تأمّل إنجيليّ،
الأب ابراهيم سعد،
“المعثرة والغفران والمسامحة” (لو 17: 1-7)
النّص الإنجيليّ،
“وقال يسوع لتلاميذه: لا يُمكِن إلّا أن تأتي العَثرات، ولكنْ وَيلٌ للّذي تأتي بواسِطته. خيرٌ لَه لو طُوِّقَ عُنُقُه بِحجرِ رَحى وَطُرِح في البَحر، مِن أن يُعْثِر أحدُ هؤلاء الصِّغار. احتَرِزوا لأنفسِكُم. وإنْ أخطَأ إليكَ أَخوك فَوَبِّخه، وإنْ تابَ فاغْفِرْ لَهُ. وإنْ أخَطأ إليكَ سَبْعَ مرَّاتٍ في اليوم، ورَجِع إليكَ سَبْعَ مرّاتٍ قائلاً: أنا تائبٌ، فاغْفِرْ لَهُ. وقال الرُّسُلُ للربِّ: “زِدْ إيمانَنا”. فقالَ الربُّ: لَو كانْ لَكُم إيمانٌ مِثْلَ حَبَّةِ خَردَلْ، لَكُنْتُم تقولون لِهَذه الجُميَّزة: انقَلِعِي وانْغَرِسي في البحر، فتُطيعُكم”.
التّأمّل في النّص الإنجيليّ،
إنّ هذا النَّص الّذي تُلِيَ على مسامِعنا، يَضع المؤمِن أمام صعوبةٍ لا تكمن في تَفسير هذا النَّص، إنّما في قبولِ المؤمِن ما جاء في هذا النَّصّ والسَّعي إلى تطبيقِه في حياته اليوميّة. فالمؤمِن الّذي يُعِلن قبولَه المسيح في حياته، لا يستطيع انتقاء نُصوصٍ مِن الإنجيل تَتنَاسَب مع مَصالحِه الخاصّة وقبولِها من جِهةٍ، ورَفضِ القِسْم الآخَر من الإنجيل الّذي لا يتوافق مع مصالحه من جهة أخرى، بل عَليه قبولَ كلِّ النُّصوص الإنجيليّة والسَّعي إلى عيشِها. إنّ هذا النَّص، كما كلّ النُّصوص الإنجيليّة، يَضع المؤمِنُ أمام تحدٍّ جديدٍ، يَدفعه إلى اتِّخاذ مَوقفٍ مِنه. إنّ هَدف النُّصوص الإنجيليّة هو حَثُّ المؤمنِين على التَّغيير على المستويات: الذهنيّة، الفِكريّة، الوِجدانيّة، السُّلوكيّة والرُّوحيّة.
“وقال (يسوع) لتلاميذه: لا يُمكِن إلّا أن تأتي العَثرات، ولكنْ وَيلٌ للّذي تأتي بواسِطته”: إنّ العَثَرة هي فَخّ يُوضَع في طريق الإنسان، يَمنعُه، إذا وَقَع فيه، مِن إكمال مسيرته نحو الهَدَف المنشود. إنّ هَدَف المؤمنِين بالربّ في مَسيرَتِهم الأرضيّة هو الوصول إلى الربِّ ولِقائِه. إذًا، يقول لنا الربّ يسوع في هذا النَّص: الوَيلُ لِمَن يُعرِقلُ مسيرة إخوته البشر في مسيرتِهم نحو الربِّ. إنّ مشكلةَ الرُّسلِ تَكمُن في إعطاء الربِّ لهم مفاتيح السّماء: فالحصول على مفاتيح السّماء لا يُشكِّل امتيازًا للرُّسل على سائر المؤمنِين، إنّما هو مسؤوليّة تُعطى لهم سيُحاسَبون عليها في اليوم الأخير. أنْ يَفتَح الرُّسلُ أبوابَ السّماء أو أن يُغلِقوها أمام الآخَرين، لا يرتبط بِمَزاج الرُّسل بل بِرِسالتِهم على الأرض الّتي قَبِلوا بها حين قَبِلوا المسيح. فعندما يُصبح الإنسان مؤمِنًا بالربّ، يُصبح عبدًا له طوعًا، أي خادمًا له بإرادتِه.
وبالتّالي، يَترتَّب على المؤمِن حَثُّ الآخَرين على التَقرُّب مِن الله، بِمَعنى آخَر فَتْحُ أبواب السّماء لَهم ليتمكَّنوا مِن الوصول إلى الملكوت. إذًا، مَن يسعى إلى عرقلة وصول المؤمنِين إلى الملكوت، يَجلِب على نَفسِه دينونةً، لأنّ هذا الأخير يتحوَّل إلى عَدُوٍّ لله، أي إلى شيطانٍ. إنّ دَور الشَّيطان يقوم على عرقلة مسيرة المؤمِن نحو الله، فيمنعه من الوصول إليه، مِن خلال وَضع العثراث في طريق المؤمِن. وبالتّالي، حين يُعرِقل المؤمِن مسيرة أخيه الإنسان نحو الله، يتصرَّف كما يتصرَّف الشَّيطان مع البشر.
“خَيرٌ لَه لو طُوِّقَ عُنُقُه بِحَجرِ رَحى وَطُرِح في البَحر، مِن أن يُعْثِر أحدُ هؤلاء الصِّغار”: عندما يَقصِد المؤمِنُ أو يسعى إلى وَضعِ العثرات في طريق أخيه في مَسيرة هذا الأخير نحو الله، يقول له الربُّ إنّه مِن الأفضلِ أن يُعلَّق في عُنُقِ هذا الإنسان حجَرُ الرَّحى ويُطرَحَ في البَحر. إنّ حَجَرَ الرَّحى هو حَجرٌ صخريّ كبير يَصعب تَفتِيتُه، وهو يُستَخدم في الـمَطحَنة أو في الـمَعصرة. عندما يُعلَّقُ هذا الحجر في عُنقِ الإنسان ويُرمى في البحر، لن يتمكَّن هذا الأخير مِن النَّجاة، بل سيَغرَق ويموت ولن يَبقى له أثَرٌ. وفي هذا الإطار، يُخبرنا سِفر الرُّؤيا أنّ الربَّ سينتصر على الشَّيطان في المعركة الأخيرة بَينَهما، وسَيُبيدُه فيَفقِدُ هذا الأخير فعاليّتـه وسُلطَته على البشر.
“احترِزوا لأنفُسِكم”: على المؤمِن الانتباه لِكُلِّ عملٍ يقوم به، وعدم اللُّجوء إلى حُجَجٍ واهيةٍ للتهرُّب مِن مسؤوليّته. في هذا الإطار، نتذكَّر قولَ بولس الرَّسول إلى أهل كورنثوس الّذي دعاهم إلى الانتباه لأعمالهم لأنّ كُلَّ عملٍ غير صالحٍ سيُحرَق في اليوم الأخير، كالقَشِّ في النّار. يأتي هذا النَّص الّذي قرأناه معًا، في إنجيل لوقا، مباشرةً بَعدَ نَصِّ مَثَل الغنيّ ولعازر، الّذي فيه يُخبرنا الإنجيليّ لوقا عن امتناع الغنيّ عن إعطاء الطَّعام لِلِعازَر الجائع والمطروح عند باب بيته. مِن خلال تصرُّفه مع لعازر، أخبرَ الغنيّ لِعازر بطريقةٍ غير مباشرة، أنّ الله عاجزٌ عن الاهتمام به، إذ لم يلتَفِت أحدٌ من البشر إلى لعازر لِمُساعدته على سدِّ جوعه، في حين أنّ الكلاب التَفَتَتْ إليه فلحَسَتْ جروحَه. إنّ الغنيّ لا يُمكِنُه تبرير نفسِه أمام الله في اليوم الأخير بالقول إنّه لم يتعرَّض بالأذيّة لهذا الإنسان الجائع، لينال الملكوت، فهذا الغنيّ لم يَقُم بأيِّ عملٍ يساعد الفقير لِعازَر على اكتشاف عظمة محبّة الله له واهتمامه به.
إنّ كُلَّ واحدٍ منّا هو أداةٌ يستخدمها الله لإيصال رسالةٍ معيّنة إلى الإنسان المحتاج، فإذا تَقاعسْنا عن القيام بِهَذه الـمَهمَّة أو رَفضناها، كُنّا سببًا يَمنَعُ المحتاج من رؤية عناية الله له. وفي هذا الإطار، يقول لنا الربُّ في العهد القديم، على لسان أنبيائه: “يرعى الرُّعاة أنفسهم وغَنمي لا يرعونها” (حزقيال 34: 8) . إنَّ الربّ استخَدم عبارة “غَنَمي”، لا “غَنَمهم”، أي أنّ القطيعَ هو خاصَّةُ الربِّ لا الرُّعاة، فالرُّعاة ما هُم إلّا وُكلاء اختارَهم الربُّ لرعاية المؤمِنِين به، ومساعدتِهم على الوصول إلى الله.
“وإنْ أخطَأ إليكَ أَخوك فَوَبِّخه، وإنْ تابَ فاغْفِرْ لَهُ”: أمام هذا الكلام، نَطرَح السُّؤال: ماذا لو غَفرْنا للآخَر، وأعادَ هذا الأخير الكَرَّة، فأخطأ إلينا من جديد؟ في هذا النَّص، يَطلُب إلينا الربُّ أنْ نُوبِّخ الآخَر على أذيّته؛ والتَّوبيخ يقوم على مساعدة الآخَر على تصحيح مساره في طريقه نحو الربّ. ولكنّ السُّؤال هو: ماذا لو كان الآخَرُ غَيرَ متجاوبٍ مع تَوبيخِنا له؟ إنّ الربَّ يدعونا إلى التَّسلُّح بالمحبّة لأنّ المحبّة، بِحَسب قولِ بولس الرَّسول: “لا تفرحُ بالظُّلم، بل تَفرَحُ بالحَقّ. وهي تَعذرُ كلّ شيءٍ وتُصدِّقُ كلَّ شيءٍ وتَرجو كلَّ شيءٍ وتتحمَّل كلّ شيءٍ.” (1كور 13: 6-7)
“وإنْ تابَ فاغفِر لَهُ”: استخدمَ الكاتبُ عِبارةَ “إنْ تابَ”، لا عبارةَ “إنْ نَدِمَ”، لأنَّ فِعْلَ “تابَ”، هو فِعلٌ عِبريّ الأصل، يعني “رَجِعَ”، والتَّوبة هي عودة الإنسان إلى الله لا إلى أخيه الإنسان. بالنِّسبة إلى الله، مَن يُخطئ إلى أخيه الإنسان، فَقَد خَطِئ أمام الله. في اللُّغة اليونانيّة، إنَّ عبارةَ “تَوبَة”، تعني تغيير الّذهِن، أي تغيير الإنسان مسارَه، والسَّير في مَسارٍ معاكِسٍ للمَسار الأوّل الّذي كان يسير فيه. عندما يُخطئ الإنسان فإنَّه يَترُك اللهَ؛ وعندما يَتوب الإنسان، فإنَّه يَعودُ إلى الله. إذًا، في هذا النَّص، يدعونا الربُّ يسوع إلى الغفران لإخوتِنا الّذين أساؤوا إلينا، مَتى تابوا إلى الله. حين يتوب الإنسانُ إلى الله، يَغفر له الله خطاياه، وبالتّالي لا يمكننا أن نَطلُبَ إلى الله أن يَغِفِر لنا عندما نتوب إليه، ونحن لا نغفر لإخوتِنا عندما يتوبون إلى الله.
“وإنْ أخَطأ إليكَ سَبْعَ مرَّاتٍ في اليوم، ورَجِع إليكَ سَبْع مرّاتٍ قائلاً: أنا تائبٌ، فاغْفِرْ لَهُ”: إنّ هذه الآية تُعطينا الجواب الكافي عن السُّؤال: كم مَرَّةً علينا أن نغفر لإخوتنا؟ إنّ الرَّقم سَبْعَة هو رَقمٌ يُشير إلى الكمال، وبالتّالي الرَّقم سبعة لا يعني رَقمًا عدديًا بل رَقمًا غير محدودٍ. إذًا، ما أرادَ الربُّ قولَه لنا من خلال هذا الكلام هو أنّه بَعد ارتكاب الآخَر خَطأً تجاهَنا، علينا أن نوبِّخه، أي أن نُساعدَه على تصحيح مسارِه، وأن نَغفر له كُلَّما تاب إلى الله. إنّ مؤمنِين كثيرين يعتقدون أنّه عليهم التقرُّب مِن سرّ التَّوبة كي ينالوا مغفرة الربّ لخطاياهم. إنَّ هذا الاعتقاد مغلوطٌ بَعضَ الشَّيء، لأنّ الإنسان لا يَتقرَّب مِن سرّ التَّوبة لينال غفرانَ الربِّ على خطاياه، لأنّ الربَّ قد سَبَق وغَفرَ له خطاياه. وهنا يُطرَح السُّؤال: ما نَفعُ الاعتراف إذًا؟ إنّ الاعتراف بالخطايا أمرٌ ضروريّ، لأنَّ المؤمن، في ذِكر خطاياه أمام الكاهن، يُعلِن نُكرانَه للآلهة الوثنيّة الّتي كان يخضع لها والـمُتمثِّلة بخطاياه، لِيُعلِن عن قبولِه مِن جديد بِرُبوبيّة يسوع عليه.
في تَقرُّبنا مِن سرّ التَّوبة، نُعبِّر عن رَغبتنا العميقة في فَتحِ عهدٍ جديدٍ مع الله، وقبولِنا أُبوتَّه لنا. إنّ سرّ التَّوبة هو اعتماد المؤمنِ مرّةً جديدة بطريقة مختلفة عن المعموديّة الأولى، الّتي لا يمكن للمؤمِن اقتبالها إلّا مرَّة واحدة في حياته. في المعموديّة الأولى، يَرفُضُ المؤمِنُ خُضوعَه للشَّيطان، ويُعلِن قبولَه بالربِّ يسوع سيِّدًا عليه، فَيَسكبُ الكاهنُ المياهَ على رأسِ المعمَّد في جرن المعموديّة، علامةً على التزام هذا الأخير بالربّ. أمّا في سرّ التَوبة، فيُعلِن المؤمِن عن رَفضِه للشَّيطان مِن خلال ذِكر خطاياه، وقبوله بالربِّ يسوع إلهًا وَرَبًّا، فيَسكُبَ المؤمِن دُموعَ التَّوبة، الّتي تُشكِّل مياهَ معموديّته الجديدة. إنّ المؤمِن يَتقدَّمُ مِن سِرِّ التَّوبة وهو على يَقين أنَّ الربَّ غَفَرَ له خطاياه.
وهنا يُطرَح السُؤال: كيف عسانا نزرع هذا اليَقين في نفوس الآخَرين الّذين أخطأوا إلينا، وقد تابوا بعد ذلك إلى الله؟ نستطيع ذلك مِن خلال غفرانِنا لهم، لأنَّه إنْ لم نَغفِر لهم، نَكون سببَ عَثرةٍ لهم تَمنعهم من التّوبة، أي من العودة إلى الله، إذ سيَعتقد هؤلاء الخطأة أنَّه لا أملَ لَهم في الحصولِ على الغفرانِ من الله. وبالتّالي، بِعَدم غفرانِنا للآخَرين، نُصبح أعداءً لله، إذ قُمنا بِزرع أفكارٍ خاطئةٍ عن الله، أفكارٍ معاكسةٍ لِتَعاليمِ الإنجيلِ، في نفوس هؤلاء الرّاغِبِين في التَّوبة، مِن خلال كلامِنا وتَصرُّفاتنا معهم. إنّ الله أعطانا صلاحيّة الغفران للآخَرين لا صلاحيّة إدانتهم، فَهو، أي الربّ، قد علَّمنا الغفران بِغُفرانِه لنا خطايانا. لا يَحقُّ لنا أن ندين الآخَرين، لأنّنا لا نمتلِكُ الرَّحمةَ الإلهيّة، فالدَّينونة هي سُلطَةٌ إلهيّةٌ مُطلَقَة.
قال الرُّسل للربّ: “زِد إيماننا”: هذه العبارة تُظهِر لنا اكتشاف الرُّسل عدم إيمانهم بالربّ، لأنَّ الربَّ يُضيف فيما بَعد فيقول لهم: “لَو كان لَكُم إيمانٌ مِثْلَ حَبَّةِ خَردَلْ، لَكُنتُم تقولون لِهَذه الجُميَّزة: انقَلِعِي وانْغَرِسي في البحر، فتُطيعُكم”. إذًا، بحسَب قولِ الربِّ يسوع في هذا النَّص، عندما يكون للإنسان إيمانٌ بالربّ مِقدار حبّة الخردل، فهو يستطيع نَقل الجميَّزة مِن مكانٍ إلى آخر، أو الجبلَ مِن مكانٍ إلى آخَر، كما وَرَد في إنجيل متّى. إنَّ حبّة الخردل تتميَّز عن سائر الحبوب بأنّها الأصغر بَينَها جميعًا، كما تتميَّز بِطَعمِها الـمُرّ.
فكما أنّ الإنسان لا يستطيع إخفاء المرارة الّتي يشعر بها حين يتناول حَبّة الخردل، كذلك لا يستطيع المؤمِن أن يُخفي إيمانه بالربّ، لأنّ إيمانه سيَظهر للآخَرين مِن خلال كلِّ عملٍ يقوم به مَعَهم. إنّ الجميَّزة في إنجيل لوقا لها أهميّة كبرى: فهو قد كلَّمنا عن الجميَّزة لا في هذا النَّص وحسَب، بل أيضًا في نَصِّ زكَّا العشَّار، فأخبرنا الإنجيليّ لوقا أنَّ زكَّا قد تسلَّق جُمَيَّزةً لِيَتمكَّن هذا الأخير مِن رؤية الربِّ يسوع. أمّا في إنجيل متّى، فيُكلِّمنا الإنجيليّ عن قُدرة المؤمِن بالربّ على نَقلِ جَبلٍ مِن مكانٍ إلى آخَر، والجَبل في العهد القديم كان مكان ظهور الربّ على الأنبياء.
وبالتّالي، حين يؤمِن الإنسان بالربّ، يستطيع أن يَنقُلَ الجبل مِن مكانٍ إلى آخَر، أي أنّه يستطيع أن يَنقُل المؤمِنُ اللهَ مِن مكانٍ إلى آخَر؛ بمعنى آخَر، ينتقِلُ الربُّ مع الإنسان إلى كلِّ مكانٍ يتواجد فيه هذا الأخير، أي أنّه كلَّما تحرَّك المؤمِن تَحرَّك معه الله. هذه هي الأعجوبة الّتي يستطيع الإنسان القيام بها حين يُؤمِن بالربّ.
اليوم، نحن نتحضَّر للقاء الربِّ المولود، في عيدٍ أصبحنا نُجهِّل صاحِبه إذ أصبَحنا نقول عيد الميلاد، لا عيد ميلاد الربّ. إخوتي، إنّ إلهَنا هو إلهُ حَدَثٍ لا إلهَ مكانٍ وزمان. إنّ كلَّ إلهٍ وثنيٍّ له مدينةٌ خاصَّةٌ به، يَعبُده فيها سُكّانُها، في حين أنّ هذا الإله يبقى مجهولاً في الـمُدن الوثنيّة الأخرى، وبالتّالي إذا حَصَرْنا إلهَنا في زمانٍ أو مكانٍ مُعيَّنَين، يتحوَّل إلهُنا إلى إلهٍ صَنمٍ. إنّ الربَّ يسوع ليسَ إلهَ مكان ولا إلهَ زمانٍ، أي أنّه لا يستطيع أن يكونَ قصَّةً مِن التَّاريخ، مَرّ عليها زَمنٌ وانتهَتْ، إنّما هو إلهُ حَدَثٍ، أي حينَ يَحضُر الربُّ يكون هناك حَدَثٌ مُهمٍّ سَيَتِمُّ.
إذًا، حضور الله مرتَبِطٌ بالحَدَث الّذي سَيتِمُّ. حين أرسَل الله موسى إلى شَعبِه ليُخلِّصهم مِن العبوديّة، سأله موسى عن اسمِه، فأجابَه الله: “أَهْيِه أَشِر أَهيه”، الّذي يَعني في العِبريّة: “أكون الّذي أكون”، وبالتّالي أراد الربُّ أن يُعرِّف موسى عن الله للشَّعب بأنّ إلهَهم هو إلهُ حَدَثٍ، لا إلهَ مكان أو زمان. وانطلاقًا مِن هذا الكلام، نستطيع القول إنّه لا فائدةً حِسِيّةً ملموسةً يحصل عليها المؤمِن حين يحِجُّ إلى الأراضي المقدَّسة، فَهُم لن يتمكَّنوا من رؤية أيِّ شيءٍ مميَّز في كنيسة المهد، أو عند قبرِ الربّ، مُختَلِف عن سائر الكنائس أو المناطِق في العالَم، فالربُّ ليس موجودًا في أورشليم أو بيت لَحم، الواقِعَتين في الأراضي المقدَّسة، بل إنَّ الربّ موجودٌ مع كُلِّ مؤمنٍ أينما وُجِد في العالَم.
وبالتّالي، في عيد ميلاد الربّ، نحن ذاهبون لمواجهة المولود، أو بالأحرى هو سيواجِهنا، ممّا يدفعنا إلى طَرحِ السُّؤال على ذواتِنا حول هويّة هذا المولود: مَن هو هذا المولود الّذي نُواجِهُه؟ هل هو مجرَّد طِفلٍ أم أنّنا ننظر إليه على أنّه أيضًا إله؟ إنّ الإنجيل لا يُقدِّم لنا الربَّ يسوع على أنّه طِفلٌ فقط، بدليل أنّ الإنجيل يُخبرنا أنّ المجوس الوثنيِّين الّذين لا يؤمنون بالله وبكلمته الإلهيّة، قد أتوا للسُّجود لهذا الطِّفل وفي أيديهم هدايا له: الذّهب يُشير إلى أنّ هذا الطِّفل المولود هُوَ مِلكٌ، والبَخور يُشير إلى أنّ هذا المولود هو إلهٌ، والـمُرّ يشير إلى أنّ هذا المولود الإله والـمَلِك سيتألّم. وبالتّالي هذه الهدايا تُشير إلى أنّ هذا الطِّفل المولود هو إلهٌ مُختَلف عن سائر الآلهة، فهو ليس إلهًا قهَّارًا، بل هو إلهٌ يتألَّم من أجل البشر.
إنَّ الربَّ يسوع قد ذاقَ الـمُرَّ، على الصَّليب. إنَّ هؤلاء المجوس الوثنيِّين الآتِين من بلادٍ غير يهوديّة، قد اكتشفوا هويّة الطِّفل المولود فاعترفوا بربوبيّته عليهم؛ في حين أنَّ هيرودس ومعه كلّ سُكّان أورشليم، اليهوديّة الأصل، لم يتمكَّنوا مِن اكتشاف حقيقة هذا الطِّفل، إذ رأوا فيه إنسانًا لا يُحتَمل، لأنَّه شكَّل خَطرًا على ممالِكهم الأرضيّة. لا يستطيع الإنسان أن يتعرَّف على الربِّ يسوع ويبقى على حاله، بل يُعلِن عن رغبته في تغيير مسارِه، بمعنى آخَر يُعلِن عن توبته، أي عودته إلى الله.
إنّ المفهوم الحقيقيّ للميلاد يتضِّح لنا جَليًّا مِن خلال نبوءة إشعيا الّذي أعلَن قائلاً: “إنّ العذراء تَحبَلُ وتَلِد ابنًا ويُدعى اسمه عمّانوئيل” (7: 13). إنّ اسم “عمانوئيل” هو اسمٌ عِبريّ، ويَعني الله مَعنا. إنّ عمانوئيل سَيُخلِّص شعبه، أي أنَّه سيَغفر لهم خطاياهم. في سِفر إرميا ، يقول لنا الربُّ بِلِسان النبيّ: “سَأفتَحُ معهم عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الّذي قَطَعتُه مع آبائهم، بل عهدًا جديدًا بقلوبهم، لأنِّي سأغفر لهم خطاياهم، ولن أذكرها مِن بعد”(إرميا 31: 31). إنّ الإنسان ينسى جميع حسنات أخيه مَتى أخطأ هذا الأخير تجاهه، وقد يسامح أخاه على خطيئته، ولكنّه لا ينسى له أبدًا تلك الخطيئة. أمّا الله، فإنَّه ينسى كلَّ خطايا الإنسان ولا يعود يَذكُرها له، متى عاد إليه هذا الأخير تائبًا. إنَّ غفران الله لخطايا الإنسان ليس مرتبطًا بِوَضع الإنسان إنّما بِحُبِّ الله، شَرطَ أن يَقبَل الإنسان محبَّة الله له وغفرانه. تكمن مشكلة الإنسان في اعتقاده بأنَّه يستطيع أن يُصبح قدِّيسًا بِمَجهودِه الخاصّ، ولكن الحقيقة هي أنّ الإنسان يُصبح قدِّيسًا حين يَقبَل هذا الأخير غفرانَ الله لخطاياه، ويُعبِّر عن ذلك بإعلان ربوبيّة يسوع عليه، في سرّ التَّوبة. إذًا، القداسة هي عطيّةٌ مِن الله للبشر، وما على الإنسان إلّا السَّعي إلى المحافظة عليها، لِكَي لا يخسَرها بأعمالِه السَّيئة. في هذا الإطار، يقول لنا الإنجيليّ إنّ مريم العذراء كانت “تَحفَظُ كلَّ شيءٍ وتتأمَّله في قَلبِها”. إنّ عبارة “تَحفظ”، لا تعني تسميع كلمة الله غيبًا، إنّما المحافظة على تلك الكَلمة الإلهيّة مِن الفساد، فلا تتحوّل هذه الأخيرة إلى سبب عثرةٍ للآخَرين بسبب تصرُّفاتنا، فَنُقدِّم للآخَرين من خلال أعمالِنا السَّيئة، إلهًا مختلفًا عن الإله الّذي يُخبرنا عنه الإنجيل.
إذًا، في عيد ميلاد الربّ، علينا أن نَقبَل عطيّة الله المجانيّة لنا. ففي حدثِ الميلاد كما رواه لنا الإنجيليّون، نَكتشِف ما يلي: في ميلاد الربّ، أعطَتْ السّماء نَجمةً وملائكةً؛ والأرض أعطَتْ بَيتًا للإله المولود، والملائكة قدَّموا تسبيحًا للربِّ، والرُّعاة نَقلوا البشارة، والبشريّة أعطَتْ عيَّنةً بشريّة، هي العذراء مريم، والله أعطى البشريّة الغفران المجانيّ. هنا، نَطرَح السُّؤال: في هذا العيد، كيف عسانا نشارك في العطاء؟ إنّ هذه السَّنة، قد ساهَمت في أن نُدرِك الجوهَر الحقيقيّ للعِيد، بَعيدًا عن الأضواء والبهجة والهدايا والمأكولات، الّتي اعتدنا عليها في مِثل هذه الفترة مِن السَّنة؛ ففي هذه السَّنة لم يبقَ لنا في ظلّ هذه الظُّروف إلّا مواجهة الطِّفل المولود، مَلِك اليهود.
إنّ الحاجة الَّتي وَصلنا إليها، جَعلَتْنا مشابِهين لِلعازر على باب الغنيّ الّذي كلَّمنا عليه لوقا الإنجيليّ في نَصٍّ آخَر: إنّ الغَنيّ اليوم هو الربُّ، وهو على عكس الغنيّ في النَّص، سيَخرُج إلى لقائنا ليُعطي كلَّ واحدٍ مِنّا حاجاته، إذ سَيلَتفِت إلينا ويمسح كلَّ دَمعةٍ من عيونِنا، ويُبَلسم حروجاتنا.
إذًا، في هذه السَّنة، نحن نقرِّر إذا ما كنّا نريد أن نعيش جوهر العيد أم لا، مِن خلال نَظرتنا إلى الأمور من حولِنا. نحن نستطيع أن نعيش جوهر هذا العيد، حين نَقبل بأن نكون نحن المولود الجديد في هذا الحَدث الميلاديّ، فَنُمارس ثقافة الغفران مع إخوتِنا البشر الّذين أساؤوا إلينا، متى تابوا إلى الله. على أمل ورجاء أن نذهب إلى العيد وفي أيدينا، سلالٌ مِن الغفران لِنَضعها أمام الربّ المولود، بدلاً مِن البخور والذّهب والمرّ، الّتي قدَّمها له المجوس. أعيادًا مجيدة.
ملاحظة: دُوِّن التأمّل بأمانةٍ من قِبلنا.