القدّاس الاحتفاليّ في عيد القيامة المجيدة،
كنيسة مارت مورا – القبيات، عكار.
عظة القدّاس الإلهيّ لسيادة المطران يوسف سويف، راعي أبرشيّة طرابلس المارونيّة:
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين
المسيح قام! حقًّا قام! ونحن في كلّ أحدٍ شهودٌ على ذلك!
في كُلِّ أحدٍ، نلتقي لنُعلِن قيامة المسيح من بين الأموات. فَكَم بالأحرى اليوم، في هذا الأحد المبارك، الّذي فيه نَجتمع في هذه الرَّعية، رعيّة مارت مورا في القبيات، آتين مِن عدَّة مناطِقَ من لبنان، تَحتَ اسمٍ جميلٍ جدًّا أرادتْ العناية الإلهيّة أن يكون موجودًا، وهو “أذكرني في ملكوتك”.
غريبةٌ أنتِ، جانيت! إنَّ وجودِكِ في آخر الكنيسة يُذكِّرني بالعَشَّار، ويدلّ على تواضُعِكِ الّذي تتميَّزين به. اليوم، نريد أن نشكر الربَّ عليكِ، الّذي عَمِل من خلالكِ. جانيت مخايل الهبر هي ابنةُ هذه الرَّعيّة. نتيجة اختبارِها الشَّخصيّ منذ ثمانية عشرة سنة، المليء بالألم، وبعد دردشةٍ روحيّة مع الخوري جوزف سلّوم، نَبَتَت فِكرة جماعة “أذكرني في ملكوتك”. إنّ هذه المبادرة، أي جماعة “أُذكرني في ملكوتِكَ”، هي صَدَقةٌ، هي شوقٌ، لا بل أكثر من ذلك، إنَّها اعترافٌ بالإيمان القائم على عدم وجود للموت مع يسوع. إنّ اسمَ هذه الجماعة أتى مِن عبارةٍ صرَخَها لِصّ اليمين للربِّ من أعلى الصَّليب: “أُذكرني يا ربّ حين تأتي في ملكوتِكَ” (لو 23: 42).
وفي الرِّسالة الّتي تُلِيَت على مسامِعنا اليوم، يقول لنا القدِّيس بولس، إنّنا لم نَعُد نعرف المسيح بعد اليوم إلّا مصلوبًا، لأنَّ الربَّ يسوع بموته على الصَّليب وقيامته أعطانا الحياة الجديدة، الحياة الأبديّة، الّتي كُنّا قد خَسِرناها بالخطيئة. لذلك، علينا أن نُردِّد ونُصلِّي في كُلّ يومٍ، – وليس فقط في هذه الـمُناسَبَة وفي هذا الأحد المبارك- ، قائلين: أُذكرنا يا ربّ في ملكوتِك، طالبين منه أن يأتي ملكوتَه في حياتنا.
أنا مسرورٌ جدًّا اليوم، أن نلتقي جميعًا مع النَّائب الأسقفي، أخينا المونسينور الياس، ومع قُدس الأباتي، ومع كهنة الرَّعية، ومع كلّ إخوتي الآباء، المجتمعين معًا لنحتفل في هذه المحطَّة السَّنوية لِجماعة “أذكرني في ملكوتك”، في أبرشيَّتنا، في القبَّيات، في عكَّار، لنشكر الربّ على نِعمة القيامة، وعلى نعمة الحياة. كما نشكر الربّ على نعمة الرُّوح القدس الّذي يساعدنا لِنَعيش القيامة في كلَّ يومٍ من حياتنا، فَنختبر حضور يسوع القائم مِن بين الأموات، حضور يسوع الحيّ. يا أحبَّائي، في إيماننا المسيحيّ، نحن لا نؤمن فقط بيسوع الّذي مَرَّ في الزَّمان في تاريخنا البشريّ، وقال لنا بعض الكلمات، بل نؤمِن بيَسوع المسيح الّذي هو كلمة الله المتجسِّدة، إذ صار إنسانًا، ووُلِد من الرُّوح القدس ومِن مَريم العذراء. إنّ الله قد صار إنسانًا، وأخذ طبيعتَنا البشريّة واتَّحد بها، هي الّتي كانت تعيش في الموت بسبب كبرياء الإنسان. ما هي أعظم خطيئة وأكبرها؟ أنانيّة الإنسان أي كبرياؤه! فحين ينظر الإنسان إلى ذاته يُنصِّب نفسَه إلهًا، ويرى أنّه أصبح مرَجعًا لِنفسِه، معتبرًا ذاته مَصدر الحُبّ: هنا يكون الإنسان قد ارتكبَ الخطيئة الكُبرى. هذه هي الخطيئة الّتي أدَّتْ بنا إلى الموت. لذا، جاء يسوع، الـمُرسَل من الآب، فعرَّفَنا على الله الآب. إنّ الأناجيل الّتي تُقرأ على مسامِعِنا في الكنيسة في هذا الزَّمن الطقسيّ، تُشدِّد على أنَّ يسوع قد خَرَج مِن الآب، وهو قد أتى إلينا ليُعرِّفنا على الله الآب، ولِيَدُّلنا على الطريق الّذي علينا أن نسلكه للوصول إلى الآب؛ فنُصوِّب كلَّ اختباراتنا الرُّوحيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة والكيانيّة على هذه الأرض، نحو الله الآب، ونُقدِّم له كلَّ شيءٍ مع يسوع المسيح بِنِعمة الرُّوح القدس، الّذي يُجدِّد فينا الحياة، ويُدخِلُنا فيها. إنّ الرُّوح القدس لا يجعلنا فقط نُدرِك بالعقل، بل أيضًا يُساعدنا على العيش في القلب قيامة يسوع من بين الأموات، فنكونَ شهودًا حقيقيِّين على قيامته من بين الأموات. عندئذٍ، يتحوَّلُ كلَّ حُزنٍ وألمٍ نعيشهما في حياتنا مع المسيح بنعمة الرُّوح القدس الّذي يعمل في قلوبنا وفي البشريّة جمعاء، إلى رجاءٍ وإلى حياةٍ جديدة. إنّ العالَم الّذي نعيش فيه اليوم بحاجةٍ ماسّةٍ إلى شهودٍ حقيقيِّين، يشهدون له أوَّلاً بالكلام أي مِن خلال صلاتِهم وإيمانهم، وثانيًا بالعمل أي مِن خلال عَيشِهم المحبَّة. إنّ عالَـمَنا اليوم بحاجة إلى سماع كلمة الله من الأشخاص الّذين التقوا بالمسيح واختبروه فعاشوا كلمته في حياتهم الإنسانيّة اليوميّة. لذلك، إخوتي، على حضورنِا في قلب هذا العالَم، أن يكون حضورًا قياميًّا، وهذا يعني أن تحلَّ القيامة في كلّ مكانٍ نتواجد فيه وفي كلِّ تَصرُّفٍ نقوم به. إنّ الشَّهادة للمسيح القائم لا يمكن أن تتمّ إن لم نكن قد اختبَرْنا حضور المسيح القائم في قلوبنا.
“أُذكرني في ملكوتك” هي جماعةٌ قد تعرَّفتُ عليها، واستَقبلتُها في أبرشيَّتي السَّابقة في قبرص، وقد أصبح لهذه الجماعة تواجدٌ في قبرص في أكثر من رعيّةٍ في لارنكا وليماسول. وهذه الجماعة تتواجد أيضًا في أبرشيَّتي الجديدة، في طرابلس، في أكثر مِن عَشِر رعايا. نسأل الله أن تتنشر هذه الجماعة في كلّ رعايا هذه الأبرشيّة.
إنّ أكثر ما أثَّر فيّ في اختبار هذه الجماعة، مِن النَّاحية الرَّمزيّة، هو السِّجلّ، الموضوع الآن على المذبح. في هذا السِّجلّ تُدوَّن أسماء الأحبّاء، أحبّاء قلوبنا، الَّذين مَرُّوا في تاريخنا البشريّ، وقد رَبَطَتْنا بهم علاقة حُبٍّ وموَدَّةٍ، وقد شَهِدوا في حياتهم الأرضيّة للمسيح وكانوا مِن قافلة الشَّهود للمسيح مِن أيّام الرُّسل إلى يومِنا هذا. إنّ هؤلاء الأشخاص قد سَبَقونا إلى الآب، أمّا نحن فما زِلنا موجودين على هذه الأرض. إنَّ أسماءنا إضافةً إلى أسماء أحبّائنا الّذين رَحلوا عن هذه الأرض قد دُوِّنت أوّلاً في سِجِّل المعموديّة، وها هي الآن أسماؤهم نُدوِّنها في هذا السِّجلّ الّذي سأُسميِّه سجِلّ الحياة، وفي يومٍ من الأيّام سَتُدوَّن أسماؤنا جميعًا نحن الحاضرون هنا في هذا السِّجِلّ، وأيضًا في سِجِلّ الحياة الأبديّة بِنعمة الرُّوح القدس. طوبى للإنسان الّذي سيبقى اسمه موجودًا في سجِّل الحياة. أتعلمون مدى التَّعاسة الّتي سَتُصيب الإنسان الّذي لن يَجد اسمه مكتوبًا في سجِّل الحياة؟ إخوتي، للإسْم أهميّة كبرى في لاهوتنا الكنسيّ. إنّ الاسم هو الله. عندما نَرسم إشارة الصَّليب على جباهِنا، نقول: بِاسم الآب، وبِاسم الابن، وبِاسم الرُّوح القدس. حين يتعرَّف الإنسان على المسيح، يُصبح اسم يسوع المسيح مُرافِقًا لاسمِه الآخَر، إذ إنَّ أسماءنا دُوِّنت في يسوع المسيح في كِتاب الحياة. إخوتي، أريد أن أشكر الربَّ معكم على هذا الاختبار الّذي يَتِمُّ في الكنيسة الّذي هو “أذكرني في ملكوتِكَ”، ونَطلُب من الربِّ نعمةَ أن نكون بمستوى هذا الاسم الّذي نحمله الّذي هو يسوع المسيح.
إنّ الصَّلاة لأمواتنا ليست مسألة بسيطة أبدًا، ففي لاهوت الكنيسة هذه الصَّلاة تُسمَّى “شَرِكةُ القدِّيسين”. إنّ قمَّة هذه الشَّركة نعيشها على المذبح، لأنَّه على المذبح يتمّ الاحتفال بالفِصح المجيد. على المذبح تلتقي الكنيسة الأرضيّة الّتي لا زالت تُجاهد، بِكَنيسة السّماء الّتي لا نراها ولكنّها موجودة، مِن خلال القربانة المقدَّسة الّتي هي يسوع المسيح. إنّ يسوع المسيح يَجمَع كنيسة الأرض بكنيسة السَّماء، الّتي هي أورشليم السَّماويّة؛ ولذلك، في أثناء المناولة، نُرتِّل ترنيمة “عساكر السَّماء محيطةٌ معنا بمائدة المذبح”، – أتمنَّى على الجوقة الحاضرة ترنيمها. إنّ الكنيسة المجاهدة الّتي تلتقي بيَسوع المسيح بكنيسة السَّماء، تَنطلق من جديد بعد الذَّبيحة الإلهيّة للقاء الإنسان المحزون والمريض والمتروك والـمَنسيّ، فتُسانِدهم وتُساعدهم على اللِّقاء مجددًّا بالربّ، ممّا يجعلهم يشعرون أنّهم وسط عائلتهم. هذه هي روحانيّة جماعة “أُذكرني في ملكوتك”. نَشكُر الربَّ على هذه الرّوحانيّة، الّتي هي حقيقةٌ روحانيّة المحبّة، روحانيّة الرَّحمة، روحانيّة الخدمة، روحانيّة حضور يسوع الـمُعَزِّي، حضور الرُّوح القدس المعزِّي والمجدِّد في حياة بعضنا البعض.
أحبّائي، نريد أن نشكر الربّ على نعمة هذا اللِّقاء السَّنويّ، على نعمة هذا القدَّاس. نريد أن نشكر الربَّ على جماعة “أذكرني في ملكوتك”، الّتي كما قال لي أبونا جوزف، إنّه قد مرَّ على تأسيسها ثمانية عشرة سنة، وإلى سنين عديدة قادمة إن شاء الله، بالازدهار والانتشار. إنّ الجميل في هذه الجماعة هي الرّوح المسكونيّة الموجودة فيها، فهي تَضُمّ جماعات مِن كنائس عدّة، كاثوليكيّة وأرثوذكسيّة. إنّ هذه الرُّوح هي أكبر شهادة ليسوع المسيح الّذي يرغب في أن يكون جميع المؤمنِين به واحدًا: “كونوا واحدًا كما أنا الآب واحد” (يو 17: 21). هذا هو إيماننا الّذي نعيشه، الّذي نُعلِنُه في القدَّاس، في قانون الإيمان: “ونؤمِن بكنيسةٍ واحدةٍ جامعةٍ مقدَّسةٍ رسوليّةٍ”. نشكر الربَّ على نعمة هذه المبادرة، على هذه الكَريسما، على هذه الموهبة الموجودة في داخل الكنيسة. ونطلب منه حقيقةً أن يساعدنا كي نكون شهودًا حقيقيِّين على قيامته فإنَّه مع يسوع المسيح لا وجود للموتِ أبدًا، ولا وجود لليأس. مع يسوع المسيح، كلُّ يأسٍ وكلُّ مَوتٍ، يَتحوَّل إلى حياةٍ جديدةٍ بالرُّوح القدس، له المجد إلى أبد الأبِدِين. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العِظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.