأعمال الصّالحة انطلاقًا مِن كوننا أبناء المحبّة. والمحبّة، في عَرفِ الإنجيل، هي مُزدَوِجةٌ ومتكاملة: فالمحبّة تقوم على أن نُحِبُّ الله الآب ويسوع المسيح بالرُّوح القدس من جهةٍ، وأن نُحِبَّ القريب في ذات المستوى من دون أيّ انفصال. فالّذي يُحبّ الله، لا يمكنه إلّا أن يُحِبّ القريب. هذا هو كمال الشَّريعة في الإنجيل. وَصيّةٌ إلهيّة واحدة، في وَجهَين متكامِلَين، بِحَيثُ أنّ محبّة الله تبقى ناقصةً، إذ لم نَقُل مشوَّهةً أو كاذبةً، ما لَم تَدفعني، أنا المؤمن، إلى محبّة القريب، أيَّ قريبٍ، في روحيّةِ مَثَل السَّامريّ الصَّالِح. فإذا غابَتْ المحبَّة أيّها الأحبّاء، في بُعدَيها: محبّة الله ومحبّة القريب، في إيماننا المسيحيّ؛ فماذا يحلُّ مكانها سوى الغَضَب سِوى الحسد، سوى الغطرسة، سِوى الكبرياء، سِوى الأنانيّة والفردانيّة؟! وبهذا، لا يمكننا أن نكون مِن “عُشّاق الحياة الأبديّة”.
كثيرون منّا قد يُمضون العُمرَ بأسرِه، وَهُم غير قادرون على محبّة القريب، لأنّ “الأنا” فِيهم قد انجرَحت، ولأنّ جروحاتِهم عميقة، فَهُم لا يستطيعون أن يبنوا علاقاتٍ سلاميّةٍ مع الآخَر.
نُصلِّي اليوم، كي نستعيد تلك المحبّة، ونحن نسير صوب الحياة الأبديّة، قائلين للرّب يسوع: “أذكرني يا ربّ، في ملكوتِكَ”. ونسأله أن يساعدنا كي نتجاوز أنانيّتنا، جروحاتنا، حسَدَنا، غيرَتنا، غطرستنا، كبرياءنا، كي نبني الجسور فيما بيننا، لأنّنا أبناء الكنيسة، أبناء الشَّبكة الواحدة الّتي لا تتمزَّق. فنحن نريد أن نكون كنيسةً أفرادُها متحابون فيما بينهم.
هكذا، أيّها الأحبّاء، أوَّد أن أحتفل وإيّاكم في هذه الذِّكرى المبارَكة، لجماعة “أذكرني في ملكوتِك”، بالإيمان والرَّجاء والمحبّة.
مبروكٌ علينا هذه الذِّكرى، ولنتابع المسيرة، تحت رِضى الربِّ يسوع، وبِفَيض أنوارِه. آمين.
ملاحظة: دُوِّنَت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.