“عيد الصّعود الإلهيّ”
عظة الأب مخايل عوض،
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة،
كنيسة مار الياس الحيّ – عين الصَّفصاف.
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
اليوم، هو عيد صعود الربِّ يسوع المسيح بالنَّفس والجسد إلى السّماء، عساه يكون مليئًا بالخيرات والبركات، على الجميع، وعلى الكنيسة. ونصلِّي اليوم من أجل ثبات المسيحيِّين، في حالة النِّعمة، ومن أجل ارتداد الخطأة بالتَّوبة، وارتداد غير المؤمِنِين إلى نور الإنجيل، ومن أجل راحة أنفس الموتى المؤمنين.
إنَّ عيد الصُّعود هو مِن الأعياد الكُبرى والأساسيّة والختاميّة في حياتنا المسيحيّة. إنَّ خاتمة الأعياد المسيحيّة هي عيد العنصرة، ولكن لولا عيد صعود الربِّ يسوع إلى السّماء، لَما كانت هناك حاجة إلى إرسال الرُّوح القدس إلينا، ولَمَا تمَّت العنصرة. إذًا، إنَّ حَدَث الصُّعود هو في غاية الأهميّة، لأنّه من دون صُعود المسيح إلى السّماء، لا يكتمل مشروع الله الخلاصيّ؛ وكذلك هو عيدُ القيامة، فمِن دون قيامة الربّ لَما كان مشروع الله الخلاصيّ قد اكتمل. لذلك هذان العِيدان هُما مِن الأعياد الكُبرى والجوهريّة في حياتنا المسيحيّة.
إنَّ جسدنا التَّرابيّ، المؤلَّف مِن اللَّحم والدَّم، لا يصعد إلى السّماء بعد انتقالِنا من هذا العالم بالموت، بل إنّ ما يصعَد إلى السّماء هو جسدُنا الممَّجد، الجسد القِياميّ، إذ بموتنا البشريّ، تَسترجِع الأرض ما لها، ويسترجِعُ الله ما له. صحيحٌ أنّ جسدنا التُّرابيّ لن يصعد إلى السّماء، ولكننّا سنتمكَّن من معرفة بعضنا البعض في السّماء، من خلال جَسَدنا النُّورانيّ الممجَّد. في العهد القديم، أي قبل قيامة المسيح وصعوده، كان مِن المستحيل أن يصعد الإنسان بجسده الأرضيّ إلى السّماء، إلّا إذ كان الإنسان نبيًّا عظيمًا راضيًا الله في حياته الأرضيّة، على مِثال مار الياس الحيّ الّذي صَعِدَ بجسده إلى السّماء.
يستند هذا التّعليم اللّاهوتيّ على كلام الرَّسول بولس. إنَّ جَسَدنا النُّورانيّ الممجَّد يكون خفيفًا، لطيفًا، يخترق كلّ العوائق، وهذا يعني أنّ المادّة فقَدت كلَّ قوّتها البشريّة، فالجسد التّرابي يتلاشى، ولكنّ الجسد النُّورانيّ يُشِّع بالضِّياء. إنَّ جسدنا الترابيّ يتبدّل إلى جسد نورانيّ بعد الموت، ولكنَّ الإنسان يبقى هو هو، ونستطيع معرفة أحبّائنا المنتقلِين عند رؤيتنا لهم. هذا ما تُعلِّمنا إيّاه أمّنا الكنيسة في هذا الإطار.
ما أجمل هذه الصلّاة الّتي نردِّدها في رتبة القدّاس، إذ نقول: “لـمّا أتْمَمْتَ التَّدبير الّذي مِن أجلِنا ووَحَّدتَ ما على الأرض بالسّماويات، صَعِدت بمجدٍ أيّها المسيح الإله، دون أن تبرح مكانًا، بل لابسًا غير مفارِقٍ”، أي أنّ المسيح هو في السّماء وعلى الأرض في آنٍ، وهو على الرُّغم مِن لِبسِه الجسد البشريّ لم يخسر مجده ولا ألوهيّته، اللّذين أخَذَهما مِن أبيه السّماويّ. وهذا سِرٌّ يَعجزُ الإنسان عن إدراكُه بعقله البشريّ من دون الاستعانة بالإيمان.
إذًا، إخوتي الأحبّاء، عندما نتأمَّل في هذه الحقيقة، حقيقة كلِّ إنسان في هذه الأرض: نُدرِك أنَّ موتنا لا يشكِّل نهاية لنا، كما حال الحيوانات عند موتها، فالحيوانات لا تملك إلّا نفسًا تُحرِّك جسدها في هذه الأرض، وتعود إلى العَدم بموت الحيوان، ولذا هي لا تنال الخلاص. أمّا بالنِّسبة للإنسان فليس الأمرُ كَذَلِك، إذ جاء مِن العَدَم، ولكنّه يصعَد بعد موته البشريّ، بيسوع المسيح إلى السّماء، إلى الآب الأزليّ، إلى الـمَصدَر الأوّل والأخير، وهذا ما يُميِّزُ الإنسان عن سائر المخلوقات. إذًا، إنَّ قيمة الإنسان الروحيّة عظيمةٌ جدًّا عند الله. إنَّ الربَّ يسوع يقول لنا: “أُطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرَّه، وكلّ تلك الأشياء تُزاد لكم” (متى 6: 23)، أي أنَّه علينا أن نتوجَّه إلى الله بالصّلاة طالِبِين الرُّوحيّات لا الأمور الاجتماعيّة الزائلة، ومتطلِّبات الحياة.
للأسف، في حياتنا اليوميّة، أصبحنا نهتمّ بالأمور الاجتماعيّة ونُهمِل الرُّوحيّات، بدليل أنّنا نُفرِّط بمجيئنا إلى الكنيسة يوم الأحد للمشاركة في الذبيحة الإلهيّة. في يوم الدَّينونة، سيسألنا الله عن سبب عدم وصولِنا إلى القداسة، ما ستكون مُبرِّراتِنا الّتي سنُقدِّمها للربّ؟ إنّ الله قد أعطانا النِّعمة كي نكون قدِّيسين وكاملِين على مِثاله، فإنْ لم نتمكَّن مِن الوصول إلى القداسة في حياتنا الأرضيّة، فهذا دليلٌ على انشغالِنا بالزائلات أكثر مِن السّماويّات. إنّ كلَّ مُبرِّراتنا لله لن تكون نافعة، فالربُّ يسوع قد عانى في حياته الأرضيّة مِن الآلام والعذابات، وعلى الرُّغم من ذلك، تمكَّن مِن الوصول مجدَّدًا إلى السّماء بعد موته.
إنَّ جميع البشر سيُطرَح عليهم هذا السُّؤال: مُكرَّسًا كان أم عِلمانيّا، شيخًا أم طِفلاً، رَجُلاً أم امرأة، عندما يَقفون أمام عرش الدَّيان في اليوم الأخير. إنَّ الطِّفل الرَّضيع يَفهم بالرُّوحانيّات، لأنّ الرُّوح موجودة فيه، ولكنّه كطفلٍ لا يستطيع أنْ يقوم بِرَدَّةِ فعلٍ على ما يسمعه، ولكن كلَّ ما يسمعه يَترَّسخ فيه، لذلك لا تتهاوَنوا بالتكلُّم عن الرُّوحانيّات أمام أبنائكم، فإنّه حين يكبر الطِّفل سيقوم بِرَدّاتِ فِعلٍ على ما ترسَّخ فيه، استنادًا إلى ما سَمِعه. فلا تتعجبوا حينئذٍ من تصرُّفاتهم ولا تستغربوها. قد يقول لنا البعض إنّ يوم الأحد، هو يوم الرَّاحة الوحيد في الأسبوع، لذا يسعون إلى القيام بمشاريعهم الخاصّة عِوَض الحضور إلى الكنيسة.
إخوتي، إنّ الله هو الوحيد الّذي يستطيع أن يُريحنا مِن أوساخ الخطيئة، لذا فلنتقدَّم مِن سرّ الاعتراف لنتخلَّص مِن كلّ ما يُثَقِّل علينا، ولنتقرَّب مِن سرّ القربان المقدّس ونتناول جسد الربِّ ودَمَه. إنَّ الإنسان يُدرِك أنّ سبب عدم وُصوله إلى القداسة هو قساوة قلبه، والتهاؤه بالأرضيّات وابتعاده عن الربّ، وهنا نتذكَّر قول الربّ في العهد القديم لشعبه: “إنّ هذا الشَّعب يُكرِمني بِشَفَتَيه، أمّا قلبُه فبَعيدٌ عَنِّي. إنَّ الربَّ يسوع قد أتمَّ تدبير الله الآب، كما قُلنا في الصّلاة، وهنا السُّؤال يُطرَح: ما الّذي أفعلُه أنا في حياتي الأرضيّة، بالنِّعم الّتي يمنحني .إيّاها الله، للوصول إلى القداسة؟
ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.