تأمّل روحيّ،
الأب ميشال عبود الكرمليّ،
“على مثال جماعة الرّسل”
كان الربُّ يسوع محاطًا على الدَّوام بالجماهير: فقد اختار الربُّ مِن بَنِي البشر اثني عشر رسولاً، إضافةً إلى اثنين وسَبعين رسولاً، كما كانت الجموع تتبَعُه أينما ذهب. كان الرُّسل، بطرس ويعقوب ويوحنّا، يلازمون الربّ يسوع في كلّ الأحداث الـمِفصليّة في حياته: فكانوا معه على الجبل في يوم التجلِّي؛ كما كانوا معه، عند شِفائه للمرضى، على سبيل الـمِثال، حين شَفى ابنة يائيروس؛ كما رافقوه في رِحلته الأخيرة إلى بستان الزَّيتون، قُبيلَ موته.
أمّا الرُّسلُ الاثنان والسَّبعون، فكان الربُّ يُرسِلهم إلى كلِّ مكانٍ أوشَك الذّهاب إليه، مُعطيًا إيّاهم سُلطانًا على طَردِ الشَّياطين، وكانوا يقدِّمون له مُلَّخصًا لِما حقَّقوه في الرِّسالة الّتي أَرسلهم إليها. عند عودتهم مِن الـمُدن الّتي أُرسلوا إليها للتَّبشير به، جاء التّلاميذ الاثنان والسَّبعون فرِحين إلى الربِّ، قائلِين له: “يا ربُّ، حتّى الشياطينُ تَخضعُ لنا باسمِك”(لو 10: 17)، فأجابهم الربّ قائلاً: “لا تفرحوا بأنَّ الأرواح النَّجسة تَخضَع لكم، بل افرَحوا بأنَّ أسماءَكم مكتوبةٌ في السَّماوات”(لو 10: 20).
تألَّفت جماعة الرُّسل، مِن أشخاصٍ مُختلفِين في الطِّباع والشَّخصيّات والوظائف: فجماعة الرُّسل ضَمَّت عددًا كبيرًا مِنَ الصَّيادِين إضافةً إلى عشارٍ هو مَتّى الرَّسول. لجأ بعض الرُّسل إلى الواسِطة في سبيل الحصول على مراكز مُهمَّة في الملكوت، كما فَعَل ابنا زبدى على سبيل الـمِثال، إذ أَتَيا مع أمِّهما الّتي جاءت تَطلب لهما مِن الربِّ يسوع أن يُجلِس واحدٌ منهما عن يمين الربّ والآخر عن يساره في الملكوت، فكان جواب الربِّ لهما: “إنَّكما لا تعلمان ماذا تسألان: أَتَستطيعان أن تشربا الكأس الّتي سأشربها؟ قالا له: نستطيع. فقال لهما: أَمّا كأسي فَسَوف تشربانِها، وأمّا الجلوس عن يميني وعن يساري، فليسَ لي أنْ أمنحه، بل هو للّذين أَعَدَّه لهم أبي”(متى 20: 22-23).
في تَصرُّف هَذَين الرَّسولَين، تَحقَّق ما قاله لنا كتاب الاقتداء بالمسيح، إنَّ الكثيرين يودُّون اتِّباع يسوع ولكنَّ قلائلَ هُم الّذين يرغبون في حَملِ صليبه. إنَّ استعانة ابْنَي زبدى بوالِدَتهما، من أجل الحصول على الملكوت، أثار غيظ الرُّسل، فتجادلوا في الطريق حين كانوا يسيرون في الطريق مع الربّ حول “الأكبر بينهم في ملكوت السَّماوات”. عندما عَلِمَ الربُّ بموضوع الجِدال، قال لهم: “مَن أراد أن يكون كبيرًا فيكم، فليَكُن لَكم عبدًا: هكذا ابنُ الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُمَ ويَفدي بنَفسِه جماعة النَّاس”(متى 20: 26-28). واليوم، أيضًا، يختارنا الربُّ لاتِّباعه على الرُّغم من كلِّ اختلافاتِنا البشريّة، ويدعونا إلى التَّعبير عن رغبتِنا في اتِّباعه من خلال التَشبُّه به في عَيْشِ الخدمة مع الآخَرين.
كان متّى الرَّسول عشّارًا، وقد كان خاطئًا بالنِّسبة إلى اليهود، إذ كان يقوم بجباية الأموال منهم، أي أنّه كان يأخذ مالاً مِنَ الشَّعب أكثر ممَّا يستحقّ. لقد تجرّأ الربُّ يسوع على دخول بيت هذا الخاطئ ومشاركته الطَّعام، بحضور عددٍ من العشَّارين. هذا ما سبَّب استياءَ الفرِّيسيين من الربِّ. أراد الفرِّيسيون التَّعبير عن انزعاجهم للربّ، لكنَّهم لم يتمكَّنوا من الوصول إليه بسبب اكتظاظ المكان، فوجَّهوا ملاحظتهم هذه إلى التَّلاميذ الّذين نَقَلوها للربّ. عندما عَلِم الربُّ بِتَفكير الفرِّيسيين قال: “ليس الأصحَّاء بمُحتاجين إلى طبيبٍ، بل المرضى. ما جِئتُ لأدعو الأبرار، بل الخاطئين”(مر2: 17).
إنَّ شخصيّة بطرس الرَّسول هي مِنَ الشخصيّات الأكثر لَفْتًا للنَّظر بين شخصيّات الرُّسل الاثني عشر. في قيصريّة فيلبُّس، طرح الربُّ يسوع سؤالاً على تلاميذه قائلاً: “مَن ابنُ الإنسان في قولِ النَّاس؟”(متى 16: 13)، فأعطاه الرُّسل أجوبةً مختلفةً، فقالوا له إنَّ البعض يعتقدون أنَّه إرميا أو إيليّا أو أحد الأنبياء. عندها طَرح الربُّ سؤالاً آخر عليهم، هو: “ومَن أنا في قولِكم أنتم؟ فأجاب سمعان بطرس: أنتَ المسيحُ ابنُ الله الحيّ. فأجابه يسوع: طوبى لك يا سمعان بن يونا، فَلَيسَ اللَّحم والدَّمُ كَشَفا لَكَ هذا، بل أبي الّذي في السَّماوات”(متى 16: 15-17). إذًا، لا يستطيع الإنسان التَّبشير بالربِّ يسوع، إنْ لم يكن مؤمِنًا به، والإيمان هو نعمةٌ يحصل عليها الإنسان مِن الله.
إنّ بطرس الرَّسول نفسه لم يَفهم ما قاله، والدَّليلُ أنَّه حين سَمِع بطرسُ الربَّ يُنْبِئُهم بموته قائلاً لهم إنَّ ابنَ الإنسان “سيُعاني آلامًا شديدةً من الشُّيوخ وعظماء الكهنة والكتَبَة، ويُقتَل ويقوم في اليوم الثّالث”(متى 16: 21). انفرد بالربّ وعاتَبَهُ قائلاً: “حاشى لك أن يُصيبَك هذا!”(متى 16: 22). فَالْتَفتَ الربُّ إلى بطرس قائلاً: “انسَحِبْ! ورائي! يا شيطان، فأنتَ لي حَجَرُ عثرة، لأنَّ أفكارَكَ لَيسَت أفكارَ الله، بل أفكار البَشَر” (متى 16: 23)، في حين أنَّ الربَّ كان قد سلَّمه مفاتيح ملكوت السَّماوات، عند اعتراف بطرس بحقيقة الربّ، قائلاً له: “أنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ سأبني كَنيستي، فلن يقوى عليها سُلطانُ الموت”(متى 16: 18).
إنّ الربَّ يسوع قد طَلبَ مِن رُسُله أن يسبقوه إلى الشَّاطئ المقابل ريثما يصرف الجموع الَّتي كانت تتبَعُه لتُصغي إلى تعاليمه الإلهيّة، ففَعلوا ما أمرَهم به الربُّ. ولكنَّ الربَّ قد تأخَّر في مُلاقاتهم لأنّه صَعِدَ إلى الجبل ليُصلِّي، فهبَّت عاصفة في اللَّيل، وبدأت الأمواج تَلطم سفينة الرُّسل. عندها جاء الربُّ إليهم ماشيًا على الماء، فخافوا عند رؤيتهم له، إذ ظنُّوه خيالاً، ولكنَّ الربَّ حاول أن يُهدِّئ من رَوعهم قائلاً: “أنا هو لا تخافوا!”(متى 14: 27). فأجابه بطرس الرَّسول حينها: “يا ربِّ، إنْ كُنْتَ إيّاه، فمُرني أن آتِيَ إليكَ على الماء”.
فقال له الربُّ :”تعالَ! فنزل بُطرُسُ من السَّفينةِ ومشى على الماءِ آتيًا إلى يسوع. ولكنَّه خافَ عندما رأى شِدَّةَ الرِّيحِ، فأخَذَ يغرَق، فصرخَ: يا ربِّ نجِّني! فَمَدَّ يسوع يَدَه لوَقتِه وأمسَكَه وهو يقول: يا قليلَ الإيمان، لماذا شكَّكت؟”(متى 14: 28-31). في ليلة الآلام، أخبر الربُّ تلاميذه أنَّه في هذه اللَّيلة، سيكون حجرة عثرةٍ لهم، إذ فيه سيتمّ ما كُتِب: “سأَضرِبُ الرَّاعي، فتتبدَّدُ خِرافُ القطيع” (متى 26: 31). فرَفضَ بطرس هذا الكلام، قائلاً للربّ: “إذا كُنْتَ لهم جميعًا حجرةَ عثرةٍ، فلَن تكون لي أنا حَجَر عثرة” (متى 26: 33). عندها أخبر الربُّ بطرس أنَّه سيُنكِره ثلاث مرّات قبل صياح الدِّيك، وهذا ما حصل فِعلاً.
في ليلة آلامه، ذهب الربُّ إلى بستان الزَّيتون بِرفقة رُسُلِه، فقال لهم: “نفسي حزينةٌ حتّى الموت. أُمكثوا هنا واسهروا معي ثمّ أبعَد قليلاً وسَقَط على وجهِه يُصلِّي فيقول: “يا أَبَتِ، إنْ أَمكَنَ الأَمرُ، فَلتَبتَعِد عنِّي هذه الكأس، ولكن لا كما أنا أشاء، بل كما أنتَ تشاءَ ثمَّ رَجِعَ إلى التّلاميذ فَوَجَدهم نائِمينَ، فقال لبُطرُس: “يا سمعان، أَتَنام؟ أَلَمْ تَقوَ على السّهر ساعةً واحدة؟”(مر 14: 37). وعندما جاء الجنود لاعتقال الربِّ، تحمَّس بطرسُ للدِّفاع عن الربِّ، فاسْتَّلَ سيفَه وضَرَب خادم عظيم الكهنة فقَطَع أذُنَه (يو18: 10). فقال الربُّ لبُطرس: “إغمِد سيفَك، فكلُّ مَن يأخُذ بالسَّيفِ، بالسَيفِ يَهلِك.”(متى 26: 52)، ثمّ “لَمَسَ الربُّ أُذُنَ (الخادم) وأَبرأه” (لو 22: 51).
إذًا، وبَّخ الربُّ بطرسَ الرَّسول في كلّ هذه المواقف الثّلاثة: ويخبرنا الإنجيليّ لوقا، أنّه عند إنكار بطرس للربّ، التَفَتَ الربُّ إلى بطرس ونظر إليه، فتذكّر بطرس حينها كلام الربِّ له إذ قال له: “قبل أن يصيح الدِّيك اليوم، تُنكِرني ثلاثَ مرَّاتٍ. فخرج من الدَّار وبكى بكاءً مرًّا (لو22: 61-62)، فَشَعَرَ بطرس وكأنَّ حياته قد انتَهَتْ.
عند فَجر الأحد، ذهبَت النِّسوة إلى القبر لتحنيط جسد الربِّ فاكتشفْنَ قيامته من الموت، فانطلقْنَ في نقل هذه البشارة، فأخبرْنَ أوّلاً الرُّسل. فتوجَّه الرَّسولان بطرس ويوحنّا إلى القبر ليتأكَّدا ممّا سَمِعاه، ويخبرنا الإنجيليّ يوحنّا أنَّ يوحنّا الرَّسول قد وَصَل أوّلاً إلى القبرِ ولكنَّه لم يدخل بل انتظر خارجًا وصول بطرس الّذي دَخل إلى القبر فوَجدَ الحال كما قالت لهم النِّسوة (يو 21: 4-6). بعد قيامته من الموت، ظهر الربُّ للرُّسل عدَّة مرّات، ولكنْ عند ظهوره لهم على بُحَيرة طبريّا، لم يُعاتِب الربُّ بطرسَ على نُكرانه له، بل بادر إلى طرَح السّؤال عليه قائلاً: “يا سمعان بن يونا، أتحبُّني أكثر ممّا يُحبُّني هؤلاء؟”(يو 21: 15).
قبل قيامة الربّ، كان بطرس الرَّسول يعتَدُّ بِنَفسِه، أنّه لن يُنكِر الربَّ، وأنَّه لن يتركَه وحَده حتّى لو تَرَكه جميع الرُّسل. أمَّا اليوم، فلا نجد بطرس الرَّسول هكذا، بل نجِده نادمًا على نُكرانه للربّ، إذ أجاب الربّ، قائلاً: “يا ربّ، أنْتَ تعلم كلَّ شيء، أَنْتَ تعلم أنِّي أُحبُّك حُبًّا شديدًا”(يو 21: 17). وبالتّالي، لقد اعترفَ بطرس الرَّسول بمحبَّته للربّ على الرُّغم من ضُعفِه البشريّ، فَسَلَّم الربُّ حينها رعاية الكنيسة إلى بطرس، إذ قال له: “إرعَ خِرافي” (يو21: 17).
بعد العنصرة، انطلق الرُّسل للبشارة بقيامة المسيح. وقد عانَتْ الكنيسة الأولى من الاضطهاد، وقد اشتهر شاول، الّذي أصبح فيما بعد بولس الرَّسول، باضطهاده للمسيحيِّين. كان بولس الرَّسول إنسانًا متعمِّقًا في ديانته اليهوديّة، وقد عَمِل على اضطهاد المسيحيِّين، وكان شاهدًا على مقتل الرَّسول اسطفانوس، أوَّل الشُّهداء. ظهر الربُّ لِشاول على طريق دِمشق، فأدرَك هذا الأخير أنَّه كان يضطهد الربَّ نفسه، وقرَّر التَّوبة، فقال له الربُّ: “قُم فادْخُل المدينة، فيُقالُ لكَ ما يجبُ عليكَ فِعلُه”(أعمال 9: 6). ثمّ ظهر الربُّ لِحَنَنْيا، طالبًا منه الاهتمام ببولس، وتعليمه الإيمان القويم، فخاف حنَنْيا عند سماعه ذلك إذ كان معروفًا عن شاول، اعتقاله للمسيحيِّين واقتيادهم إلى السُّجون للموت. فأجابُ الربُّ حَنَنْيا قائلاً له: “إذهَبْ، فَهَذا الرّجُلُ أداةٌ اخْتَرتُها لِكَي يَكونَ مَسؤولاً عن اسمي عند الوَثنيِّين والملوك وبَني إسرائيل، فإنِّي سأُريه ما يجِبُ عليه أن يُعانِيَ من الألم في سبيل اسمي”(أعمال 9: 15-16).
بعد حادثة الشّاب الغنيّ، قال بُطرُسُ للربّ: “ها قد تَرَكْنا نحن ما عِندَنا وتَبعناك”. فقال لهم (الربُّ): “الحقَّ الحقَّ أقولُ لَكُم، ما مِن أحدٍ تَرَكَ بيْتًا أو امرأةً أو إخوةً أو وَالِدَينِ، أو بَنينَ من أجل ملكوت الله، إلّا ونال في هذه الدُنيا أضعافًا، ونال في الآخِرَةِ الحياة الأبديَة” (لو 18: 28-30). إذًا، مَن يريد اتِّباع المسيح، لا بُدَّ له مِن التَّخلِّي عن كلِّ شيءٍ آخر، وحَمْلِ الصَّليب كما فَعل الربُّ.
بعد أن تَسَلَّم بطرس الرَّسول مفاتيح السَّماء مِنَ الربِّ ورعاية الكنيسة، وبعد أنْ ارتَدَّ بولس الرَّسول عن اضطهاده للمسيحيِّين، انطلق هذان الرَّسولان للبشارة معًا بقيامة المسيح، في العالم كلِّه. آمن الكثيرُ مِن الوثنيِّين بالربِّ نتيجة تبشير هذين الرَّسولَين، ممّا أدَّى إلى طَرح إشكاليّة بين اليهود والوثنيِّين حول ضرورة الختانة أو عَدَمِها. حين كان الرَّسول بطرس يُفكِّر أثناء صلاته في حلٍّ لهذه الإشكاليّة، إذ بالربّ يوضِحُ له هذه المسألة من خلال رؤيةٍ (أعمال 11: 1-18)، فرأى وِعاءً نازلاً من السَّماء وفيه عدد من الحيوانات، فطلب منه الربُّ أنْ يَذبح مِن هذه الحيوانات ما يكفيه حاجته من الطَّعام. فأجابَ بطرسُ الرَّسول الربَّ: “حاشى لي يا ربّ، لم يَدخُل فَمي قَطّ نَجِسٌ أو دَنسٌ” (أعمال 11: 8)، فأجابه الصَّوت:”ما طهَّره الله لا تُنجِّسه أنتَ” (أعمال 11: 9)، وبعد انتهاء هذه الرّؤيا إذ برجالٍ ثلاثة قد أتوه وأخذوه إلى قيصريّة، فبشَّر بطرس أهل ذلك البيت واعتمد أهله ونالوا الرُّوح القدس.
إنَّ بطرس وبولس قد اختلفا في مسألة الختانة، إذ كان بولس لا يجد ضرورة لختان الوثنيِّين عند إيمانهم بالربِّ، أمَّا بطرس، فقد كان مع ختانة الوثنيِّين بسبب العِتاب الّذي ناله من اليهود المسيحيِّين، ولكن بعد رؤيته لمشيئة الربّ في الرّؤيا، لم يعد يجد ضرورةً لختانة الوثنيِّين. بعد حلِّ هذه المسألة، افترق الرَّسولان بطرس وبولس في مسيرتهم التبشيريّة. وقد تابع بولس الرَّسول مسيرته التبشيريّة بالربّ مع برنابا، ولكنّهما بعد مدَّة من الزَّمن انفصلا.
بعد العنصرة، انطلق الرُّسل للبشارة بقيامة الربِّ فبشَّر كلٌّ منهم في مدينة، ممّا ساهم في انتشار المسيحيِّة في العالم كلِّه. بدأ الرُّسل بشارتهم بالمسيح من خلال الوَعظ أوّلاً، وما عِظةُ بطرس الرَّسول في يوم العنصرة إلّا دليلٌ على ذلك، إذ أخبر الحاضرين في ذلك اليوم حقيقة الربِّ قائلِاً: “فليعلم يَقينًا بيت اسرائيل أجمَع أنَّ يسوع هذا الّذي صلبتموه أنتم، قَد جعله الله ربًّا ومسيحًا” (أعمال 2: 36). بعد العنصرة،كان الرُّسل يجتمعون مع بعضهم البعض للصّلاة وكَسْرِ الخبز الأرضيّ.
عندما لاحظ بطرس الرَّسول أنَّ بعض الإخوة الحاضِرين مَزَجوا بين الطَّعام الأرضيّ وبين جَسَدِ الربِّ، طَلبَ منهم بولس الرَّسول مشاركة بعضهم البعض في الخيرات الأرضيّة في بيوتهم، وتَقاسُم الخيرات السّماويّة في لقائهم مع الإخوة المؤمِنِين، إذ قال: “فَمَن أكَلَ وشَرِبَ وهو لا يُميِّزُ جَسَدَ الربِّ، أَكَلَ وشَرِبَ الـحُكمَ على نَفسِه”(1قور 11: 29). إذًا، إنَّ عدم استحقاق المؤمِن لجسد الربِّ لا يرتكز فقط على ارتكاب هذا الأخير الخطايا، إنَّما تقوم على عدم تمييزه الطَّعام الأرضيّ مِن جسد الربِّ المقدَّس.
في بداية المسيحيّة،كان المؤمِنون يجتمعون ضمن مجموعاتٍ صغيرة تجمتع للحصول على التَّعليم المسيحيّ من الرُّسل. ولكن مع موت الرُّسل واحدًا تِلو الآخر، ومع انتشار الرِوايات حول قيامة المسيح، وخوفًا من تلاشي حقيقة الإيمان، اختارت الكنيسة سبعةً وعشرين كتابًا تشكِّل كِتابها المقدَّس الّذي يستطيع كلِّ مؤمِن الاعتماد عليه لمعرفة الإيمان الصَّحيح على مرِّ السِّنين: فاختارت الأناجيل الأربعة: متّى، مرقس، لوقا ويوحّنا؛ كما اختارت كتاب أعمال الرُّسل، ورسائل مار بولس، والرِّسالة إلى العبرانيِّن، ورسائل مار بطرس، ورسالة مار يعقوب، ورسالة القدِّيس يهوذا، ورسائل القدِّيس يوحنّا إضافةً إلى رؤيا يوحنّا. هذه هي الكُتُب المقدَّسة الّتي تعترف بها الكنيسة، أمّا بَقيّة الكُتب فقَد سُمِيَّت بالكُتب المنحولة، إذ لم تعترف بها الكنيسة لما فيها من أمورٍ خياليّة. نحن نؤمِن ونعترف بهذه الكُتُب لأنّ الكنيسة صدَّقَتْ على صِحَّتها، فالربّ يساعِدنا على فَهمِها من خلال الرُّوح القدس، الّذي يُنير عقولَنا. في هذا الصَّدد، يقول لنا الربُّ يسوع: “لا يزالُ عِندي أشياءٌ كثيرةٌ أقولها لَكم، ولكنَّكم لا تُطيقون الآنَ حَملَها. فَمتى جاء هو، أي رُوح الحقّ، أَرشَدكم إلى الحقِّ كُلِّه، لأنَّه لن يتكلَّم مِن عِنده، بل يتكلَّم بِما سَمِعَ ويُخبرُكم بما سيَحدُث” (يو 16: 12-13). إذًا، إضافةً إلى هذه الكُتُب السَّبعة والعِشرين، نحن نؤمِن بما يُعلِّمنا إيّاه الرُّوح القدس، لأنَّه بكلِّ تأكيدٍ لا يتنافى مع ما علَّمنا إيّاه الربُّ يسوع في إنجيله.
في هذا الإطار، يقول لنا بولس الرَّسول: “فَلو بشَّرناكم نحنُ أو بشَّركم ملاكٌ من السَّماء، بخلاف ما بشَّرناكم به، فليَكُن محرومًا” (غلاطية 1: 8). لقد تلَّقى الرُّسل تعليمهم مِنَ الربِّ يسوع شخصيًّا، فعاشوا معه واختبروه، وكان لكلِّ واحدٍ منهم لقاؤه الخاصّ مع الربّ، وبعد موت الربِّ وقيامته، انطلقوا للبشارة به في المسكونة بأسْرِها، وماتوا شُهداء في سبيل تلك البشارة، ما عدا يوحنّا الرَّسول الَّذي مات موت ربِّه، في منفاه، في جزيرة بَطمُس.
لبَّى الرُّسل دَعوةَ الربِّ لهم لاتِّباعه، وعاشوا معه كجماعة، على الرُّغم من اختلافاتهم، فآمَنوا بالربِّ، وأصبحوا أحبّاءه، إذ قال لهم الربُّ: “لا أدعوكم خَدَمًا بعد اليَوم، لأنَّ الخادم لا يَعلم ما يعَملَ سيِّده. فَقَد دَعوتُكم أحبّائي، لأنِّي أطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أبي”(يو 15: 15). إنّ اختبار الرُّسل حضور الله في حياتهم واختبارهم لمحبّة الله لهم، ومحبَّتهم لله هي الّتي دَفَعتهم للقبول بالموت شهداء في سبيل إيصال البشارة بكلمتِه إلى المسكونةِ كُلِّها. إنَّ ازدياد قافلة الشُّهداء في العالم، نتيجة إيمانهم بالمسيح، هي الّتي ساهَمَتْ في انتشار المسيحيّة في العالم، إذ عَبَّر الشُّهداء عن حبِّهم لله، واختبارهم لحضوره في حياتهم بطريقة شخصيّة.
نحن اليوم مدعوِّون كي تكون جماعتنا، جماعة “أذكرني في ملكوتك”، على مِثال جماعة الرُّسل: فنسعى إلى نَشْرِ رِسالتها، رسالة الرَّجاء إلى كلِّ مَن هُم حَولنا، ونعيشها في حياتنا اليوميّة، فتكون تصرُّفاتنا وأعمالنا مرآةً تعكس إيماننا بقيامة الربّ وبالتّالي بقيامة الأموات. كما أنَّنا مدعوّون إلى السَّعي الدائم للبحث عن أجوبة لكلِّ ما لا يستطيع عقلنا البشريّ فَهمَه، ولا ضَرر مِن طرح تساؤلاتنا الإيمانيّة على مَن يمتلكون خبرةً روحيّة أعمق مِنّا. في القديم، كان المؤمِنِون يلجأون إلى مرشدٍ روحيّ للحصول على الأجوبة عن تَساؤلاهم الإيمانيّة؛ أمّا اليوم، ومع وجود وسائل التَّواصل الاجتماعيّ، فقَد أَصبح مِنَ السَّهل علينا البحث عن أجوبةٍ لكلِّ تساؤلاتِنا. إنَّ عَيشَنا لروحانيّة هذه الجماعة الّتي ننتمي إليها، لا تقتصر على حضور الاجتماعات الروحيّة الّتي تدعونا إليها، إذ إنّنا مدعوِّون إلى السَّعي لتنشئة ذواتِنا روحيًّا، من خلال قراءة كلمة الله والتعمُّق بها.
إنَّ روحانيّة “أذكرني في ملكوتك”، ما هي إلّا روحانيّة الإنجيل. أمَّا الأديان فَقد اخترعها البشر لا الله، لذا نجد تناقضات في تعاليمها، فالله لا يستطيع أنْ يُناقِضَ نفسه. إنَّ المسيحيّة ليست دينًا بل هي حياة، إنّها علاقة شخصيّة مع الربِّ يسوع المسيح. نحن المجتمعون ههنا، نُشكِّل عائلة، إذ نتشارَك معًا لا مائدة المحبّة وحسب، إنَّما أيضًا، التَّعاليم الكنسيّة الّتي نتلَّقاها خلال اجتماعاتنا، فمشاركتنا لمائدة الربّ، هي الّتي تجعل منّا عائلة واحدة. نحن نُشكِّل “كنيسة” لأنّنا نؤمِن بيسوع المسيح، وما الأسرار الكنسيّة إلّا عبارة عن ترتيب لعلاقة المؤمِن الخاصّة بالربّ، ولعلاقة المؤمِنِين بالربّ.
نحن نُشكِّل هيكل الله، لذا نحن لا نعمل على تنشئة الجماعة ككلّ، بل نعمل على تنشئة كلِّ فردٍ بشكلٍ خاصّ، فكلُّ شخصٍ في هذه الجماعة هو فريدٌ وفاعلٌ فيها. إنّ كلَّ واحدٍ منّا هو مهمٌّ في نظر الله أوّلاً، ثمّ في نظر الجماعة، فكُلُّ واحدٍ منّا هو حجرٌ حيّ في هيكل الله. وبالتّالي إنّ أيّ مكروهٍ قد يُصيب أحد أفراد الجماعة فَهو يُصيب الجماعة كَكُلّ. هذا ما يجعل مِن جماعتنا، جماعة رسوليّة، يجمعها الربّ يسوع المسيح، إذ يتلقَّى أعضاؤها تعاليم الربِّ لكي يتمكّنوا من نَقلِها للآخَرين.
ملاحظة: دُوِّن التأمّل بأمانةٍ من قِبلنا.