محاضرة للأب جوزف شلالا الكرمليّ، 

لأنّي أملك السّماء في داخلي،

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

نجتمع مع جماعة “اُذكرني في ملكوتك” مرّة كلّ شهر في الحازميّة. وهذا المركز يعزّ عليَّ كثيرًا، لأنّه يُقدِّم الكثير من الخدمات، ويستقبل الكثير من الجماعات، لينشر كلمة يسوع ويُبشّر باسمه، فليُبارككم الرّبّ ويُبارك رسالتكم. ففي كلّ إنسان رجاءٌ كبير، وسماء في داخله، وهذا هو موضوعنا اليوم؛ “لأنّي أملك السماء في داخلي”.

فبحسب رأيكم، ما هي السماء؟…وأين هي ؟…ومن يُريد أن يملكها؟…جماعة “اذكرني في ملكوتك” تُبشّر بالسماء. وكثيرًا ما نتساءل، إن كان الأشخاص الذين فقدناهم موجودين في السماء. ففي داخل كلّ منّا منّا سماء، ولكن عليه أن يعرف، كيف يصل إلى هذا الداخل… فقد قال التلاميذ ليسوع: “علّمنا أن نصلّي”، أيُعقل أنّهم لم يتعلّموا منه كيفية الصلاة؟!…فإنّه كان يُصلّي أمامهم باستمرار، وكلّما أراد أن يُصلّي، ويلتقي بالآب السماوي، يصعد إلى جبل الزيتون. ويرمز الجبل إلى مكان مُرتفع، أعلى من المدينة، أي أنّه مكان قريب من السماء. أمّا بستان الزيتون فيرمز إلى الهدوء والخضوع، حيث كان الرّبّ يسوع يتنعّم بأبيه السماوي. وعندما رأى التلاميذ هذا الانخطاف الذي يعيشه يسوع مع أبيه السماوي، قالوا له: ” علّمنا أن نصلّي”… فللصلاة عدّة أنماط وأشكال. وكان التلاميذ يُصلّون أمام الهيكل، ولكن ما جذبهم هو صلاة الاختلاء والتأمل… إنّني أتكلم اليوم عن جزء من تنشئة المسيح، لأنّ مركز حياتي، ونقطة الصمت في حياتي، هي يسوع. لأنّني عندما أُصلّي بخشوع، يصل صوتي إلى الله، فيفيض بنعمته عليّ، وهو من يعطيني القوّة في حياتي.

وفي القرن السادس عشر، كان هناك راهبة اسمها تريزيا الأفيلية، وهي مُعلِّمة في الكنيسة. عاشت اختباراً جميلاً في الصلاة، وكانت تؤكّد على وجود السماء في داخلها. فقد تركت كتابات عظيمة مبنيّة على اختبار عاشته في حياتها، وعندما ازداد تَرَدُّد الراهبات إليها، طالبات منها أن تُعلِّمهنّ كيف يصلّين، بدأت تكتب أكثر وأكثر. وكتبت أيضًا عن مسيرة حياتها، والعديد من الكتب الرّوحيّة، مثل كتاب “المنازل”، الذّي تُبيّن لنا فيه كيف نتّحد مع حبيبنا، مع عريس نفسنا، وتُبيّن الطريق الذي يجب أن يسلكه الإنسان ليصل إلى الكمال.

والسماء هي مكان رائع، ممتلئ بالفرح والسعادة، لأنّ الإنسان يتّحد مع العريس، وهذه هي قمّة الحبّ. وكذلك الزوج والزوجة، يعيشان قصّة حبّ، ويتّحدان ليصبحا شخصًا واحدًا من خلال سر الزواج المقدّس، ويصدر عنهما ثمرة الحبّ، وهم الأولاد.
وتتكلّم القديسة تريزيا عن المنازل السبعة التي كتبتها، وتُشَبِّه النفس بالقصر مؤلّف من عدّة غرف، وعندما تَدخل هذا القصر، تَصعد إلى الغرفة السابعة، وتعيش هذه الحميميّة… وشرَحَت في كتابها عن كل غرفة، ابتداءً من باب القصر، ومفتاح هذا الباب هو الصلاة.. وتُشَبِّه القصر بالنَفْس، فالإنسان يحتاج إلى عزم وإرادة ليدخل إلى نفسه. وتحدّثت أيضًا بالتفصيل كيف يدخل الإنسان إلى ذاته في كلّ غرفة، ويمكن أن يشعر في الغُرَف الأولى بالملل، فيخرج من ذاته، ويرفض نفسه، ويبتعد عن الصلاة…وهذا ما أرادت تريزيا أن تصل إليه، أي أنّ الشرط الأول لدخول السماء، هو قبول الذّات. فإذا سقط الإنسان في خطيئة معيّنة، يمكن أن يكره ذاته، ويعيش صراعاً مع نفسه. وهذا الاختبار نشعر به في سرّ الاعتراف. 

فعندما يعترف الإنسان، ويتصالح مع ذاته، يعيش بسلام، وينزع حملاً كبيراً عن قلبه. فعلينا أن نخرج من ضجيج العالم، ونتجنّب تأثير التكنولوجيا، لأنّنا نسكن في عالم مبني على الديجيتال، وهذا الديجيتال يجعلنا نعيش بوهم كبير، ويخلق مشاكل اجتماعية، مثل الطلاق، لأنّ العلاقة بين الزَوجَين صارت قائمة على الإنترنيت. ومثال آخر عن ذلك، هناك فتاة تكون في مزاج سيّئ، وإذ تصلها رسالة من أحدهم، وفجأة تبتسم وتفرح، كأنّ حياتها مبنيّة على هذه الرسالة. ونلاحظ وجود أمور خارجية تُقيّدنا، تُذِّلنا وتُبكينا، وتجعلنا غارقين في هذا العالم، ناسِين اكتشاف العالم الذي في داخلنا…فإنّنا بحاجة للصلاة والسلام. ورغم العالم الخارجي الذي نحن فيه، فإنّنا بحاجة لأن نكتشف العالم في داخلنا. فعلينا أن نتجرّأ ونترك كلّ شيء خارجي، ونكتشف الأمور التي في داخلنا، وهذه هي السماء التي تتحدّث عنها تريزيا، وهي:”الاختلاء”؛ أي وقت الصمت الذي أجلس فيه مع ذاتي، وأنفصل عن العالم الخارجي، وأدخل إلى أعماق نفسي، إلى قصري، وأصعد إلى الغرفة السابعة.
وتحدّثت تريزيا في كتابها، عن الصراع الذي عاشته في الغرفة الأولى والثانية والثالثة، والجهد الذي بذلته لتلتقي بالحبيب، والمشقّات التي واجهتها، والتعب النفسي الذي رافقها، لتصل إلى المرحلة الرابعة. وفي هذه المرحلة يتذوّق الإنسان فيها طعم الله، ويتصالح مع نفسه. فحياتنا عبارة عن خط بياني، فيه صعود وهبوط، وعليّ أن أنظر برجاء في عمق الهبوط والمشكلة إلى نور القيامة الساطع من خلف صليبي، لأصل إلى الحياة…وفي بعض الأحيان، نكون في المنزلة الخامسة أو السادسة، وننزل إلى المنزلة الأولى، فهذه هي طبيعة الإنسان، يَتَجرّب ويَتَعرَّض لكثير من المواقف، وهكذا أيضًا هم القديسون…فالقديسة تريزيا الطفل يسوع كانت تبكي قائلة: “أريد أن أحبّك مع كل دقّة من دقات قلبي”. فكيف نسلّم نفسنا للرّبّ ونمشي معه الطريق، ونتّحد معه في المنزلة السابعة؟ فالإنسان يعمل بذاته في المنازل الثلاثة الأولى، ونصف الرّابعة، وفي بقية المنازل يتدخّل الله. 

والقدّيسة تريزيا استسلمت بين يديه، وسلّمته ذاتها ليساعدها في طريق القداسة، لأنّه هو من وضع فيها الرغبة في أن تصبح قدّيسة. والغرفة السابعة لا تحتوي على أبواب، وإنّما هي عالم روحاني، فيه انخطاف روحاني، حيث تكون النفس في سعادة قصوى، لأنّها بعيدة عن العالم المادي والأرضي، أي عالم الإنسان. وكم يتعذّب الإنسان الذي ينخطف روحيًّا ويعود إلى العالم الأرضي !وحياتنا المسيحيّة مزيج من الصلاة والعمل. وفي كتاب ثانٍ لتريزيا، اسمه “طريق الكمال”، ركّزت فيه على ثلاث فضائل، وتكلّمت في الفصول الستّة عشر الأولى عن كيفيّة العمل اليوميّ، “إذا أردتم أن تُصلّوا، فعيشوا التواضع”. فالفضيلة الأولى هي التواضع؛ وهي تُظهر المواهب الّتي يملكها الإنسان على حقيقتها، ويعيشها بعمق. وفي بعض الأحيان، كلمة العالم المحيط بنا تُشوّه صورة التواضع فينا، لأنّنا نصبّ اهتمامنا في الأمور الدنيويّة والأرضيّة، ونغفل عن الجوهر. والتواضع هو أن أكون في الحقيقة، وأعرف أنّ كل عمل أقوم به يكون باسم يسوع وبحضوره. والفضيلة الثانية التي تحدّثنا عنها تريزيا، هي التجرّد؛ أي التجرّد الذاتي، التجرّد من الحسد والأنانيّة، لنحصل على كلّ شيء، أي على الله. فيجب أن يكون الرّبّ يسوع في المرتبة الأولى في حياتنا، ولكنّنا في كثير من الأوقات، نكون مُتمسكين بأشياء أرضيّة تُغرينا وتبعدنا عن الله. فبالرغم من الوزنات التي يهبنا إيّاها الله، علينا أن نترك الأولوية للرّبّ يسوع. والفضيلة الثالثة هي الحبّ.

أيُعقل أن أُقدِّم الذبيحة وأُحبّ يسوع، قبل أن أُحبّ أخي؟!…أيعقل أن أَتّحِد بالله، وأنا لا أُسامح أخي الإنسان؟!…فكيف أستطيع أن أعيش الحبّ؟…وأصعب شيء ،عندما نقول: “اغفر لنا كما نحن نغفر”، وكيف يكون ذلك إذا نحن لم نغفر للآخر؟!… وقد كان علينا أن نقول: علّمنا أن نغفر ونسامح، كما غفرت أنت لنا. فقد قال الرّبّ يسوع: “اغفر لهم لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون”. فلا يستطيع الإنسان أن يغفر أو يسامح، إلّا إذا تذكّر أن الله غفر له، وسامحه. فالحبّ الحقيقي هو أن أموت عن أشياء من أجل الشخص الذي أحبّه، أي أن أُضحّي من أجل شخص أحبّه، وأموت عن شيء فيّ يُزعج أخي أو حبيبي. فالحبّ هو أن يخرج الإنسان من ذاته من أجل الآخر…وبعد الفضائل الثلاث، تُحَدِّثنا عن صلاتها في العمل، والعمل في الصلاة. فهي لا تُصلّي فقط في حياتها، وإنّما تحوّلت حياتها إلى صلاة. فثمرة صلاتي تكون في عملي اليوميّ، والقدّاس لا ينتهي عندما أخرج من باب الكنيسة، وإنّما يبدأ من باب الكنيسة ويتتابع في حياتي. أي بعد أن نُهيّئ الفضائل في حياتنا، يأتي الوقت لنرى كيف تستقبلنا هذه الفضائل. 

فالإنسان لا يستطيع أن يفعل ذلك لوحده، وإنّما هي بحاجة لوجود الله إلى جانبه، وعيش حياة التأمّل، ليكتشف السماء في داخله، ويعيش الفرح الحقيقي. ويصبح إنساناً مسيحيّاً لأنّه يملك السماء في داخله، ويعيش التواضع والتجرّد والحبّ في داخله. وعرّفت تريزيا الصلاة: “بأنّها حِوار صداقة نُجريه على انفراد مع مَن نَعرِف أنّه يُحبّننا”. وإذا فسّرنا كل كلمة من هذه الجملة، وجدنا أن كلمة “حِوار” تعني أنّه هناك شخص آخر يشاركني صلاتي، يساعدني على اختيار القرار الصحيح في حياتي. وكلمة “صداقة” تعني لغة القلب، أي أنّ هناك حوار يدور بين شخصين، حيث ينظر أحدهما للآخر ويتبادلان أطراف الحديث. وكلمة “نُجريه” تعني أنّنا نتكلّم مع الله عدّة مرات في الأسبوع أوفي اليوم، وليس فقط في قدّاس الأحد، لأنّنا نهدُف أن نُنَمّي هذه الصداقة. “على انفراد”، أي الشخص الذي نحبّه، ونريد أن نكلّمه لوحدنا…
وأتمنّى أن يتقبّل كلّ شخص وجود الآخر، ويرجع إلى ذاته، لأنّ الله يسكن في قلب كلّ واحدٍ منّا. وتقول إليزابيت: “أنا مَسكِن للثالوث”، أي أنّها بيت للآب والابن والرّوح القدس. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp