عيد ارتفاع الصليب المقدس،

عظة الأب عبود عبود الكرمليّ – دار المسيح الملك – زوق مصبح.

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

في هذا المساء المبارك، نجتمع في مناسبتين سارّتين، الأولى هي الذبيحة الإلهيّة الّتي نحتفل بها مع جماعة “اُذكرني في ملكوتك”، كالعادة في هذه الكنيسة، كنيسة يسوع الملك، في الثلاثاء الثاني من كلّ شهر في تمام السّاعة السادسة مساءً، وفيها نصّلي ونذكر بشكلٍ خاصّ أمواتنا جميعًا. إنّني أتمّنى أن يكون يسوع الملك، مالكًا على قلوبكم جميعًا كما هو مالك على العالم بأسره. وأمّا المناسبة الثانية الّتي تجمعنا اليوم فهي أنّ اليوم يُصادف ليلة عيد ارتفاع الصليب المقدّس. إنّ الكنيسة قد احتفلت الأسبوع الماضي بعيد مولد العذراء مريم، واليوم تحتفل بعيد الصليب، وها هي الأعياد تتوالى في هذا الشهر، فأتمّنى لكم جميعًا أن تبقى الأفراح عامرة في بيوتكم.

في هذه المناسبة، ليلة ارتفاع صليب يسوع، نطرح على ذواتنا سؤالاً كبيرًا جدًّا وهو: لماذا صُلِبَ يسوع على الصليب؟ ولماذا مات يسوع المسيح؟ إنّ مثل تلك الأسئلة الأساسيّة لا نستطيع الإجابة عنها في وقت قصير لا يتجاوز الدقائق الخمس، فالإجابة عليها ليس بالأمر السهل أبدًا، غير أنّه لا يمكننا أن نتناسى أنّ هذه الأسئلة هي في صلب إيماننا المسيحيّ، وفي صلب حياتنا كمؤمنين بالمسيح.
في هذا الإنجيل الّذي قرأناه اليوم، نرى أنّ المسيح هو ذو قيامة جديدة: فلو لم يقم المسيح، لما كانت هناك حياة جديدة، ولما كان لنا الفرح، ولما دامت المسيحية، إذ إنّ القيامة هي في صلب إيمان الكنيسة. إنّ يسوع رُفِعَ على الصليب، وبه خُلِّصنا من الموت والجحيم. لقد كان الصليب في الماضي، حماقة وإذلالاً للإنسان، أمّا بعد موت المسيح فقد أصبح بالنسبة لنا نحن المسيحيّين مصدر فرح بقيامة الرّبّ، ومصدر انتصار الموت على الحياة، إنّه يمثِّل اللّقاء بين الحبيبين: الله والإنسان.

إنّ عيش الصّليب وتطبيقنا لمفهومه المسيحيّ في حياتنا اليوميّة، يكون من خلال تصرّفاتنا وأفكارنا اليوميّة الّتي يجب أن تتعالى وتنفصل عن الأرضيّات كلّما ازددنا اتحادًا بالرّبّ يسوع. إنّ تصرّفاتنا الأرضيّة، وأفكارنا الأرضيّة، ونظراتنا الأرضيّة إلى الأمور قد تُوصلنا إلى الجحيم في أوقات كثيرة، لكن نشكر الله على أنّ رحمته لنا هي أكبر من خطايانا نحن البشر، وهذا ما يشكِّل مصدر تعزيةٍ لنا. إنّ مثابرتنا على قراءة الكتاب المقدّس، وعيشه في حياتنا اليوميّة هو الّذي سيمكّننا من التعالي عن الأرضيّات، لأنّ يسوع المسيح سينمو في داخلنا، ولا يلبث أن ينعكس نوره فينا إلى الآخرين، فعندها يدركون أن المسيح يقيم فينا. هكذا عاش قديسونا وقديساتنا الّذين نحتفل بأعيادهم في الكنيسة، فهم قد عكسوا في حياتهم وجهًا من أوجه المسيح، فرأى فيهم الآخرون إمّا صورةً ليسوع المعذّب، وإمّا صورةً ليسوع المنتصر على الموت، وإمّا صورة للمسيح سيّد السّلام. وقد أتجرأ وأقول، إنّ بعض قدّيسينا قد عكسوا صورة ليسوع المسيح الّذي عاش في بعض مراحل حياته اضطرابات وفترات من عدم السّلام، إذ إنّ حياة كلّ إنسان معرّضة لتقلبات عدّة جرّاء الظروف الّتي يعيشها. إن الإنسان قد يعيش لحظات من الفرح أو الحزن من دون أن يعرف أسباب ذلك. إنّ كلّ حزنٍ نعيشه، سببه يكمن فينا لا في الآخرين، لأنّه إن كنّا أقوياء في المسيح، فإنّ الآخرين لن يتمكّنوا من انتزاع هذا السّلام منّا مهما فعلوا. إن كان المسيح معي، فأنا بالتأكيد سأكون في حالة من الفرح والسّلام الداخليّ دائمًا، أمّا إن لم يكن كذلك، فأنا سأنظر إلى كلّ الأمور الدنيويّة بطريقة ماديّة، شهوانيّة، سلطويّة، بشريّة، مع لوم الآخرين على سبب حزني. إنّ المسيح يسوع، ابن الله، جاء أرضنا ليؤله الإنسان. إنّ المسيح صُلب في هذا العالم، وكذلك الإنسان سوف يُصلب في هذه الدّنيا، وإن بطرقٍ مختلفة عمّا كان الأمر مع المسيح، إذ “ما من تلميذٍ أفضل من معلّمه”: فإنّ كنّا نحن تلاميذ المسيح، وأولاد أمّنا مريم العذراء، فنحن سوف نتقبّل صليبنا بفرحٍ لأنّنا مُدركون أنّ بعد الصّليب، يكمن الفرح الدائم والحياة الأبديّة.

إنّنا جميعنا، قد فقدنا في هذه الفانية، أشخاصًا أعزّاء علينا، أكانوا أجدادًا، أم أباء وأمّهات أم إخوة وأخوات، ولكن ما يُعزّينا هو رجاؤنا الكبير بأنّنا سنلتقي يومًا ما بهم في الحياة الأبديّة “حيث لا وجع، ولا ألم، ولا تنهّد”، كما نقول في رتبة الدّفن في الكنائس الّتي تتّبع الطقس البيزنطيّ. إنّ المسيح يسوع، جاء إلى أرضنا، وانحنى على الانسان الخاطئ والمتألم، وأخذ كلّ أوجاعه وعاهاته كما فعل الآب مع الابن الضّال، ووهبنا بدلاً عنها دفقًا من حبّه وحنانه ورحمته للبشر.

في هذا المساء المبارك، وفي هذا العيد، عيد الصليب، فلننظر إخوتي إلى الصّليب حيث عُلِّق يسوع، هو الّذي نظر إلى خطايانا وأوجاعنا، والّذي نظر إلى أوهامنا وتفكيرنا، فأخذها كلّها على عاتقه، معطيًا إيّانا السّلام بدلاً منها. ولكن السؤال الّذي يُطرح علينا هو: أين نحن من الصّليب؟ وأين نحن من يسوع المسيح؟ فإن كنّا نريد الحصول والمحافظة على السّلام والفرح والأخوّة في حياتنا، فعلينا أن نكون دائمًا بقربه. إخوتي، أتمّنى لكم في هذا المساء المبارك، أن تجاهدوا في حياتكم اليوميّة فتكون تصرّفاتكم وأفكاركم كلّها علامةً على أنّكم أبناء الرّجاء والقيامة، أبناء المحبّة، إخوّة يسوع المسيح، وأبناء لأمّنا العذراء مريم. آمين.

 

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp