عظة للأب رالف طنجر،
كنيسة مار مارون – الانطونيّة.
لكي تُدركوا أنّ معركتنا، التّي نعيشها اليوم، واضحة وهي ضدّ الخطيئة،
في فترة الصوم، هناك ما يُقارب ستّة أحاد، فيها نرى الربّ يسوع يشفي في كلِّ مرّة أحدهم من مرضٍ أو علّة. وعلينا أن نفهم من كلّ شفاء البعد العميق الذّي يطال حياتنا. وإنجيل اليوم يتناول مرض البرص، الذّي لم يعد موجوداً كما كان موجوداً في السابق. في ذاك الزّمان، كان اليهود يعتبرون أنّ الأشخاص المصابين بأمراض لا شفاء منها، ملعونون مِن قِبل الله، لذلك كانت الجماعة تنبُذُهم. وكان لكلّ مرضٍ وضع خاص، فعلى سبيل المثال، الشخص الأبرص كان يجلس في المغاور وحده، لأنّه كما تعرفون، فإنّ عدوى هذا المرض تنتقل باللّمس. وكان يُعَلَّق للأبرص جرس في رجله لكي يصدر صوتاً في حال قرّر الخروج من المغارة، عندئذٍ يكون الجرس بمثابة إنذار في حال تواجد الأبرص في مكانٍ عام، وبالتّالي فإنَّ صوت الجرس يدعو النّاس للهروب من الأبرص. وكان البُرص يتواجدون في وادٍ اسمه وادي يوشافاط الذّي كانت تُرمى فيه بقايا الجِيَف والعظام الناتجة عن ذبائح اليهود وكانوا يحرقونها فيه. وبالتّالي كان هذا الوادي دائم الإشتعال. لكنّ النّار التّي كان يُضرمها اليهود لم تكن قادرة على إحراق كافة أعضاء الحيوانات. فكانت هذه الأعضاء تبقى حتّى تتعَفَّن، فتنبعث رائحتها الكريهة. وكان يتواجد البُرص في هذا الوادي الذّي يُطلق عليه اليوم إسم “كَرّوم”، وتتواجد فيه اليوم مدافن اليهود. فعندما يموت يهوديّ يُدفن في هذا الوادي.
أخبرتُكم بذلك، لكي تُدركوا أنّ معركتنا، التّي نعيشها اليوم، واضحة وهي ضدّ الخطيئة. وسوف تتبيّن لنا في كلّ أحد من آحاد الصّوم، معركة ضدّ خطيئة معيّنة. فما الذّي تقوم به الخطيئة؟ في إنجيل الأبرص، نرى كيف أنّ الخطيئة تجعلنا نهترئ جسداً وروحاً. وفي الأسبوع المقبل، سوف نقرأ إنجيل النّازفة، لنرى كيف أنّ الخطيئة تستنزفُنا، وتقطع عنّا الحياة أيّ الدّم. وفي الأسبوع الذّي يليه، أسبوع الضّال، سوف نفهم كيف أنّ الخطيئة تجعلُنا نشتهي أكل الخنازير بعد أن تفصِلَنا عن بيت أبينا وتُّذِلنا ويصبح الحيوان أهمّ منّا. وفي الأسبوع الذّي يليه، تقرأ لنا الكنيسة إنجيل المخلَّع، لنفهم كيف أنَّ الخطيئة تُشِلُّنا ونُصبح بحاجة لمن يحملُنا، ويأخذنا صوب النّعمة. وفي الأحد الأخير من الصوم، قبل أحد الشعانين، تقرأ لنا الكنيسة إنجيل الأعمى، وهنا سنرى كيف أنَّ الخطيئة تُعمينا، وهذا أخطر ما قد يصِل إليه الإنسان في الحياة الروحيّة، أن يصبح أعمى. عندئذٍ تصبح الخطيئة فضيلة. كيف تصبح الخطيئة فضيلة؟ مثالاً على ذلك، بعض الأشخاص اليوم، وبخاصّة بعض الأهل، يُشجِّعون أولادهم أو الآخرين على الخطيئة، إذ لم تُعد الخطيئة بنظرِهم خطيئة، لم يعد هناك مَن يُذَّكرهم أنّ هذا الأمر المعيّن هو خطيئة. لذلك عندما يقول لنا مار بولس:”لا تملُكَّنَّ الخطيئة بعد في جسدكم المائت”، إنّما هو يُحَذِّرنا من الطريق السّالكين فيه، ويسألنا لِمَ لا نحارب الخطيئة بل نَزيد في تعلُّقنا بها؟
هناك خطايا تُرتكب اليوم، هي سبب عدم وجود البركة في عائلاتنا، وهي سبب كلّ المشاكل العائلية كما أنّها أيضاً سبب في تَّفكُكها، لأنّنا أصبحنا اليوم نحارب أمراً معيّناً على حساب أمرٍ آخر نهمله. أتعلمون أنّ هناكَ أزواج-نعرف ذلك من خلال الاعترافات والإرشاد-يُقْدِمون على سرّ الزواج من دون أن يتوبوا عن خطايا الماضي التّي قاموا بها؟ وهنا نسأل: أيّة بركة ستنالها تلك العائلات اليوم؟ لقد تَوّصلنا في إحصائية، من دون أن نبالغ فيها، إلى أنّ أكثر من نصف العائلات المسيحية فقدت معنى سرّ الزواج. وإليكم إثبات على ذلك، فنحن نحتفل بإكليل معيّن في أوّل الصّيف، ثمّ نرى العروسين في عيد الميلاد يُقَدِّمون أوراقهم في المحاكم من أجل بطلان الزواج. والسبب واحد هو الخطيئة، لأنّ أكثر الأهل والنّاس يغُضّون النّظر عن خطايا معيّنة، ولا يُكفِّرون عنها لكي يسمحوا للنّعمة بأن تعمل في عائلاتهم. فإذ لم يُبْنَ بيتي على صخر، فعلى الرَّمل هو مَبنيّ. إنّ الكلّ مُعرَّض للتّجارب والمشاكل، لكن يجدر القول إنّ البيت المبنيّ على الرّمل، سوف يسقط عند أوّل مشكلة.
ويدعونا مار بطرس قائلاً: “أُصحوا واسهروا لأنّ إبليس خصمكم كأسدٍ زائر يجول ملتمساً مَن يبتلع”. فإذا قمنا بفتح نافذة صغيرة لإبليس، نكون بالفعل ذاته، قد سمحنا للخطيئة بأن تدخل حياتنا. يقول مار بطرس”اسهروا”، علينا إذاً ألاّ ننسى أنّنا في معركةٍ روحيّة على هذه الأرض، فإن لم نَعِ لذلك، فسننجرف كلّنا، وستكون الخطيئة وعدم البركة، ونحن غير مدركين لوجودها فيما بيننا.
لذلك يقول مار بولس:”لا تجعلوا أعضاءكم سلاح ظلم للخطيئة”، وهو يقصد بالأعضاء الجسد. ويقول مار يوحنّا في رسالته إنّ أعداء المسيحيّ ثلاثة: الشيطان الذّي، وبحسب تعليم الكنيسة هو كائن موجود، وهو سبب في كلّ ما يحصل على الأرض، ويُسميّه يسوع سيّد هذا العالم الموجودين فيه نحن اليوم. أمّا العدوّ الثاني فهو العالم. والمقصود بذلك: كلّ ما هو حولنا، من روح العالم، من شهواته، من مغرياته، وكلّ ما نرى فيه سبب عثرة لنا، إنّه عدّو الإنسان، إنّه عائق أمام خلاص نفسي. أمّا العدوّ الثالث فهو جسدي. اليوم قمع الجسد أصبح ضعيفاً جدّاً، وعلاجه هو الصوم.
فإن نظرنا اليوم إلى الصوّم، رأينا أنّ الكنيسة تُشَدِّد على الصّوم عن الطعام. لكنّ بعض النّاس يبرِّرون عدم صومهم عن الطعام قائلين لنا إنّ الصّوم هو القيام بأعمال خير، أعمال رحمة. فهل أعمال الرّحمة وأعمال الخير تتوقّف في باقي الأيّام وتنشط فقط في فترة الصّوم؟ فهل الصّوم يأتي ليُذَّكرني أنّه عليّ، أنا كمسيحيّ، القيام بأعمال حسنة؟ هذا أمرٌ خاطئ، فأعمال الخير مُتاحة في كلّ وقت ويجب القيام بها. لكن في فترة الصّوم، وقبل كلّ شيء، عليّ العمل على جسدي، وذلك لأنّه أوّل عدوّ لي، أوّل عائق أمام خلاصي، وذلك على صعيد الأفكار الشّريرة، في القلب، والحواس أو في الأعضاء، وخاصّةً الخطيئتان الأكثر انتشاراً: خطيئة شراهة الأكل، وخطيئة الزنى، أكان بالفكر أو بالفعل. واليوم عندما أُقرّر أن أصوم، هذا يعني أنّني قد اتخذت قراراً أن أجعل جسدي يتألّم، وذلك من أجل غاية معيّنة. إنّنا نرى اليوم أشخاصاً لا يتكلّمون مع أشخاص آخرين يعيشون معهم في المبنى نفسه، ويريدون المصالحة، لكنّ ذلك يبدو لهم صعب التّحقيق لأنّ الجُرح كبير. إنّ الدّواء يكون من خلال الصّوم على هذه النّية. إنّ الصّوم لا نفع له. أتصومون لأنّ الصّوم فرض ووصيّة كنسيّة؟ إن كان كذلك فلا ضرورة لصومكم. إنّ لفترة الصّوم، غاية وهي سعي الإنسان خلاله للتّحرّر من أمر معيّن مثلاً لعب الميسر، الحقد… إنّني أصوم لمعرفتي أنّي ضعيف، وغير قادر على التّحرّر من نقاط ضعفي وحدي. الصّوم هو من أهمّ الوسائل للتحرّر. وقول يسوع لنا في الإنجيل هو دليل على ذلك: “هذا النّوع لا يخرج إلاّ بالصّوم والصلاة”. إنّه يتكلّم عن الشّر اليوم الذّي يكبِّلني ويأسرني ولا يجعلني أتحرّر.
والمسيرة نفسها التّي قام بها يسوع في بداية رسالته أقوم بها أنا اليوم في مسيرتي الروحيّة خلال الصّوم. إنّ يسوع قد صام أربعين يوماً وعليّ أن أقتديَ به. وفي هذه المسيرة سوف أتعرّض للتّجارِب كما تعرّض هو أيضاً، وأهمّ ثلاث تجارب تعرّض لها يسوع، نحن نتعرّض لها. فبعد مسيرة أربعين يوماً، أتى إبليس وجرّب يسوع قائلاً له:” قل لهذه الحجارة أن تصير خبزاً”. في هذه المرحلة، كان يسوع قد وصل إلى مرحلة من الجوع القاتل. لكنّ يسوع قال لإبليس إنّه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلِّ كلمة تخرج من فم الله”. وبالتّالي يقول يسوع لنا اليوم، إنّه قبل التفكير في حاجات جسدنا علينا تغذية روحنا من كلمة الله. أمّا اليوم فعندما نسأل النّاس ماذا يعرفون عن الإنجيل الذّي يسمعونه نهار الأحد في القدّاس، يأتينا الجواب التّالي:”اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم” ويُطبِّقونها على الكهنة. لكنّي اليوم أُذكرك يا أخي الإنسان بما هو موجود في الإنجيل فأتلو عليك بعض آياته:”من طلب منك ثوباً أعطِه رداءك”، “لا تبادلوا الشّر بالشّر، بل بادلوا الشَّر بالخير”،”من ضربك على خدِّك الأيمن دُر له الآخر”. وهنا أدعو النّساء أن يتذكّرنَ هذه الآيات عندما يتشاجرنَ مع إحدى الجارات، أو عند وجود نفور مع أزواجهنَّ. كذلك، عندما تصِل إلى استحقاق ما وتريد جواباً، افتح يا أخي الإنجيل، فبالتأكيد إنّ الرَّبَّ سيُعَزِّيك ويعطيك آية مناسبة لحالتِك. عندنا جهل لكلمة الله لكننّا بارعون بالتُقوِّيات، ولا أنكر أنّ التقوِّيات عمود أساسيّ في كنيستنا، لكنّنا نهمل عموداً آخر هو الإنجيل باهتمامنا المبالغ به بالتقوِّيات. إذا قرع أشخاص من شهود يهوه بابك، طبعاً عليك ألاّ تستقبلهم، ولكن في حال جادلوك في آية كتابية، أتستطيع مجابهتهم بكلمة الله؟ نحن غير قادرين على ذلك لأنّنا لا نقرأ الكتاب المقدّس كما يجب. إذاً الغذاء الأوّل لنا في الصّوم هو كلمة الله، علينا فتح الإنجيل وقراءته. فإن لم نفتح الإنجيل الآن، فمتى سنفتحه؟ فعندما نكون في ألفة مع الكتاب المقدّس، نصبح عند وقوعنا في مشكلة ما، نتذكّر الآيات تلقائياً، وتصبح تعزية لنا وللآخرين. كذلك، عند وقوع زميلتِكِ في العمل في صعوبة معينّة، تستطيعين أن تبادري إلى مساعدتها عبر تذكيرها ببعض الآيات الإنجيليّة مثل:”تعالوا إليّ أيّها المتعبين وأنا أريحكم”. وبهذه الطريقة تكونين قادرة على تذكريها بالآيات التّي قد تحرّك قلبها وتدعوها للنّهوض من جديد.
في تجربة إبليس الثانية ليسوع، يعود إلى المسيح ويُريه جيشاً ومُدناً وممالك وسلطاناً ويقول له إنّه سيعطيه هذا كلّه إن سَجَدَ له، وهذا ما يُريده إبليس:”أن نسجد له”. فيقول له المسيح: “للرَّبِّ إلهك تسجد، وإيّاه وحده تعبد. وليس لأحدٍ سواه”. أمّا بشريّة اليوم، وخاصّةً مسيحيّو اليوم، فقد عادوا إلى الوثنية القديمة. صحيح أنّه ليس هناك تماثيل حجريّة أمامنا نسجد لها، لكن دَعُونا نتأمّل في واقعنا. أليس التلفزيون صنماً آخر؟ عندما تكون العائلة كلّها مخّدرة أمامه، ويبقى مشتعلاً أربعاً وعشرين ساعة، بسببه، لا حوار بين أفراد العائلة. ومثال آخر هو المال: ألا نرى كيف أنّنا أصبحنا نسعى وراء المال وتجميعه، لنشتري أموراً أكثر ونبني أكثر، ألا يكون المال بالتّالي إلهاً نسجد أمامه؟ نحن الذّين نقول لله كلّ يوم في صلاة الأبانا:” أعطنا خبزنا كفاف يومنا”، ونحدِّد للرّبّ أن ما يهمنّا هو أن يَستُرَنا وألاّ نكون في حالة عوز. ألا نسجد اليوم أمام الموضة والجسد؟ ألا نسجد لأمورٍ أخرى كثيرة؟ ومع ذلك نقول إنّ الوثنية قد ولّت، أقول لكم إنّنا قد عدنا إليها وبقوّة أكثر. تقول العذراء في إحدى رسائلها:”لماذا لا يأتي النّاس ويسجدون لابني الموجود في القربان، بينما هم يسجدون لعدّو ابني الموجود في التلفاز؟”. وإليكم مثال آخر: الهاتف الخليويّ. ألا يشكل التلفون اليوم لنا إلهاً؟ فنحن نمسك به أينما تواجدنا في غرفة النّوم، في الكنيسة، في المدرسة، وفي العمل. غريب كم أنّ الأمور تتغيّر، ونحن نصبح مأسورين من دون أن نشعر بذلك. وهذه كلّها خدعة من إبليس لنا.
وفي التجربة الثالثة ليسوع، عاد إبليس من جديد إلى الرّبّ ليجرّبه، ويضعه على مشارف الهيكل. إنّ إبليس يستشهد دائماً بكلمات من الكتاب المقدّس، فيطلب من الرّبّ أن يرمي بنفسه من على مشارف الهيكل، ويقول له إنّه مكتوب في الكتاب:”إنّ الله يوصي ملائكته بك كي لا تصدم رِجلك بحجر”. فيجيبه يسوع:”لا تُجَرِّب الرّبّ إلهك”. كيف نحن نُجَرِّب الرّبّ اليوم؟ بكلّ بساطة أقول لكم، عندما نشّك بالعناية الإلهيّة، نجَرِّب الله. فعندما أُصابُ بمرضٍ معيّن، أتساءل لماذا لا يشفيني الرّبّ. ونحن دائماً نسعى لكي نُظهر لله أننّا نصلّي، ونصوم، ونسجد ونقوم بما هو مطلوب منّا، لكن عند المحنة، لا نسمح لله بأن يتدخّل. هذا هو الشكّ بالعناية الإلهيّة، من المفترض أن نتحلّى بالرجاء أنّ ربّنا سيغيّر كلّ الأمور التّي أعيشها وسوف ينتشلني من المحنة التّي تعصف بي. واليوم كلّنا نجرِّب الله، ونشكّ به عندما نضعه خارج حياتنا اليوميّة ونقع بالخوف ونفكّر بالمستقبل الّذي غالباً ما يكون سوداويّاً. ويقول لنا الرّبّ أن لا نفكّر بالغد. كلّنا نفكّر بالغد، لكنّه يعود ويقول لنا إنّه يكفي لكلّ يوم شرّه.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.