فإنّ رحمة ربّنا لا تعرف الحساب ولا تنتظر المقابل،

عظة الأبّ فرنسيس جرماني – رعية مار مارون – الأنطونيّة.

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

نعيش اليوم لقاءً مُميّزًا كما في السبت الثاني من كلّ شهر مع جماعة “اذكرني في ملكوتك”، ليتنعّم موتانا الذين رقدوا على رجاء القيامة مع الربّ يسوع القائم من الموت في مملكة الحُبّ. فإنّها جماعة روحيّة تتمتّع بالتّعزية وبرجاء القيامة، والانتصار على الموت والخطيئة، لننال رحمة الله الواسعة غير المتناهية، خاصة أنّ رحمة الله تصبّ في كلّ نفس بشريّة (أحياء أو أمواتًا)، فتغمر كلّ الناس، وتُشبه المطر، الذي عندما يهطل، يستفيد منه الإنسان والنبات وكلّ الخليقة على وجه الأرض. فرحمة الله مثل الشتاء، تهطل علينا فتغسلنا وتُطَهِرنا، لنشعر بأنّنا مغمورون بحنان الله، خاصة أنّ رحمة الله غير المتناهية بدأت من تأسيس الكون والإنسان. فنرى أنّ الرّبّ يسوع غمر كلّ الناس برحمته، ابتداءً من ابراهيم أب المؤمنين. ونحن أيضًا نعيش التحضير لهذه النبوءة التي بدأت من ابراهيم وصولًا إلى موسى حامل شرائع الله التي على الإنسان أن يستفيد منها، وتكون شرائع توجيهيّة لحياته، ليرجع إلى إيمانه المستقيم، وبالرغم من كلّ الصعوبات والتجارب، تبقى رحمة الرّبّ هي المسيطرة على كل ّالتجارب القاسية المهيمنة على حياتنا…ولكنّنا استطعنا أن نلمس رحمة الله من خلال تجسّد ابنه الوحيد، بحيث أرسل الله الملاك جبرائيل ليحمل بشارة السّماء إلى العذراء مريم، ومن خلال هذه البشارة تكوّنت الرّحمة الإلهيّة. فإنّ رحمة ربّنا لا تعرف الحساب ولا تنتظر المقابل، وأحيانًا نُفكّر أنّ الله هو إله القداسة، هو إله الصلاح، إله البرارة، ولكنّنا ننسى أنّه إله رحيم.

ماريا فوستينا، هي رسولة الرّحمة الإلهيّة. فعندما ظهر لها يسوع المسيح، أوصاها أن تُبشّر كلّ الناس أنّ قلبه الواسع يغمر كلّ العالم، وأنّه ليس فقط إله القدّاسة، وإنّما إله الرحمة والمحبّة أيضًا. ومن الضروري أن نتأمل برحمة الله، فنحن على رجاءٍ كبيرٍ، وإيمانٍ واثقٍ، أن كلّ موتانا مغمورون برحمة ربّنا في ملكوت الحبّ، فنحن نقول “اذكرني في ملكوتك”، ولكنّنا أيضًا نقول “اذكرني في رحمتك”، لأنّ ملكوت الله هو ملكوت الحبّ والرحمة. فعندما نكون رحومين على بعضنا البعض، ونلمس هذه الرحمة عند الآخرين، نعيش السّلام والرّاحة والهدوء. وما أجمل هذه الرّاحة، عندما تكون الرّحمة من يسوع المسيح! تأكّدوا إخوتي أنّ إخوتنا الذين رقدوا على رجاء القيامة، تغمرهم رحمة الله. فإنّنا مدعوون في ضوء الإنجيل، للإعلان والكشف عن سرّ الله. سِرّ البرارة (كما يقول الكتاب المقدّس)، فكلّ إنسان بار، هو إنسان قريب من الله، ويوسف النّجار هو شخص قريب من الله، لأنّه استطاع أن يُبدّل شريعة القساوة والحكم إلى شريعة الرّحمة وتقبّل الآخر، فتخيّلوا لو لم يكن شخصًا بارًا ماذا كان ليفعل بمريم العذراء، وخاصة أنّه كان في العادات والتقاليد اليهودية أن تُرجم المرأة حتّى الموت، إذا اتُخذَتْ في الزّنى. فبالرغم من أنّ يوسف كان رجل الشريعة والله، ولكنّ برارته فاقَتْ هذه الشّريعة: “لم يُرِد أن يشهَرَ أمرَها، فعَزَمَ على أن يُطلِّقَها سِرًّا” (متّى19:1). فأخذ يوسف موقف “مسيحيّ” قبل ولادة يسوع المسيح، وهذا يدلّ على انفتاح يوسف على رحمة المسيح قبل ولادته، فقد استبق رحمة يسوع من خلال موقف القوّة الذي عاشه أمام مريم العذراء. ولأنّ يوسف إنسانٌ بارٌ، ولم يُرد أن يعيش في حالة حيرة واندهاش أمام هذا اللغز الكبير، كشف له الله سِرّ السّماء قائلًا: “لا تخفْ أن تأتي بامرأتك إلى بيتك. فإنّ الّذي كُوِّنَ فيها هو مِن الرّوح القُدس” (متّى20:1). وهذا هو سِرُّ إيماننا المسيحيّ، بمعنى أنّ مريم زُرع في أحشائها طفلٌ بفعل إلهيّ، هو الروح القدس. فيقول النبيّ أشعيا: “ها إنّ العذراءَ تحمِل فتَلِدُ ابنًا يسمونه عِمَّانوئيل، أي (الله معنا)” (متّى23:1). وكيف نترجم جملة “الله معنا” في حياتنا ؟…فكلّ إنسان يحمل بداخله قلبًا مُمتلئًا بالرّحمة والمحبة، يكون مع الله.

فلمّا ذهبت ماريا فوستينا إلى الدّير عند الراهبة، وكلّمتها بشأن التَّرَهُّب، وأنّها أصبحت مُستعدّة، طلبت منها الراهبة أن تتوجه إلى الكنيسة وتسأل الرّبّ يسوع ماذا يُريد منها، وعندما تجد الجواب تعود إليها…فركعت أمام المصلوب في الكنيسة، وسألته: ماذا تُريد منّي يا ربّ في هذه اللحظة؟ فأجابها: أريد أن تكوني في قلبي. فكلّ إنسان يكون في قلب الله، ينشر الرّحمة لمن حوله. لأنّ الله إله رحمة. فالرّحمة التي تجسّدت في حياة المسيح بلغت ذروتها وهو على الصّليب. ويقول لنا بولس: “وقد اتخذ ذاته، مُتّخذًا صورة العبد، وتشبّه بالإنسان وأطاع حتى الموت موت ” (في 7:2-8). فرحمة يسوع تكمن بِبَذل ذاته على الصليب من أجل البشريّة.
وقريبًا في كلّ أبرشيات روما، وخاصًة في الفاتيكان، سوف يتم تكسير الباب الذهبيّ، أي باب اليوبيل الذهبيّ، الذي يُكْسَر كلّ مئة سنة، ويرمز إلى العبور من الموت إلى الحياة، ومن حياة الخطيئة إلى حياة النعمة. فهذه السنة سنة يوبيليّة، ومِن الجميل أن تتنعَّم البشريّة برحمة الله، وتتكسّر كل هذه الأبواب اليوبيليّة، لتَعبُر كلّ الكنائس وكلّ البشريّة مع الرّبّ يسوع، إلى حالة الفرح والسّلام الدائم.

وأتمنّى إخوتي مع هذا العبور، أن تَعبُروا من حالة الجفاف إلى حالة الفرح والقيامة، ولُيحاول كلّ واحدٍ منّا أن يَعبُر مِن ذاته إلى الآخر من خلال إعطاء قلبه وذاته للكنيسة وللآخر، ومُمارسة فعل الحبّ تجاه الآخرين، وعدم انتظار المبادرة مِن الفقير أو المجروح، وإنَّما أن يُبادر هو كما كان يفعل المسيح، وهذا هو العبور إلى الحُبّ والرحمة. وكما عبر موتانا من الأرض إلى السّماء، فنحن مدعوون للعبور إلى حُبّ العطاء وحُبّ الآخر. آمين.

 

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp