صلوات الموتى في القداس الإلهي،
عظة الأب ميلاد أنطون في كنيسة سيّدة الورديّة – زوق مصبح
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
الله معكم إخوتي،
إنّ الإنجيل الّذي تُلِيَ على مسامعنا في هذه الذبيحة الإلهيّة، يساعدُنا على التأمّل في الموت والقيامة؛ أمّا اليوم، فلن أتطرّق إلى هذا الإنجيل بل إلى أهميّة الصّلاة للموتى المؤمِنين في كنيستنا المارونيّة، مِن خلال التأمّل في الصّلوات الّتي نتلوها في كلّ ذبيحة إلهيّة. لم تُخِطئ المقولة:”شريعة الصّلاة هي شريعة الإيمان”، لأنّه حين يصلّي المؤمِن، وبخاصّة صلواتٍ ليتورجيّة مع الجماعة المصلّية، فإنّه يُعلِن عن إيمانه بالله وعن رغبته في تصحيح مسيرته الحياتيّة لتكون مُطابقة لإيمانه. إنّ الصّلوات اللّيتورجيّة الّتي نردِّدها في كلّ ذبيحةٍ إلهيّةٍ، مُتوجِّهين بها إلى الله، طالبِين منه الرّحمة لأمواتنا، تشكِّل مدرسةً إيمانيّةً تعكس حقائق لاهوتيّة وروحيّة مهمَّة في إيماننا المسيحيّ.
للصّلاة أبعادٌ ثلاثة مهمّة: أوّلاً، تستمِّد الصّلوات اللّيتورجيّة قوَّتها مِنَ الآباء القدِّيسين الّذين كَتَبوها، فَحِينَ أُصلّي نافور الرّسل الاثني عشر، أو نافور مار يعقوب، أو نافور مار بطرس، فأنا أعلِن أنّ إيماني هو إيمان هؤلاء الملافنة في الكنيسة، هم الّذين عَبَّروا عن هذا الإيمان مِن خلال هذه الصّلوات. ثانيًا، تستمِّد هذه الصّلوات قوّتها مِن الشَّعب الّذي ردّدها على مرّ الأجيال في الشرق والغرب، منذ ما يقارب ألفَي سنة، كما تستمِدُّ قوتّها مِن انغماسِها في كلمة الله، إذ تُتَرجِم ما وَرَد في الكتاب المقدَّس. ثالثًا وأخيرًا، تستمِدّ هذه الصّلوات قوَّتها مِن استخدام المؤمِنين لها في كلّ ذبيحة إلهيّة، أي أنّها تُتلى بحضور الجماعة لا بشكلٍ فرديّ، وبالتّالي فهي تعكس إيمان الجماعة. في القدّاس الإلهيّ، تجتمع كنيسة السماء والــــ”المطهر” وكنيسة الأرض، فهذه الكنائس غير منفصلة، بل متَّصلة بعضها ببعض إذ إنّ رأسها واحدٌ وهو يسوع المسيح.
أمّا الآن، فسأتطرّق إلى الصّلوات اللّيتورجيّة في الذبيحة الإلهيّة، لما تَحمِله مِن أهميّة في ذِكرِها للموتى. في هذا الإطار، سأستنِد إلى القدّاس المارونيّ في زمن القيامة بشكلٍ خاصّ، وتحديدًا قدّاس يوم الاثنين الّذي نحتفل به اليوم، كما سأختار مِنْ بَين النوافير الّتي تُتلى في الذبيحة الإلهيّة، نافور الرّسل الاثني عشر.
في بداية القدَّاس، بعد ترتيلة “المجد لله”، يُبخِّر الكاهنُ وتُتلى في تلك الأثناء صلاةٌ طويلةٌ، يُطلق عليها اسم “حِسَّاية”، وهي كلمةٌ سِريانيّةُ الأَصِل، أمّا كَلِمةُ “نافور” فهي كلمةٌ يونانيّة الأصل. إنّ “الحِسّاية” تختلف في كلّ ذبيحة إلهيّة لتكون منسجمة مع الأزمنة الطقسيّة في الكنيسة، ولكنّها لا تغفل عن ذِكر الموتى في كلّ مرّة. فمثلاً، في صلاة “الحِسَّاية” الّتي تُتلى في ذبيحة يوم الاثنين مِن زمن القيامة، يُقال:”… أرِح المنتقلين الرّاقدين على رجائك في نعيمِك الأبديّ. أُمحُ خطاياهم وخطايانا…”، وما هذا إلّا دليل على أنّ الكنيسة لا تنسى مَن انتقلوا مِن بينها بل تذكُرُهم في صلواتها اللّيتورجيّة على الدّوام، طالبةً من الربّ أن يغفر لهم خطاياهم، ويُفيض عليهم مراحمه، فتَنال نفوسهم الخلاص.
لا تقتصر الصّلاة مِن أجل الموتى المؤمِنين في الذبيحة الإلهيّة على الحسّاية فقط بل هي تشمل صلوات عديدة في القدّاس: ففي اللّحن الّثاني، أي في التّرنيمة الّتي تَلِي الحسّاية، يتمّ ذِكر الموتى، على اختلاف الأزمنة الطقسيّة.
ويَلي اللّحنَ الثّاني صلاةٌ صغيرةٌ، تُسمّى في السريانيّة “الِمرماية” ونقول فيها: “أرِح أمواتَنا الراقدين على رجاء القيامة”.
ثمّ في التّقديسات الثّلاثية، نقول “… قديشات لومويوتو”، وتعني “قدُّوسٌ أنت يا الله، الّذي لا يموت”. إنّ الله يسكن في قلبي وبما أنّه لا يموت، فهذا يعني أنّي أنا أيضًا لا أموت.
وكذلك في الصّلاة الثّانية ما قبل النّافور، أي بعد نَقلِ المؤمِنين للقرابين، يَقرأ الكاهن صلاةً يقول فيها: “أذكر اللَّهُمَّ، آباءنا وإخوتنا، الأحياء والأموات، أبناء البيعة المقدَّسة….”. إذًا، في كلّ ذبيحة إلهيّة يَذكر الكاهن كلّ أبناء البيعة المقدَّسة، أحياءً وأمواتًا، فأمواتُنا الّذين في الملكوت، يحضرون لمشاركتنا في ذبيحتنا الإلهيّة لأنّ الربّ يسوع الجالس في المجد الأبديّ عن يمين الله يحضر بجسده ودمه، ليكون هو محور ذبيحة كنيسته الأرضيّة. إذًا، إنَّ الذبيحة الإلهيّة يتمّ الاحتفال بها في الوقت نفسه على المذابح الأرضيّة والسماويّة معًا. إنَّ القدّاس الإلهيّ هو عمليّة استباقيّة للملكوت السماويّ، لذلك، يشارك المؤمِنون الأحياء في هذه الأرض، أجواق الملائكة السماويّين أناشيدهم فيسبّحون الله ويمجِّدونه معًا قائلين: “المجد لله في العلى”، و”قدّوسٌ قدّوسٌ قدّوس”.
في صلاة النّافور، يتلو الكاهن في ختام كلام التقدِّيس أي ما يُعرَف بالكلام الجوهري، صلاةً يقول فيها نيابةً عن الشَّعب كلِّه: “نذكر يا ربّ موتَك ونعترف بقيامتِك وننتظر مجيئك…”. إنّ هذه الصّلاة تعبِّر عن جوهر العقيدة المسيحيّة، وتعكس ثقافة المؤمِنين في الشَّرق، الّتي لا تفصِل بين موت الربّ وقيامته. حين يتكلّم المؤمِنون في الشّرق عن موت المسيح، يتكلّمون عن القيامة أيضًا والعكس صحيح، لأن المسيح الّذي مات على الصّليب قد قام مِن بين الأموات ويجلس عن يمين الله الآب في السّماوات. إنّ الموتَ والقيامةَ حقيقتان إيمانيّتان غير منفصِلَتَين، وهذا ما عبِّر عنه بولس الرّسول في رسائله، حين يقول: “وإن كان المسيحُ لم يقم، فتبشيرُنا باطِلٌ وإيمانكم أيضًا باطِلٌ”(1 كور 15: 14)
أمّا في نوايا المؤمِنين، فيقرأ الشماس النّوايا، وفي الأخيرة منها، يصلّي شماسٌ أو عِلمانيّ، باسم الشَّعب، مِن أجل آباء الكنيسة ومعلِّميها، الّذين انتقلوا مِن بَينِنا إلى جِوار الله. ثمّ يقرأ الكاهن نيّةً أخيرة تُعبِّر عن تفكير الكنيسة المتواصِل في الموتى المؤمِنين إذ يقول: “أُذكر يا ربّ الموتى المؤمِنين المنتقِلين مِنّا إليك، الراقدين على رجائِكَ، المنتظِرين ذلك الصّوت الـمُحيي، الّذي سيدعوهم إلى الحياة؛ إقبَل القرابين الّتي نُقدِّمها لكَ عنهم، وأَرِحْهُم في ملكوتك؛ لأنَّ واحِدًا ظهر على الأرض بلا خطيئة، وهو ربُّنا يسوع، الّذي بواسِطَتِه نرجو أن ننال الـمَراحِم وغُفران خطايانا وخطاياهم”. إنَّ الكنيسة الأرضيّة تذكر جميع الموتى وبخاصّة المؤمِنين مِن دون تسمِيَتهم، إيمانًا مِنها بتلك الشراكة الّـتي تجمعها بكنيسة السّماء، فالّذين انتقلوا مِن بيننا هم إخوةٌ لنا في المسيح يسوع، فجميعنا أعضاءٌ في كنيسته، الّتي افتداها بِدمه على الصّليب. وبالتّالي نحن نشترك في الإيمان الواحد والرّجاء الواحد. كما تُصلّي الكنيسة أيضًا من أجل جميع الموتى غير المؤمِنين، سائلةً الربّ لأجلهم أن يُفيض عليهم مراحمه، لأنّهم وإن لم يؤمِنوا بالمسيح في هذه الأرض، فإنّ المسيح يسوع قد مات من أجلهم وافتداهم. إنّ الكنيسة تُصلّي للموتى المؤمِنين كي يتمكّنوا من تحقيق دعوتهم بلقاء الربّ إن لم يكن في هذه الفانية، في الحياة الأبديّة. إنّ صلوات الكنيسة من أجل الموتى المؤمِنين تنطلق من مفهوم الرَّجاء المسيحيّ. إنَّ القدَّاس يتوجّه بشكلٍ عامٍ في صلواته إلى الموتى المؤمِنين عمومًا، لذا في بعض الأحيان يتمّ تقديم الذبائح الإلهيّة على نيّة أحد الرّاقدين على رجاء القيامة. في الذبيحة الإلهيّة، يُقدِّم المؤمنون القرابين، الخبز والخمر، على نيّة أمواتهم. هذا هو القدّاس المارونيّ، الّذي تصلّيه الكنيسة المارونيّة منذ نشأتها: إنّه يعبِّر عن إيمانها، وعن ليتورجيّتها.
قبل صلوات الكَسِر، يُصلّي الكاهن باسم الشَّعب قائلاً: “سامِحنا، اللّهم واغفر لنا ولهم، فيتمجدّ بنا وبكلِّ شيء، اسمك القدُّوس”. إنَّ صيغة الغائب في هذه الصّلاة تدلّ على الموتى المؤمِنين.
وقبل تلاوة الأبانا، يصلّي الكاهن قائلاً: “ليكن تناوُلُنا لمغفرة الخطايا والحياة الأبديّة”. هذا هو الهدف مِن الذبيحة الإلهيّة: طلب المغفرة مِن الربّ قَبْل الاقتراب مِن تناوُل جسدِ المسيح، الّذي يمنحنا الحياة الأبديّة.
إنَّ غالبيّة التّراتيل بعد المناولة المقدَّسة تذكُر الموتى المؤمِنين وتشدِّد على طلب المؤمِنين مِن الربّ الرَّحمة لأمواتهم، والرّاحة الأبديّة.
إذًا، في القدّاس المارونيّ، وفي كلّ ذبيحة إلهيّة، إحدى عشرة صلاة يتوجّه بها المؤمِنون إلى الربّ مِن أجل موتاهم. هذا هو تُراثُنا وإيمانُنا، وقدّاسنا المارونيّ، والإيمان والرّجاء يملآن قلوبَنا، طالبين من الربّ أن يفيض مراحِمه على جميع الموتى المؤمِنين. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.