تأمّل روحيّ،
الأب ميشال عبود الكرمليّ،
“الحياة الداخليّة”
يتَّفق فلاسفة العصر مع علماء النّفس المعاصرين على أنّ القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين سيكونان قَرنَي الحياة الصُّوفية العميقة، والدَّليل هو انتشار التأمُّلات التَّجاوزيّة في عالمنا كاليوغا وسواها؛ الّذي يعكس عَطشَ النّاس، من النّاحية غير الدِّينيّة. أمّا من النّاحية الدِّينيّة، فنلاحظ هذا العطش أيضًا عند المؤمِنِين من خلال ازدياد فِرَق الصّلاة في الكنائس، ومن خلال النّمو المتزايد في السَّياحة الدِّينيّة، إذ كَثُرَت رحلات السَّفر إلى لورد وفاطيما ومديغورية وسواها من الأماكن الدِّينيّة، والّتي لم تتوّقف أصلاً، حتّى في المراحل التّاريخيّة الّتي اتَّصفت بعدم الإيمان.
إنَّ هذا التوجُّه عند النّاس نحو الحياة الصوفيّة يعود إلى أنّ ما يتوق إليه الإنسان، لم يَعُد بعيدًا عنه كما كان يعتقد في السّابق، إذ أصبح بإمكانه الوصول إليه. لقد أصبح الإنسان، بطريقةٍ أو بأخرى عَبدًا للتِّكنولوجيا، بِكُلِّ ما للكلمةِ من مِعنى. إنَّ العَبد هو الإنسان الّذي عليه طاعة سيِّده وتنفيذ أوامره. لقد أصبحت حياتُنا اليوم مرتبطةً بالتِّكنولوجيا بشكلٍ وثيق، إذ يَعجز الإنسان عن القيام بأيِّ عَملٍ من دون العودة إلى التِّكنولوجيا؛ حتّى بات الابتعاد عنها صَعبًا جدًّا. من هنا، تظهر أهميّة الكلام عن الحياة الدّاخليّة، الّتي تفرض على الإنسان قيامَه بِوَقفةٍ مع ذاته.
إنّ سُقراط، الّذي عاش قَبْل المسيح بألفِ سَنة، بنى فلسفته على عبارةٍ قَرأها في مَعبَد “زَفس”، وهي: “أيّها الإنسان إعرَف نفسَك بِنَفسِك”. وهنا يُطرَح السّؤال: هل يَعرِف الإنسان نفسَه، هو الّذي يسعى إلى اكتشاف ما هو بَعيدٌ عنه، كالمجرّات وسواها من موجودات هذا العالم؟
إذًا، إنَّ المطلوب من الإنسان هو أن يَعرِف ذاته أوَّلاً، فيكتشِفها من خلال تفاعُلِه مع المجتمع من حولِه.كي يتمكَّن الإنسان من إكتشاف هويّته، عليه أوَّلاً أنْ يجد الإجابة عن السُّؤال التّالي: “مَن أنا؟”. إنَّ الإنسان هو مخلوقٌ بين يَدي الله؛ فإنْ كان الإنسان مؤمِنًا بالله، أدرَك أنَّه مخلوقٌ صالِحٌ، إذ إنّ الله لا يَخلُق إلّا ما هو صالِحٌ. من النّاحية الفَلسَفيّة والنَّفسيّة، إنَّ الإنسان مختَلِفٌ عن كلَّ المخلوقات، إذ إنّه قادرٌ على الاختراع والتطوُّر، وهذا ما لا يستطيع أيُّ مخلوقٍ آخر القيام به. في دراستِنا لحضارات الشَّرق الأوسَط، نُدرِك أنَّ الإنسان كان موجودًا على مدى العصور الغابرة من خلال الرُّسومات المنقوشَة على الجُدران، الّتي تُعبِّر عن اختبارات الإنسان في حياته الأرضيّة.
كانت الكنيسة منفتحة على الدَّوام على نظريّة التَّطوُّر الإنسانيّ. عندما نُسِب إلى داروين قولَه إنَّ الإنسان أصلُه قِردٌ، طرَح أحد الفلاسِفة السّؤال التّالي: إذا كان صحيحًا أنَّ الإنسان أصلُه قِردٌ، فَفِي أيَّة مرحلةٍ من مراحل التَّطوُّر البشريّ نال الإنسانُ العقلَ الّذي يتميَز به عن سائر المخلوقات؟ بمعنى آخر: ما هو التطوُّر الّذي قام به الإنسان وأدَّى إلى اكتسابه عَقلاً بشريًّا؟ إنَّ الإنسان هو كائنٌ يفكِّر في الـمَدى البَعيد، أي أنَّه يستطيع التفكير في المستقبل، إذ يبحث عمّا يدفعه إلى التطوُّر، وهذا ما يساهم في اكتشافه لِهويّته الإنسانيّة.
أنا أؤمن بالله، وبالتّالي في محاولةٍ للإجابة عن السُّؤال: “مَن أنا؟”، نجد أنَّ الله حاضرٌ في الإنسان ويسكن فيه. وفي هذا الإطار، يُخبرنا القدِّيس أوغسطينوس، اللّاهوتي والفيلسوف، عن خِبرَته الحياتيّة، فيقول لنا إنَّه بَحَث عن الله في كلِّ مكان: في الكُتُب وفي جمال الطَّبيعة وفي سِواها، ولكنّه لم يَجِده فيها، بل وَجده في داخله، إذ إنَّ الله يسكن في أعماق الإنسان. إنَّ حضور الله في الإنسان هو حضور الخالِق. إنَّ القدِّيسة تريزيا الأفيليّة تُكلِّمنا على أهميّة الدُّخول إلى الذَّات، إذ اعتَبَرَتْ أنَّ النَّفسَ الإنسانيّة هي عبارةٌ عن “قَصرٍ” على المؤمن دُخوله، لِيتمكَّن من لقاء الله ومن اكتشاف ذاته الحقيقيّة.
ولكنَّ الإنسان لا يستطيع الدُّخول إلى هذا القَصر إلّا بعد اجتيازه حديقة القصر الّتي تضمُّ كلابًا تَنبح، أوَّلاً، ثمّ بوابة القصر الّتي يحميها حُرَّاس القصر. في القصر غُرفٌ كثيرة، والله يسكن في إحداها، وبالتّالي لا يستطيع المؤمِن لقاء الله إلّا بعد تفتيشه جميع غُرَف القَصِر. إذًا، على الإنسان أوَّلاً اكتشاف مكان القَصر، والانطلاق نحوه، ثمَّ اجتياز الكلاب الّتي تنبح على مدخل حديقة القصر وهي ترمز إلى أفكارنا الّتي تمنعنا من لقاء الله، وعبور البوابة الّتي يحرسها حرَّاسٌ يرمزون إلى كُلِّ صديقٍ إلتقيناه في حياتنا وكان هدَفه مساعدتنا على الوصول إلى الله. عند دخوله القصر، على الإنسان أوَّلاً أن يُفتِّش عن الله في كلّ غرفةٍ من غُرف القصر حتّى يجده، عِوضَ الالتهاء بمشاهدة جمال القصر، كي لا تنتهي حياته الأرضيّة قَبْلَ تمكُّنه من رؤية الـمَلِك، أي الله.
إنَّ الله موجودٌ في داخِلنا؛ وفي طريقِنا صوبه، تعتَرِضنا كلابٌ تَنبح ترمز إلى أفكار الإنسان، الّتي تُقسَم إلى قِسمَين: أفكارٌ مرتبطة بالـمُخَيِّلة، وأفكارٌ مرتبطةٌ بالذَّاكِرة الإنسانيّة. عند دخوله إلى هذا القَصر، على الإنسان التركيز على حاضِره، بدلاً من التّركيز على ذاكِرته ومخيِّلته، ليتمكَّن من مواجهة “الكلاب” الموجودة عند باب هذا “القَصِر”، لا الخوف منها وبالتّالي الهروب منها. عندما ينجح الإنسان في التغلُّب على أفكاره الَّتي تمنعه من لقاء الله، يستطيع الإنسان الوصول إلى بوابة القصر الّتي يحميها أصدقاءٌ هَدفهم مساعدتنا على لقاء الله، إذ يساهمون في وصولِنا إلى الرَّاحة النفسيّة وبالتّالي العيش بسعادة لا تزول لأنّها نابعة من الله.
إنَّ شعور الإنسان بالرَّاحة النفسيّة لا تعني بالضَّرورة لِقاءه بالـمَلِك، أي الله، إذ يُقدِّم العالَم للإنسان أمورًا قادرة على منحه الرَّاحة النفسيّة كالرياضة وممارسة التأمُّلات التجاوزيّة أو تَناولِه بعض الأدوية المخصَّصة لذلك. عند دخول الإنسان إلى هذا القَصِر، سيتمكَّن من إيجاد الله ورؤيته ولكنَّه لن يتمكَّن من الإمساك به. في هذا الإطار، يقول لنا القدِّيس أوغسطينوس: “لو كُنّا نَعرِفه، لَما كانَ الله”، وهذا ما قُمتُ بتَرجمتِه في الترتيلة الّتي كَتَبتُها في أثناء قِيامي باختبارٍ نُسكيّ، قائمٍ على الصَّمتِ التَّام، بعنوان: “أيُّ نشيدٍ لكَ عِندي”، إذ قُلتُ فيها:”أريدُكَ لِقَلبيَ ربًّا لا كَضَيفِ وَهْمٍ يَمرُّ”.
إنَّ الحياة الدَّاخليّة هي الجُلوس مع الذّات، وبالتَّالي على الإنسان السَّعي إلى اختيار مكانٍ وتحديد وقتٍ يكرِّسه للجلوس مع ذاته وعَدم تَرك الأمر لِسَجيّته، لأنّه في تلك الحالة، لن يجد الإنسان وقتًا مناسبًا لِذلك. عندما يجد الإنسان الوقت والمكان المناسِبَين لجلوسه مع ذاته، عليه أن يَضعَ ذاته بين يَدي الله، إذ سَتُواجِهُه في هذا الوقت مجموعةٌ من الأفكار تُلهيه عن الجلوس مع ذاته، كَشُعوره بالعَطش والجوع وسواهما من الأمور الأرضيّة. في الرِّياضات الرُّوحيّة، أطلب من المؤمِنِين المشارِكين في الرِّياضة القيام بالاختبار التَّالي: تدوين ما شاهدوه وسمعوه على وسائل التَّواصل الاجتماعيّ في الفترة الأخيرة.
بعد قيامِي بهذا الاختبار مع عدَّة مجموعاتٍ، لاحظتُ أنَّ المؤمنِين يعجزون عن تدوين كلَّ ما رأوه وسمعوه مؤخَّرًا على وسائل التَّواصل الاجتماعيّ، وهذا يشير إلى أنَّ أذهانهم لا تستطيع تَذَكُّر إلّا القليل القليل ممّا شاهدوه ورأوه وسمعوه. إنّ ما يبقى في أذهاننا يُشكِّل ثقافتنا. يُخبرون أنّ المعالج النفسيّ الشَّهير “يونغ” قد ألغى موعدًا مع أحد مرضاه، عندما تَذكَّر أنّه عليه الجلوس مع ذاته. وفي هذا الإطار، يقول لنا آباء الكنيسة: “اليوم الّذي لا تجلس فيه مع ذاتك، لا تَحسبِه من أيّامِ حياتك”.
أمّا الآن، وبعد معالجتنا السُّؤال:”مَن أنا؟”، ننتقل إلى الإجابة عن سؤالٍ آخر: “أين أعيش؟”. أنا أعيش في مجتمعٍ ولستُ بِمفرَدي. في المجتمع، يتعرَّض الإنسان للكثير من الاختبارات الّتي قد تؤثِّر فيه. إنَّ المجتمع نوعان: المجتمع الوَهميّ والمجتمَع الحقيقيّ. إنَّ المجتمع الوَهميّ هو مُجتمَعٌ افتراضيّ بَنَته وسائل التَّواصل الإجتماعيّ. في هذا المجتمع، يُعبِّر الأشخاص عن أفكارهم وأرائهم بالآخَرين، ولكنَّهم لا يَجرؤون على التَّعبير عن أرائهم هذه في الحياة الواقعيّة. وفي هذا الإطار، نتذكَّر قول أحد المفكِّرين: “الويل لي إنْ قُلتُ كُلَّ ما أقدِرُ على قَولِه”.
فعلى سبيل الـمِثال: في بعض الأحيان، قد يسمح الإنسان لِنَفسِه بالإساءة إلى والِدَيه، إذ يُدرِك أنَّ والِدَيه سيستمرّان في محبَّتهما له، مهما فَعلَ أو مهما قال. أمّا المجتمع الحقيقيّ، فيَعكس حقيقة تصرُّف الإنسان مع الآخَرين. لذا، على الإنسان الجلوس مع ذاته بشكلٍ متكرِّر ولِمُدَّةٍ زمنيّة محدَّدة، على سبيل الـمِثال عشر دقائق، ليُحاسِبَ ذاته على أعماله الّتي قام بها. مِن البديهيّ أنَّ هذه الدقائق العَشر لن تكون كافية للإنسان للجلوس مع ذاته، خصوصًا أنَّه ستتبادر إلى ذهنه في تلك الـمُدَّة القصيرة كلُّ الأفكار الَّتي تقوده إلى التشتُّت وتمنَعُه من الجلوس مع ذاته. لذا، على الإنسان أن يكون كالمسمار الّذي لا يدخل في الخشبة بسهولة، ولكن متى دَخل فيها أصبح من الصَّعب اقتلاعه، فالإنسان قد يجد في بادئ الأمر صعوبةً في الجلوس مع ذاته ولكن متى اعتاد على ذلك، أصبح من السَّهل عليه محاسبة ذاته، وترتيب أمور حياته في وقت الصَّلاة. إنَّ الأشخاص الّذين اعتادوا على الجلوس مع ذواتهم، هم أشخاص سريعي البديهة، إذ تمكَّنوا خلال هذا الوقت من اكتشاف ذواتهم على حقيقتها. إنَّ الجلوس مع الذّات المتكرِّر يساعدنا على تحديد مشاكِلنا الخاصّة والعمل على إيجاد الحلول المناسِبة لها. عندما تواجهنا الصُّعوبات الحياتيّة، نسارع إلى طلب الإرشاد من الكهنة، في حين أنَّ الخطوة الأساسيّة نحو حلّ المشاكل هو الجلوس مع الذّات.
في هذا الإطار، قال ماسنجر: “بداية الدَّواء معرفة الدَّاء”. إذًا، نحن مدعوّون للجلوس يوميًّا مع الذّات، ولكنّ الأهمّ أن تكون جلسَتنا تلك في حضرة الله، فالله هو الرَّفيق والصَّديق، هو الخالِق والمخَلِّص، هو الّذي قال لنا إنَّه لو نَسِيَت الأمُّ رَضيعها، فأنا الربُّ إلهَك لا أنساك، إذ طَبَعتُ اسمَك على كَفِّي، كي أتذكَّرك على الدَّوام، أنا بالقرب منك أيّها الإنسان. وبالتّالي، للإنسان مكانُ راحةٍ في قلب الله. إنَّ مكان الرَّاحة يختبره الإنسان في حياته الخاصَّة حين يفرح بلقاء بعض الأشخاص، بينما يتجَّنب لقاء البعض الآخَر. وبالتّالي، حين يُدرك الإنسان أنَّ الله يفرح بحضوره، يشعر الإنسان بالرَّاحة، وعندها لن يتردَّد في وَضعِ كلِّ مشاكِله تحت نظر الله، فيُدرِك الإنسان مشيئة الله في حياته. حين كانت الحياة الرُّوحيّة حياةً متصنِّعة، اعتقَدَ المؤمنون أنَّ الله يعمل بدلاً مِنهم، لأنَّهم كانوا يعتقدون أنّ الله سيَحِلُّ لهم مشاكلهم الناتجة عن تقصيرهم من دون أيِّ جُهدٍ منهم.
إنَّ الله لا يستطيع التدخُّل في حلِّ مشاكل الإنسان الناتجة عن تقصيره، لأنّه في هذه الحالة يفقد الإنسان إنسانيّته. هذا ما يحتاج إليه إنساننا اليوم في هذا العصر: أن يدخل إلى ذاته، أي إلى اختبار الحياة الدَّاخليّة، وهذا الدُّخول إلى الذّات لا يكون مرَّة واحدة في الحياة بل هي مسيرة يوميَّة على الإنسان السَّير فيها. من هنا، تظهر ضرورة الدُّخول إلى غرفتنا الدّاخليّة وتوضيبها وإعادة كلَّ شيءٍ إلى مكانه، وهذا ما يمنح بعض النَّاس سُرعة البديهة بسبب تفكيرهم في الأمور قَبْل تعرُّضِهم لها. إنَّ الحياة تَمرُّ سريعًا، في هذا الإطار، يُخبرون عن كُرَتَيْن من الزُّجاج تتدحرجان من أعلى الجبل إلى أسفَلِه، إلّا أنَّ واحدةً منهما ارتطمت بحجرٍ وانكسرت، فتوقَّفت عن متابعة مسيرتها نحو أسفل الجبل، وما إنْ نظرت إلى ذاتها، حتَّى وَجدت نفسها شفافَّة فتمكَّنت من رؤية الوادي وجمال الطبيعة المحيطة بها، في حين أنَّها لم تتمكَّن من رؤية ذلك قبل أن تنكسر. كذلك الإنسان الّذي يعيش حياته في عَجَلةٍ، لا يستطيع أن يعرف جمال الحياة، فهناك أشخاص لم يعرفوا جمال الحياة إلّا بعد أن علّمتهم الحياة دَرسًا. وهنا نتساءل: لماذا ننتظر أن تُوجِعنا الحياة كي نعرف قيمتها وقيمَتنا الذَّاتيّة؟
إعرَفْ قيمة ذاتك وقيمة الحياة، قبل أن تتعرّض لأوجاع الحياة، فتكون مستعدًّا لمواجهة الآلام عندما تتعرَّض لها.
ملاحظة: دُوِّن التأمّل بأمانةٍ من قِبلنا.