تأمّل إنجيليّ، 

الأب ابراهيم سعد،

“أعجوبة صيد السّمك” (لو 5: 1-11)

النّص الإنجيليّ،

“فدَخل إحدى السَّفينَتَين، الّتي كانت لِسمعان، وسأله أن يَبعُد قليلاً عن البَرّ. ثمَّ جَلسَ وصار يُعلِّم الجموع مِنَ السَّفينة. ولـمّا فَرغَ مِنَ الكلام، قال لِسِمعان: “ابتَعد إلى العمق، وأَلقُوا شباكَكَم للصَّيد”. فأجاب سمعان وقال له: “يا مُعلِّم، قد تَعِبْنا اللَّيلَ كُلَّه وَلَمْ نَأخُذ شيئًا. ولكنْ على كَلِمتك أُلقِي الشَّبكة”. ولـمّا فَعلوا ذلك، أمسَكوا سمَكًا كثيرًا جِدًّا، فصارَتْ شَبكَتُهم تَتمزَّق. فأشاروا إلى شركائِهم الّذين في السَّفينة الأخرى أنْ يأتوا ويُساعدوهم. فَأَتوا ومَلؤوا السَّفينَتَين حتّى أَخَذَتا في الغَرَق. فلمّا رأى سمعان بطرس ذلك، خَرَّ عِندَ رُكبتيّ يسوع قائلاً: “أُخْرُج مِن سَفينَتي، يا ربّ، فإنِّي رَجُلٌ خاطِئ”، إذْ اعتَرَتْهُ وجَميعُ الّذينَ مَعَهُ الدَّهشَة على صَيدِ السَّمَك، الّذي أَخَذوه” (لو 5: 1-11).

التأمّل في النّص الإنجيليّ،

إنَّ حديثنا اليوم سيتمحوّر حول نصّ الصَّيد العجائبي. تَرِد هذه الحادثة عند يوحنّا الإنجيليّ بَعْد القيامة، في حين أنَّ باقي الإنجيليِّين يَذكرونها قَبْل قيامة الربّ.

إنَّ هذا النَّص يَعرض علينا وِجهتَي نَظر: من جهة، وجهة نظر التَّلاميذ وعلى رأسهم بطرس، المبنيّة على الخبرة والمعرفة والاختبار والتَّعب والسَّهر واليأس؛ ومِن جهة أخرى وجهة نظر يسوع المبنيّة على كلمته الّتي غيَّرت مفهوم بطرس للصَّيد، إذ قرَّر هذا الأخير أن يرمي كلّ ما تعلَّمه عن الصَّيد في البحر، ليتمكَّن من اصطياد السَّمك مستندًا إلى كلمة الربّ. استنادًا إلى هذا النَّص، جَرَتْ هذه الحادثة في سفينة بطرس. وبَعْد الصَّيد العجائبيّ لم تتمكَّن هذه السَّفينة وحدها مِن احتواء كميّة السَّمك، فأشار الرُّسل إلى رفقائهم في السَّفينة الأخرى، لمساعدتهم. بحسب قراءتي الخاصّة لهذا النَّص، ترمز السَّفينَتَان إلى العالَم المسيحيّ: فالسَّفينة الأولى ترمز إلى المسيحيِّين من أصل يهوديّ؛ والسَّفينة الثانية، إلى المسيحيِّين من أصلٍ أُمَمِيّ، أي وثنَيِّي الأصل.

إنَّ السَّفينَتَين قد امتلأتا سَمكًا. إنّ كَلمة “سَمك” في اليونانيّة، تَعني “إختيس”، وهي تُشكِّل الحروف الأولى من خمس عباراتٍ يونانيّة إذا جُمِعت، حصلنا على العبارة التّالية: “يسوع المسيح ابن الله المخلِّص”. لذلك، كانت السَّمكة من الرُّموز الأولى للمسيحيّة. وبالتّالي، استنادًا إلى هذا النَّص، يمكننا القول إنّ الربَّ قد طَلبَ إلى تلاميذه أن يصطادوا البشر، ويساعدوهم على الدُّخول إلى السَّفينة الّتي ترمز إلى الكنيسة.

كان بطرس صيَّاد سَمك، أي أنّه كان يَعلَم في أيِّ وقتٍ عليه الذَّهاب إلى البحر لاصطياد السَّمك، ألا وهو في اللَّيل. لذلك، نجد هذا الجواب لبطرس عن كلام يسوع: “يا مُعلِّم، قد تَعِبْنا اللَّيلَ كُلَّه وَلَمْ نَأخُذ شيئًا”، إذ مِن الطَّبيعي أن يتوقَّف الصَّيَّاد عن الصَّيد ويستسلم وييأس، حين يجد أنّه على الرَّغم من كلّ جهده في اللَّيل، لم يتمكَن من اصطياد سَمك. حين وَصل بطرس إلى أقسى درجات اليأس، طَلب إليه الربَّ أن يرمي شبكته للصَّيد، بمعنى آخر، حين يصل الإنسان إلى مرحلة من اليأس يَتدخَّل الربُّ في حياته، ليقول له إنّ الوقت قد حان لِعَمِله الإلهيّ. ما طلبه الربُّ إلى بطرس، كان أمرًا غير منطقيّ بالنِّسبة إلى الصَّيَّادِين، أمرًا لا يستطيع العَقل البشريّ القبول به. إنّ كلمة “منطق”“Logique” وكلمة “الكلمة”“ Logos”، لديهما الجَذْرَ نفسَه في اللُّغة اليونانيّة؛ وبالتّالي، يمكننا الاستنتاج أنّ الكلمة التّي تَصدر عن الإنسان تُعبِّر عن المنطق الّذي ينتهجه في حياته، وهي الجسر الّذي يصل الإنسان بأخيه الإنسان. بحسب الكتاب المقدَّس، خلَق الله الكون كلَّه بكلمةٍ منه، فقال على سبيل الـمِثال: “لِيَكُن نور”، فكان النُّور؛ وبحسب الإنجيل، الربُّ يسوع هو كلمة الله؛ وبالتّالي الربُّ يسوع هو الجِسر الّذي يستخدمه الله الآب لإيصال كلمته إلى البشر.

في هذا النَّص، استخدم الربُّ يسوع مع بطرس الكلمة، إذ قال له: “ابتَعد إلى العمق، وأَلقُوا شباكَكَم للصَّيد”. إنّ الربَّ يسوع هو “الكلمة” وتُتُرجم في الفرنسيّة “Le Verbe”، أي الكلمة الفاعلة. في سِفر إشعيا، يقول لنا الله إنّ كلمته تنطلق منه ولا تعود إليه إلّا بعد أن تكون قد أتمَّت فِعلها في الأرض. إذًا، الكلمة هي جِسرنا نحو الآخر، وهي، أي الكلمة، في الوقت نفسه، تُشبه الله، لأنّ الله خَلق الكون وما فيه بكلمة منه. إنّ الكلمة الّتي يتفوَّه بها الإنسان، تَخلُق صورةً في فِكر المستَمِع، صورةٌ لم تكن موجودة في ذِهنه قَبْل أن يتفوَّه بها الآخَر. إذًا، الكلمة خلّاقة. إنّ الربَّ يسوع بشَّر النَّاس بملكوت الله من خلال الكلمة، فخَلق في أفكارهم، عالـمًا جديدًا، لم يعتادوا عليه مِن قَبِل، وجعل منهم، بقبولهم بتلك الكلمة، خليقةً جديدة. 

هنا يُطرَح السُّؤال: هل يمكننا القول إنّ هناك كلماتٍ صحيحة وأخرى خاطئة؟ بالطَّبع لا، فالكلمة هي كلمة لا تتغيَّر، ولكنَّ الإنسان هو الّذي يجعل من الكلمة فارغة من معناها أو ممتلئة بمعناها. وإليكم مِثالٌ على ذلك: إذا جاء أحدهم لزيارتك وفي يدَيه علبة حلوى، فإنّه للوهلة الأولى يُخيَّل إليك، أنّ في داخله حلويات، ولكنَّك قد تتفاجأ إذا رأيتَها فارغة، وبالتّالي يكون زائرك قد أوهَمك بما هو موجود في داخل العُلبة دون أن يكون ذلك صحيحًا في هذه الحالة. إذًا، الوَهم هو عدم وجود الشَّيء في الحقيقة، على الرُّغم من أنَّ الظَّاهر يجعلنا نعتقد أنّه حقًّا موجود. وبالتّالي، الكلمة الفارغة من معناها، لا وظيفة لها، ويُنظَر إليها على أنّها لم تكن موجودة أصلاً.

إنّ الكِتاب المقدَّس يُطلق على الوَهم اسمًا آخر، هو “الكَذِب”. ليس الكَذِبُ قَوْل شيءٍ خاطئ، بل قَوْل شيءٍ صحيح في الظّاهر ولكنَّه فارغٌ من معناه في المضمون. إنّ الربَّ يسوع قد سمَّى الشَّيطان، “كَذَاب وأبو الكذب”، لأنّه يوهِم المؤمنِين بحقيقةٍ غير موجودة. إنّ مشكلة الإنسان تكمن في تصديق الوَهم الّذي يُخبره به الشيطان، ويسعى إلى العيش في هذا الوَهم، فيَقع في أفخاخ الشِّرير. إنَّ آدمَ كان أوَّل من وَقع في فخِّ الشِّرير، إذ صدَّق كلام الحيّة وَعَمِل به، فأكَل من الشَّجرة الّتي منعه الربُّ من أكلِ ثمرها، لأنّها تؤدِّي به إلى الموت. وهنا يتبادر إلى ذِهننا السُّؤال التّالي: ما الفائدة من خَلقِ الله لتِلك الشَّجرة ما دام الأكلُ منها يؤدِّي إلى الموت؟ إنّ شجرة “معرفة الخير والشَّر”، لا تعني أبدًا أنّ الإنسان يُصبح قادرًا على التمييز بين الخير والشَّر متى أكلَ منها، كما أوهَمت الحيَّة آدم وحوَّاء، بل تعني أنَّ الإنسان متى أكَل منها، يكون قد أقام علاقةً بين الخير والشَّر، ولذلك هو يموت؛ إذ لا يمكن للشَّر، أي الشَّيطان، أن يلتقي مع الخير، أي الله، أبدًا. في الكِتاب المقدَّس،

إنَّ كلمة “معرفة”، تعني إقامة علاقة، بدليل أنّه حين يقول لنا الكِتاب المقدَس، “عَرفَ الرَّجلُ امرأته، فولَدت ابنًا”، فهذا يعني أنّ الرَّجل قد أقام علاقةً مع امرأته، فكانت ثمرتها طِفلاً. إنّ حرف “الواو” في العِبريّة يَعني “مَع”، وبالتّالي شجرة “معرفة الخير والشَّر”، تعني إقامة علاقة بين الخير والشَّر، في آنٍ معًا، ولذا كانت النتيجة موت آدم.

إذًا، إنّ الله لم يُقاصص آدم، ولم يُهدِّده، ولم يُرِد عرقلة مسيرة آدم، بل أَخبرَه مُسبقًا بنتيجة عمله، إذ نبَّهه من أنّ إقامة علاقة بين الله وبين الشِّرير، أو أي كائنٍ آخر، لا بُدَّ لها من أن تفشَل، وبالتّالي على الإنسان الاختيار ما بين الخير أو الشَّر. إذًا، بالعودة إلى النَّص، لم يساوم بطرس الرَّسول معرفته وخبرته واختباراته في الصَّيد، بكلمة الله، فلم يَضعها تحت الاختبار قَبْل تنفيذِها، بل فضّل كلمة الله على كلمته الخاصّة النابعة من المعرفة، فرمى كلّ خبرته في البحر وانصاع إلى كلمة الربّ. لقد تخلَّى بطرس الرَّسول عن منطقه البشريّ لِيَتبَع منطِق الله، منطقٌ مَبنيّ على وَعد الله له، إذ قال بطرس للربّ: “على كَلِمتك أُلقِي الشَّبكة”.

في هذه الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة والإنسانيّة الّتي نعاني منها في هذا البلد، يَسهُل علينا القول للربّ كما قال له بطرس والرُّسل: “يا معلِّم، تَعِبنا اللَّيل كُلَّه ولم نَصطد شيئًا”، بمعنى آخر، لقد تَعِبنا من هذه الأوضاع السوادويّة الّتي نعاني منها في هذا الوطن، ونحن لا نرى بريق أملٍ في المدى القريب، إذ لا حلول تَلوح في الأفق؛ لم يَعد باستطاعَتنا القيام بشيءٍ يَبعثُ فينا الرَّجاء إلّا الجلوس أمام حواسِيبِنا والإصغاء إلى كلمتك المحيِّية الّتي نُصغي إليها اليوم في هذا اللِّقاء. الجميع من حَولِنا، فَقَدوا الرَّجاء في هذا البلد، إذ وَجدوا أنّ لا خلاص لهم في هذا البلد، لذا انكّبوا على البحث عن خلاصٍ لهم خارج هذا الوطن أي في الهجرة. 

إخوتي، لا يمكننا أن نجد حلّاً لما نعيشه إلّا إذا فَعلنا كما فَعل بطرس، وهو أن نرمي بكلِّ ما لدينا في البحر، ونُصغي إلى كلمة الله فهي ضمانتنا الوحيدة، بمعنى آخَر، علينا التخلِّي عن منطِقنا البشريّ واتِّباع منطِق الربّ. وإليكم مِثالٌ مِن ابراهيم أبو المؤمنِين: إنّ ابراهيم ترك كلّ غناه الأرضيّ وعشيرته ليتبَع صوتًا اعتقد أنّه صوت الربِّ، من دون أن يحصل على ضماناتٍ أو براهين على صِدق تلك الكلمة الّتي سِمعها، تركَ كلّ ما يمكنه أن يؤمِّن له الاستقرار والأمان والحياة من أجل تمتمة كلمات سَمِعها من صوتٍ اعتقد أنّه صوت الله.

إنّ ابراهيم كان يملِك جِمالاً كثيرة، وقد تركها كلَّها من أجل اتِّباع الله، وهنا نستطيع أن نفهم كلمة الربِّ في الإنجيل، إنّه لأَسْهَل على الجَمَل أن يدخُل مِن ثِقبِ الإبرَة، مِن أن يدخل غَنيٌّ إلى ملكوت الله. لقد ترك ابراهيم كلّ شيءٍ، من أجل صوتٍ، إذ اعتبر أنّ ما سَمِعَه هو حقيقةٌ محقَّقةٌ من دون الحصول على علامات تؤكِّد صحَّة الكلام الّذي سَمعه. من هنا، نستطيع أن نَفهم قول بولس الرَّسول: “آمن ابراهيم بالله، فَحُسِبَ له ذلك برًّا”. 

والكتاب المقدَّس مليءٌ بالشُّهود أمثال ابراهيم، فيَشوع بن نون أعلَن أمام الشَّعب كُلِّه، أنّه وأَهلُ بيتِه لن يَعبُدوا إلّا الله، تاركًا للآخَرين مِن أبناء شعبه، اختيار الإله الّذي يريدون عبادته. إنّ بطرس، رئيس الرُّسل، قرَّر في هذه الحادثة أن يتبِّع منطق الربّ، فرمى معرفته في البحر، واتبَّع كلمة الربّ، غير أنّه هو نفسه، في يوم اعتقال الربّ، خاف وبدأ يكذب، فأنكَر معرفته بالربّ أمام جارية، جاعلاً من معرفته بالربِّ وَهمًا. إنّ الإنسان الّذي ينبي سلوكه وحياته على كلمة الله الفاعلة، يَصل إلى الملكوت، أمّا مَن يَبني حياته على كلماتٍ بشريّة فارغة من معناها، أي على أوهام، يَصل إلى الهلاك. صحيحٌ أنّ الكثيرين مِنَ الّذين آمنوا بالربّ، استشهدوا في سبيل إيمانهم، ولكنَّهم لم يَصلوا إلى الهلاك، لأنّه بالنِّسبة إليهم، الموت بسبب المسيح هو أُفقٌ جديد، حياة جديدة في الملكوت. ولكن هذا لا يعني أن نطلب الموت لنفوسنا، فالموت يبقى عدوًّا للإنسان.

في هذا الزَّمن، نحن نعيش سِفر الرُّؤيا مِن حيثُ لا نَدري، ولكن هذا لا يعني أنّنا نعيش تحقيقًا لأقوال المنَجِّمين، فسِفر الرّؤيا هو كَشْفٌ للحقيقة من خلال كلمة الله. يُخبرنا سِفر الرؤيا عن مصيرنا، إذا بَقِينا أمينِين وأمناء لله ومؤمِنِين بالله. إنّ سِفر الرؤيا يَضعنا أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا أن نُصدِّق كلمة الله ونرمي كلّ معرفتِنا في البحر؛ وإمّا أن نُصدِّق معرفتِنا البشريّة ونرمي كلمة الله في البحر. في هذه الأيّام الّتي نعيشها، نكاد نفقد الفرح من حياتنا، فنحن نختبر الـمَرح لا الفرح. إنّ الإنسان الـمُزَخَّم من كلمة الله، يتذكَّرها في وقت الصُّعوبات، فتساعده على إعادة النَّظر في الّذي يختبره في وقت الشِّدة. بمعنى آخر، لا يمكن لكلمة الله إلّا أن تكون فاعلة، وخلّاقة لحقيقةٍ واضحة؛ أمّا كلمات البشر فهي حقائق وَهميّة تقودنا إلى الهلاك.

إنّ كلمة “أُحبُّك” قد يقولها رَجُلٍ لفتاةٍ يُحبُّها؛ كما قد يقولها رَجُلٍ لفتاةٍ لا تَجمعه بها إلّا المصلحة الشَّخصيّة: في الحالة الأولى، تكون هذه الكلمة حقيقيّة مليئة بالمعاني؛ أمّا في الحالة الثانية فهي مجرَّد تمتمة كلمات فارغة من معناها. هذا هو الفرق بين المسيح الحقيقيّ والمسيح الدَّجال: إنّ المسيح الحقيقيّ هو الّذي يَنقُل إلينا كلام الله من دون مساومة؛ أمّا المسيح الدَّجال فهو الّذي ينقل إلينا كلامًا في الظّاهر يبدو لنا على أنّه الحقيقة المطلقة، غير أنّه في الحقيقة مجرَّد وَهْمٍ لا يؤدِّي بنا إلّا إلى الهلاك. في ظلّ هذه الظروف الصَّعبة الّتي نعيشها، أصبحنا سَريعي التعلّق بكلِّ ما نسمعه ويمنحنا بعض الأمل. ولكن ليس المطلوب أن يعيش المسيحيّ متمسِّكًا بالأمل، إنّما المطلوب أن يعيش متمسِّكًا بالرَّجاء. 

والفرق كبيرٌ بين الأمل والرَّجاء: الأمل هو وَعدٌ يقطعه الإنسان على نَفسِه، قد يتمكَّن من تحقيقه وقد لا يتمكَّن من تحقيقه، فذلك رَهنٌ بالظروف الّتي تعترضه في حياته؛ أمّا الرَّجاء فهو وَعدٌ يقطعه آخَرٌ للإنسان، فيُصدِّق الإنسان هذا الوَعد، ويعيش وكأنّ هذا الوَعد قد تحقَّق مع كونِه لم يتحقَّق بَعد. إذًا، الأمل هو مرهونٌ بالإنسان نفسه وبظروفه؛ أما الرَّجاء فهو مرهونٌ بتحقيق الآخَر لِما وَعد به أخاه الإنسان. عندما يكون للإنسان رَجاءٌ في شيءٍ ما، فإنّه ينتظر تحقيق هذا الوعد بفرحٍ، حتّى ولو لم يتحقَّق بَعدُ، لأنّه يستند إلى كلمة آخَر. أمّا حين يتأمَّل الإنسان في حصولِ أمرٍ ما، فإنّه يعيش انتظار تحقيق ذاك الحَدَث بِقَلقٍ، لأنّه ينتظر تحقيق هذه الأُمنِيَة المرتبطة به، وبأوضاع النَّاس مِن حَوْلِه، وبالظروف الّتي يعيشها. حِينَ يَضعُ الإنسان رَجاءه في الله، فهذا يعني أنّه يثق بكلمة الله، ويُدرِك أنّ الله لن يَخذُلَه. وهذا ما اختبره بطرس حينَ وَضَع ثقته بالربّ، فألقى شبكته في البحر، بعد أن أصابه اليأس والتَّعب مِن المحاولة طوال اللَّيل من دون نتيجة.

إنَّ وَضْعَ رجائنا بالربّ يتطلَّب منّا معاشرة للإنجيل، فمِن دون الإنجيل تُصبح صلواتنا مجرَّد تمتمة كلمات. وهنا نَطرَح السُّؤال: ما هي الصَّلاة؟ إنّ الصَّلاة هي صِلة، وبالتّالي، عندما نُصلِّي نحن نُقيم علاقة مع الربّ، والعلاقة لا تنجح إلّا بالحديث مع الآخر، فالصَّمت والسُّكوت في التأمُّل لا يَبْنِيان علاقةً مع الربّ. في الصَّلاة، الربُّ يكلِّمنا ونحن نُكلِّمه. إنّ الكلمة هي الّتي تُدخِل السَّلام والطمانينة إلى قلوبنا، أو تجعلنا في حربٍ داخليّة مع ذواتِنا، وفي حالٍ مِن القلق. وفي هذا الإطار، يقول لنا الربُّ: “إنَّ أفكاري ليست كأفكاركم، وطُرقي ليست كطُرقككم، كبُعد الـمَشرِق عن المغرب، هكذا أفكاري بعيدة عن أفكاركم، وطرقي بعيدة عن طرقككم”. واضحٌ كلام الرب، لا مساومة ولا توفيق بين فِكره وفِكر العالم، بل هناك بَتْرٌ لفِكر العالم. وهنا نستطيع أن نفهم كلام الربّ الّذي قال: “ما جئتُ لأُلقي سلامًا، بل جئتُ لأُلقي سيفًا”. إنّ السَّيف يقطع بين الأمور، ويُميِّز بين الحقيقة والوَهم. إنّ السَّلام كما نَفهمه هو اللّاحرب. أمّا السَّلام الّذي أكلِّمكم عليه هو الأُخرويّة، الملكوت الآتي، الّذي يُعطينا إيّاه الله من خلال كلمته.

إنّ كلّ شيء يُبرهَن، يُصبح عِلمًا، ولا يُسمَّى بعد ذلك إيمانًا. الإيمان هو أمرٌ مُبَرهن بالكلمة لا بِنَتيجتها. إنّ كلمة الله تدعونا إلى اتِّباع منطق آخر مختلف عن منطِقنا البشريّ. وبالتّالي، حين نقرأ الإنجيل، علينا أن نسعى كي نُطابق منطِقنا البشريّ مع منطق الإنجيل، لا أن نطابق منطِق الإنجيل على مَنِطقنا البشريّ، فنختار منه ما نشاء، ونرفض ما لا يُناسِبُ أهواءنا. علينا قراءة الإنجيل لمعرفة مشيئة الله لنا، فالإنجيل هو خطابٌ، رسالةٌ موَّجهة إلينا شخصيًّا. وبالتّالي، حتّى ولو كنَّا وَحدنا على هذه الأرض، فإنّ الإنجيل قد كُتِب لنا شخصيًّا، والربُّ يُكلِّمنا من خلاله، لِما فيه خلاصنا. إنّ الإنجيل كُتِب للمسيحيِّين لا للعالَم، لأنّه بَعْد أن قَبِل المسيحيِّون كلمة الله، كان الإنجيل ضرورةً ليُصحِّحوا عقولهم بما يتوافق مع كلمة الله، كي لا يقعوا في فخّ المساومة على كلمة الله، فيُضيِّعونها من جديد.

إنّ الصِلة هي الصَّلاة، والصَّلاة هي الصِلَة بالكلمة الإلهيّة، ويسوع المسيح هو كلمة الله. لذلك إخوتي، تُطرَح علينا الأسئلة التّالية: كيف عسانا نواجه اليأس والتَّعب في حياتنا؟ كيف عسانا نواجه الأُمَم الّتي تُحيط بنا، أي أولئك المسؤولِين عن مصائرنا؟ أنواجههم بالكُفر، والتمرُّد والتَّذمُّر، أم بكلمة الله الفاعلة فينا؟! مِن دون كلمة الله، لا نستطيع أن نُغيِّر شيئًا في محيطِنا. لا يمكننا أن نتوقَّع أن يتغيَّر العالَم من حَولِنا، فالتَّغيير الحقيقيّ يبدأ مِن ذواتنا، فمَتى بدأنا بالتَّغيير في ذواتنا، انعكس ذلك على المحيطِين بنا، ودَفعناهم إلى العمل على تغيير ذواتهم. عندما نشعر بالتَّعب واليأس، علينا أن نُسنِد ذواتنا على مَن يُشارِكنا الهَمَّ نفسَه، أي همَّ كلمة الله. علينا أن نُسنِد ذواتنا إلى مجموعةٍ تشارِكنا الإيمان نفسه، أي على الكنيسة. إنّ كلمة “كَنِيسَة”، تعني “الّذين لبُّوا النِّداء”. إنّ كلمة “كَنِيسة” مشتَّقة من الفِعل العِبريّ “كالِيُو”، والّذي يعني “قالَ”. إنَّ الله هو الّذي يدعو، والمؤمنون هُم الّذين يُلبُّون نِداءه، فيشكِّلون كنيسةً. 

إنَّ بولس الرَّسول يقول في رسائله: “عندما تَجتمعون كنيسةً”، ولا يقول لنا “عندما تجتمعون في الكنيسة”، أي أنّ الكنيسة ليست مكانًا، بل هي اجتماعُ المؤمنِين حول كلمة الله. إنَّ الله قد أرسل إرميا النبيّ للتَّبشير به، فحاول هذا الأخير التحجُّج بالقول لله إنّه لا يزالُ وَلدًا. عندها أمرَه الله بالذَّهاب للبشارة به وعدم الخوف، فيكون وَجهَه كالصَّوان، بالنِّسبة إلى الّذين يسمعون تبشيره بالله. لقد أرسَل الله النبيّ إرميا كي يهدم الأفكار الخاطئة عند النَّاس، لكي يتمكَّن من أن يبني ويغرس فيهم كلمة الله. إنّ رؤيتنا للأمور مِن حولِنا، انطلاقًا من كلمة الله، ستساعدنا على هدم الأصنام فينا، وبالتّالي تقودنا إلى تغيير سلوكنا وطريقة خِدمتِنا للآخَرين. لا يمكننا أن نُعلِّم النَّاس أن يَفتَحوا أيديهم قَبْلَ أن نعلِّمهم أن يَفتَحوا قلوبهم.

إذًا، هناك خَلقٌ جديد في كلمة الله، فالخَلقُ يبدأ بالكَلمة الفعّالة والخلّاقة، لا بالكلمة الوَهميّة. إنّ النَّذر الّذي نُقدِّمه لله، ليس رشوةً له ليُحقِّق لنا رَغباتنا، بل هو تكريس ذواتنا لله، ولكن هذا لا يعني أن نكون جميعًا رهبانًا أو راهباتٍ أو كهنة، إذ إنّ هناك أماكن أخرى يمكننا خدمة الربِّ فيها، غير الدَّير. فالمتزوِّج يخدم الله في عائلته ومجتمعه.

إذًا، أعرض عليكم هذه السَّنة أن نجتهد على نَحتِ كلمة الله فينا، سامِحين لها أن تَنحَتنا من جديد. إنّ كلمة الله هي كمَنجَم الذّهب، تَمنح الإنسان جواهرَ ثمينة أغلى من الذّهب كلّما حَفرَ في داخلها، من دون أن تتطلَّب منه أي ثمنٍ سوى قراءتها. إنّ عمل النَّحت الّذي سنقوم به معًا هذه السَّنة، يتطلَّب جديًّة وتعبًا. مستندين إلى هذا الرَّجاء، سنبدأ بمعالجة نصوصٍ كتابيّةٍ فَنَنحَتَ فيها، لنتمكَّن من إدراك ما هو الخطاب الّذي يوجِّهه إلينا الربّ.

ملاحظة: دُوِّن التّأمّل من قِبَلنا بتصرُّف.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp