تأمّل روحيّ،

الأب ميشال عبود الكرمليّ،

كيف نتصالح مع ذاتنا ومع الآخر؟

ننضجُ إنسانيَّاً بالحياةِ الرُّوحيَّة، إلَّا أنَّ النُّضوجَ الإنسانيَّ يتطلَّبُ معرفةَ الذَّاتِ. وعندما ننضجُ، نتمكَّنُ من تَقبُّلِ كلمةِ الله، وبالتالي نتمكَّنُ من فهمها فتُغيِّرنا. فمفهومُنا بكامِلِهِ مبنيٌّ على أنَّ اللهَ هو خالقُنا، والوصيَّةُ الأولى تقولُ: “أحبِبِ الرَّبَّ إلهَكَ من كلِّ قلبِكَ وعقلِكَ وذهنِكَ” والثَّانية: “أحبِبْ قريبَكَ كحُبِّكَ لنفسِكَ”. فعندما نحبُّ أنفُسَنا، نتمكَّنُ من محبَّةِ الآخرين، وعندما لا نحبُّ ذواتنا لن نَمنَح حُبَّاً للآخر لأنَّ فاقدَ الشَّيءِ لا يُعطيه. وإن كُنَّا نحيا في صراعٍ مع قبولِ الآخرينَ لنا، فما هو إلَّا نتيجة لصراعٍ نحياهُ مع قبولِنا نحنُ لأنفسنا.
في الحياةِ الإنسانيَّة، يُقالُ أنَّ لدى الإنسان ثلاث صورٍ عن ذاته. الأولى هي الصُّورة السَّلبيَّة، وهي تنطبعُ فيهِ منذُ الصِّغَر عندما يُقارَنُ الطِّفلُ بغيرهِ باستمرارٍ ويُنهَرُ بقوَّةٍ عندَ ارتكابِهِ أبسطَ الأغلاطِ، ويُحبَطُ، فتَضعُفُ جرأتُهُ وقدرتُهُ على اتِّخاذِ القرارِ خوفاً من سخريةِ الآخرينَ منهُ، وتبقى هذهِ الآثارُ السَّلبيَّةُ مطبوعةً في نفسِهِ عندما يكبرُ.

الصُّورةُ الثَّانيةُ تُعرَفُ بالصُّورةِ الهاليَّةِ، وهي عندما يُحاطُ الطِّفلُ بأشخاصٍ يمدحونَه فقط، ويُثنون على كلِّ تصرُّفٍ يقومُ بهِ، فيبتعد عن كلِّ من ينتقدُهُ، مُتحوِّلاً إلى ما يُشبِهُ الدِّيكتاتور المتقوقعَ على ذاتِهِ والمحاطَ بمن يجاملُه فقط، والذي يقتُلُ كلَّ من يدلُّه على غلطه. وفي هذه الحالة، لا يكونُ لدى الإنسان أصدقاء كُثُر.
أما الصُّورةُ الثَّالثةُ فهي الصُّورةُ الواقعيَّةُ: “هذا أنا، قد أعجبُكَ وقد لا أعجبُكَ، ولكن في الحالتَيْن هذا جُلُّ ما أملك”. وتتشكَّلُ هذه الصُّورةُ من اقتناعِ الإنسان أنَّهُ فريدٌ لا أحدَ يشبهُه، لمجرَّدِ أنَّ أحداً لا يملكُ بصمةً كبصمتِهِ، وبمجرَّدِ أن تتكوَّنَ لَدَيه هذه القناعة، يمتنعُ عن الحسدِ والغيرةِ. وهذا قرارٌ يتَّخذُهُ الإنسانُ روحيَّاً، وإن لم يفعلْ فهو يؤذي العلاقةَ بينَه وبينَ الله، لأنَّ اللهَ الخالقَ لا يخلقُ أحداً كالآخر.

وعندما يفهمُ الإنسانُ هذا الأمر لا يعدْ يحسد أو يغار، كما يعملُ حينها هو بنفسهِ على بناءِ حياتِهِ، لأنَّهُ يُدرِكُ أنَّ النَّاسَ قد ساعدوه في أماكنَ معيَّنة إلا أنَّهم قد أذوه في أخرى، وفي الحالتَيْن كانَ هناكَ تخطِّي لطبيعتِهِ الإنسانيَّة. ويجبُ أن يُدركَ الإنسانُ في قرارةِ نفسِهِ أنَّ قيمتَهُ تكمنُ في ذاتِهِ هو، كقطعةِ النُّقودِ التي لا تتغيَّرُ قيمتُها مهما حدثَ لها، وبالتالي سيتوقَّفُ عن العيشِ كما يريدُ النَّاس، بل سيعيشُ كما يناسبُ حياتَهُ هو. وسرُّ الفشلِ في الحياةِ هو محاولةُ إرضاءِ الآخرين، فعندما يعيشُ الإنسانُ حياتَهُ مُحاولاً أن يُرضيَ هذا وذاكَ سيحيا في حزنٍ، لأنَّهُ لا يفعلُ ما يرغبُ به حقيقةً. وقد يتأقلمُ على فعلِ ما يريدُهُ الآخرون، إلَّا أنَّهُ سيصلُ إلى مرحلةِ الثَّورةِ: “سأفعلُ ما أريد”. وأحياناً على الإنسانِ أن يتعاملَ مع الآخرين وكأنَّهُم أطفالٌ، فلا يشعرُ بانتقاصٍ من كرامتِهِ إن نفَّذَ ما يريدونَهُ.

ولكي نتمكَّنَ من الحياةِ مع الآخر، علينا أن نُدركَ أمراً هامَّاً جدَّاً وهو أنَّ الآخرَ يختلفُ عنَّا في كلِّ شيءٍ، ولا يتصرَّفُ كما نفكِّرُ نحن، إذ تحدُثُ المشاكلُ بينَ النَّاس نتيجةَ اعتقادِهِم أنَّهم متشابهونَ بالفكرِ. لكن إذا فهِمنا هذا الاختلافَ تمكَّنَّا من تخطِّي الخلافات.
وعندما يُلقِي الآخرُ علينا بالاتِّهاماتِ، علينا أن نسألَهُ أوَّلاً عن السَّببِ الذي دفعَهُ إلى ذلك. فإن كانَ السَّببُ باطلاً، تمكَّنا من تجاوزِهِ، أمَّا إن كانَ الاتِّهامُ واقعيَّاً وناجماً عن صفةٍ غيرِ مُحبَّبَةٍ موجودةٍ فينا، فعلينا أن ننتبِهَ إلى ردَّاتِ فعلِنَا حينَها لأنَّها قد تفضحُنا.

وبعضُ الأشخاصِ يُمكنُ لهم أن يتغيَّروا بمعالجةِ عُقَدِ النَّقصِ لديهم، إلَّا أنَّ البعضَ الآخرَ لا يُمكنُ لهم الشِّفاءَ منها، وعلينا أن نحتملَ من ليسَ بإمكانِهِ أن يتغيَّرَ، وأن نفهمَ أنَّنا ننظرُ إلى الأمورِ بمنظارٍ مُختلفٍ عن منظارِهم، وعندَ حدوثِ خلافٍ ما، علينا أن نراهُ من وجهةِ نظرِ مراقبٍ خارجيٍّ، وبالتَّالي ندركُ حجمَهُ الحقيقيّ فنتعاملُ معهُ تعاملاً صحيحاً متصالحين مع ذواتِنا، بعيداً عن الحقدِ على الآخر وكراهيَّتِه.

وقد يكونُ هناكَ أناسٌ لا يمكنُنا أن نعيشَ معهم، لأنَّ لديهم الكثيرَ من السِّماتِ غير المـــُحبَّبَة، وهؤلاء يجبُ أن نبقيَهُم وأفعالَهم خارجَ نطاقِ تفكيرِنا واهتمامنا. وقد نشعرُ بالضِّيقِ عندما نتعاملُ معهُم، ولكن علينا أن نتخطَّى هذا الضِّيقَ ولا نسمحَ له بالتَّأثيرِ على حياتِنا أو بالسَّيطرةِ على تفكيرنا. ولكنَّ المشكلةَ تتفاقمُ إن أصبحنا نحنُ سببَ ضيقِ الآخرين، والحلُّ هو الصَّلاةُ لأجلِ ضعفاتنا، وطلبُ المساعدةِ من اللهِ ليُعيننا في التَّغلُّبِ عليها. ونحنُ اليومَ ككهنة نُشدِّدُ في مواضيعنا الرُّوحيَّة على أهميَّةِ هذا الأمر؛ الصَّلاة الفرديَّة، فبالرَّغمِ من إقامةِ الصَّلوات الجماعيَّةِ، نشعرُ أنَّ النَّاسَ ما زالوا يُعانونَ من الحزنِ والكآبةِ، ويسوعُ قالَ: “ما جئتُ من أجلِ الأبرارِ، بل من أجلِ الخطأة”، والبابا فرنسيس لا يرى ضرراً في وجودِ خطأةٍ في الكنيسة.

يحيا الإنسانُ في قلقٍ مستمرٍّ، تتخلَّلُهُ لحظاتٌ من الارتياحِ، وقد نَمرُّ في حياتنا بمشاكلَ كبيرةٍ، ونصرخُ ألماً، وهذا حقُّنا، وأحياناً تكونُ صرختُنا قويَّةٌ والمشكلةُ صغيرةٌ، وهنا علينا أن نُسيطرَ على أنفُسِنا ونُدركَ أنَّ الأمرَ لا يستحقُّ، وعندها تدخلُ نعمةُ اللهِ في قلوبِنا وتُغيِّرُنا نحوَ الأفضل. وعلينا أن نلتقيَ بيسوعَ بعيداً عن أعيُنِ البشر، كالمرأة السامرية التي التَقَتْهُ ظُهراً، ونخبرهُ عن كلِّ ما لا نرغبُ بسماعهِ عن ذواتِنا، وكلِّ ما نريدُ أن نخفيهِ عن الآخرين، وهو يساعدُنا. وعندما نخبرُ يسوعَ عن كلِّ هذه الأمور، ونقبلُها تحت نظرِهِ، لا نعدْ نخشى النَّاس، ونهرعُ كما هرعَتِ السَّامريَّة إلى من تخشاهُم وجلبَتْهُم ليتلقَّوا معها نعمةَ المسيح. وهذا الأمرُ يتطلَّبُ الوقتَ، ولكنَّهُ يقودُنا في النِّهايةِ إلى التَّصالحِ مع الذَّاتِ ومع الآخرين، فلا نعدْ نرغبُ بتغييرِهم بل نتأقلمُ معهم. والرَّغبةُ في حلِّ مشاكلِنا مع الآخرين هي الأساسُ، وبدونِها لا يمكنُ أن تُحلَّ المشكلةُ. 

ملاحظة: دُوِّنَ التأمّل بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp