زيارةُ المقابر،
الأب ملحم (الحوراني)، كاهن رعيّة المحيدثة، المتن،
سيّارةٌ مركونةٌ إلى جانب المقابر في مرجعيون، وأنا عائدٌ من خِدمتي. هي ابنةُ عمّي لم أَلتقِها منذ مدة. أردت التوقّف لإلقاء التحية، ولكنّي لمحتُ ورودًا وشمعةً في يدها. لم أُرِدْ أن أقتحم هذه اللحظة الخاصّة، فقد تبيَّن لي أنها تزور قبر والدها لمناسبة عيد الأب. تأمّلتُ في ما رأيتُه، فتذكّرتُ ما يلي: عادةُ زيارة المقابر عادةٌ قديمة قِدَمَ التاريخ منذ ما قبل المسيحيّة… فهناك يوَدَّعُ الأحبّاءُ والأقارب والأصدقاء للمرّة الأخيرة على الأرض. ولكنّها أيضًا عادةٌ إنجيليّة، إذ قامت النسوة حاملات الطيب بزيارة قبر المسيح في اليوم الثالث من دفنه…
عندما يزور المسيحيّون مقابر أحبّائهم، لا يقصدونها ليتفجّعوا، ولا ليذرفوا الدموع سخيّةً أمام قبورٍ تحوي عظامًا وترابًا، بل ليرفعوا الابتهالات «من أجل الذِكر المغبوط والراحة الأبدية» للراقدين على رجاء القيامة والحياة الأبدية. فمِنَ القبور سيقوم الأمواتُ في المسيح في اليوم الأخير (1 تسا 4: 16) كما خرج المسيح قائمًا من قبره في اليوم الثالث «باكورةً للراقدين» (1كور 15: 20)، فتَحَوّل القبرُ مصدر تعزية وفرح، وما عاد يُذكّرنا بالهزيمة والضعف البشريّ والموت والحزن.
ولزيارة المقابر منفعةٌ بالغةٌ إذ يتخشّع المؤمنون فيَذكُرون أنّ الموت لا مفرّ منه لجميع الناس (رو5: 12)، إذ في القبور ننظُرُ أنّ الإنسانَ عظامٌ مُجرّدة ومأكلٌ للدود ورائحةٌ كريهة، ويَذكُرون أيضًا أنّ الموتى لا يسبّحون الربّ، بل الأحياء الذين ما زالت الفرصةُ متاحةً لهم لتسبيح الربّ طالما هُم بعدُ في الجسد: “فإنه ليس في الموت مَن يَذكُرُكَ، وهل في الجحيم مَن يَحمَدُك؟” (مز 6: 5). ينتُج من ذلك أن يتوبوا الآن وهنا، قبل فوات الأوان. وقد علّمَنا الآباء النسّاك صراحةً أنّ ذِكرَ الموتِ يُدْني الإنسان من التوبة.
وقد درجت العادة في كنيستنا، منذ سنة 1523 -أيام سَلَفي الخوري بطرس ابن الحاج يوحنّا بن ابراهيم أبو راجح المعلوف (بحسب مخطوطاتنا القديمة)-، أن يخرُج المؤمنون من قدّاس سبت الأموات ويتوجّهوا معًا، مباشرةً بعد القداس، إلى المقابر لإقامة صلاة النياحة (التريصاجيون)، إذ وردَ في إحدى مخطوطاتنا القديمة: «وبعد نَجاز الصلاة، نحمل الشمع والبخور، ونذهب بأجمعنا إلى الكِمِتير (المقابر باليونانيّة)، مقبرة الآباء والسالفين مِن الإخوة». وهذا ما نزال نفعلُه ضمن طقوسِ رعيّتنا مرّتين في السنة.
ختامًا، تذكَّرتُ أنّ مريم المجدليّة، التي ذهبَت تبكي فجرَ الأحد عند قبر المسيح (يو 20: 11)، بادَرَها المسيح عندما التفتَت إلى خلفها بقوله: «لمَ تبكين؟ …اذهبي إلى إخوتي…»، فأطاعته وذهبَت إلى إخوته التلاميذ المجتمعين في العُلّيّة، وهناك ظهر المسيح القائم «ففرحَ التلاميذ إذ رأوا الرب». ونحن اليوم، مثل مريم، نُطيع الربّ مِن جديد، فنذهب إلى إخوته المجتمعين لإقامة سرّ الشكر كلّ يوم أحدٍ، حاملين معنا بُكاءنا من المتاعب والأحزان، فيتبيّن لنا أننا نقف مرّةً أُخرى أمام قبر المسيح الذي ترمز إليه المائدة المقدّسة، وهناك يُبادرُ المسيحُ القائم كلّ نفسٍ باكيَةٍ بقوله: «لِمَ تبكين؟…». إذ ذاك يصير “القبرُ” مصدرَ نهوضنا وحياتنا وفرحِنا الأبديّ، ولا نعود نرجو إلا الوقوف في الأحد التالي أمام ذلك القبر نفسه الذي بات وسطَ الكونِ كلّه محجّةَ نفوسنا وقِبلتَها الأبدية!
