عظة الأب ملحم (الحوراني)،

كنيسة رقاد السيّدة – المحيدثة، المتن.

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

اليوم أيّها الإخوّة، في التاسع من آذار، تعيّد الكنيسة عيد الأربعين شهيدًا. إنّهم مجموعة من الجنود الذّين كانوا يحبّون الرّبّ، وكانوا يعيشون إيمانهم سِرًّا، إذ لم يكن المواطن الرّومانيّ يستطيع إلاّ أن يعترف بالإمبراطور إلهًا له. فإن كنتَ تعبد يسوع المسيح كإله، تكون بالنسبة للإمبراطور خائنًا إذ إنّك تعبد شخصًا آخر غيره، وبالتّالي يجب أن تُقتل. عندما اكتشف الامبراطور أمر هؤلاء الجنود، واكتشف إنّهم مسيحيّون، ألقى القبض عليهم، هدّدهم وتوّسل إليهم ليتركوا إيمانهم بالرّبّ، ولكن دون جدوى. فكان قصاصهم أن يُرمَوا في بحيرة جليديّة متجمّدة في سبسطيا التّي تقع في شرق تركيا الحاليّة أي في أرمينيا سابقًا. رموهم في هذه البحيرة الجليديّة ليفجِّر البرد شرايين أجسادهم. ولكنّهم ساندوا بعضهم بعضًا، عندما كانت قوى بعضهم تخور من جرّاء البرد، فاستطاعوا الصمّود إلى النّهاية دون أن ينكروا إيمانهم. وقد أرسل الله إليهم من السماء أربعين إكليلاً، وكانت تلك الأكاليل ظاهرة لجميع الحاضرين، وقد استقرّت فوق رؤوس الأربعين جنديًّا. في اليوم التّالي، اتّضح للقائد العسكريّ الذي تولّى عمليّة الإعدام أنّهم ماتوا في البحيرة، وكان عليه إخراج جثثهم من البحيرة بسحبهم منها. ثمّ، تمّ كسر سيقانهم وإحراقهم لئلاّ يأتي المسيحيّون ويأخذوا بركة من بقاياهم. فلِمنعهم من ذلك قاموا بإحراقهم. وعندما كان الجنود الرومان يضعونهم في عربات الخيل لنقلهم إلى مكان الإحراق، كان أحدهم واسمه ميليتون، وكان أصغرهم سنًّا، ما زال يتنفّس ويئِنُّ، وكانت أمّه حاضرةً حفلة استشهاده. لاحظ الجنود أمر ميليتون، فقرّروا أن يتركوه جانبًا للاستفراد به لاحِقًا. لكن والدته رفضت أن يستفرد الجنود الرّومان بابنِها، فحملته بنفْسِها ووضعته مع رفاقه الشهداء ليُحرَق مع الآخرين، وطلبت منه أن يُكمل شهادته حتّى
النّهاية وألاّ يُزعزّع أيّ شيء إيمانَه بالله، وأَوصّته ألاّ يضعف إيمانُه.

أريد أن أعكس ذلك على حالتنا اليوم، وعلى هذا العيد الذّي نحتفل به، وهي الذكرى السنويّة للإخوة الحاضرين من جماعة “اُذكرني في ملكوتك” الذين اعتدنا أن نصلّيَ معهم أو مع قسمٍ منهم في الاربعاء الثاني من كلّ شهر على نيّة الموتى فنقيم معهم الجنّاز العموميّ للموتى.
هذه الجماعة تأسّست من أجل أن يسنُد بعضُها البعض، وأن يسندوا النّاس ويشدِّدوهم وبخاصّة المحزونين منهم. كم نحن بحاجة، في رعايانا وفي الكنيسة بشكل عامّ، لهذا النّوع من النّاس المتخصّصين. لا شكّ أنّه في حال حصول أيّ وفاة نرى النّاس تأتي لتعزينا وتسندنا، لكن قلائل هم الذّين يستطيعون أن يعزّونا بما يستطيع فعلاً أن يعزّينا. هناك ناس يعجزون عن أن يقولوا أكثر من كلمة “الله يرحمه”. وبالتّالي السؤال الذّي يُطرح: كيف يستطيع هؤلاء الإخوة والأخوات أن يُعزّوا النّاس، فالوقوف بالقرب من الآخر، فقط، لا يستطيع أن يعزّي الآخرين تعزيةً كبيرةً. لا يستطيع الإنسان أن يعزّي الإنسان. الله فقط هو القادر على أن يعزّيني. لذلك سَعَتْ هذه الجماعة إلى أن تُوّسع نشاطها وتتعلّم من الرّبّ كيف تعزّي النّاس، وكما قلت فإنّ الانسان لا يستطيع أن يُعزّي إنساناً آخر، إنّما الله وحده هو القادر على أن يعزيّ البشريّة بأسرها من خلال وسائل بشريّة، فهو يضع أناسًا حصلوا على تعزيّات من الرّبّ، يحملون رسالته، ليعزّوا الآخرين المحزونين. إنّ الكاثوليك، بعد أسبوعين تقريبًا، سيحتفلون بالأسبوع العظيم، أمّا عندنا نحن الأرثوذكس فبعد شهر ونصف تقريبًا. فما الذّي فعله المسيح معنا؟ إنّ المسيح جاء إلى أرضنا وعزّى النّاس ووقف قربهم. لكنّ البشر قتلوه، وهو قَبِل الموت على يدهم إذ قال إنّ دمَه الذّي سيُسفك من أجل البشريّة جمعاء سوف يُعزّيهم ويشفيهم من جروحاتهم، وبموته يستطيع شفاءهم من موتهم. صار المسيحُ المعزّيَ الأكبر. وعند صعوده إلى السّماء، ترك لنا الرّوح القدس، المعزّي، الذّي يساعدنا ويُلهمنا لنكون جماعة. هؤلاء الاربعون شهيدًا، لو استُشهد كلٌّ بمفرده، لربّما كانوا ضعفوا وخسروا، غير أنّهم كانوا كتلة واحدة تحبّ الرّبّ، وكان الواحد منهم يحبّ الآخَر ويعزيّه.

 

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp