عِظة للمونسنيور شربل أنطون،
كنيسة مار أنطونيوس الكبير – مستيتا، جبيل، الذكرى الرابعة لانطلاقة رسالة “اُذكرني في ملكوتك”.
لِنَدخل إلى الحياة الأبديّة،
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
تأسسّت جماعة “أذكرني في ملكوتك”، في رعيّتنا منذ أربع سنوات، وقد أَوكَلها الربّ رسالةً سماويّة هي نشر مفهوم القيامة في قلوب المؤمنين. “أذكرني في ملكوتك”، هي عبارة إنجيليّة تُعبّر عن طَلَبِ لصٍّ من الربّ يسوع: إذ اكتشف اللِّص اليمين من خلال حواره على الصّليب مع الربّ يسوع، هويّة الربّ الحقيقيّة، فآمن به وأعلن توبتَه عن خطاياه سائلاً الربّ أن يذكره حين يأتي في ملكوته.
بدايةً أودّ تسليط الضّوء على بعض القواعد الإيمانيّة المهمّة في كنيستنا الكاثوليكيّة. إنّ تعليم الكنيسة واضحٌ جدًّا، إذا إنّه قادرٌ على إعطاء الأجوبة الشافية لكلّ أسئلة المؤمنين، غير أنّ عدم اضطِّلاع الكثير منهم عليه، أدّى إلى ابتعادهم عن الإيمان الصَّحيح. إنّ أُولى تلك القواعد المهمّة في موضوع الموت والقيامة، هي الإيمان بوجود السّماء.
إنّ بعض المؤمنين يعتقدون أنَّ السّماء غير موجودة، وأنّ الكلام عنها هو مجرّد خرافات لا أساس لها، بينما يعتقد البعض الآخر أنّ السّماء هي مصيرهم المحتّم. إنّ يسوع قد جاء إلى أرضنا وبشَّر النّاس بالملكوت السماويّ، وما تعليمه في الإنجيل سوى دليلٍ واضحٍ على وجود السَّماء. أمّا القاعدة الإيمانيّة الثانية الّتي نستند عليها في موضوعنا اليوم، هي إيماننا بوجود “المطهر”. إنّ “المطهر” ليس ثمرةَ تأليفٍ بشريّ، أو نتيجةَ خيالٍ كنسيّ، بل هو عقيدة إيمانيّة كاثوليكيّة.
إنّ الكنيسة الكاثوليكيّة استندت على بعض النُّصوص الإنجيليّة لإعلان “المطهر” عقيدة إيمانيّة ومن هذه النُّصوص: كلام بولس في إحدى رسائله، عن “النّار الـمُطهِّرة”. في كلامنا عن الحياة ما بعد الموت، يجدر بنا الإشارة إلى أنّ “المطهر” هو حالة، وكذلك جُهنَّم أيضًا. إنّ جهنّم موجودة على الرّغم من إنكار بعض المؤمنين وجودها، إذ إنّ النّص الإنجيليّ واضح، إذ يقول الربّ للأشرار الّذين عن شماله: “إليكم عَنّي، أيُّها الملاعين، إلى النّار الأبديّة الـمُعَدَّة لإبليس وملائكته”(متّى 25/41). إنّ القدِّيس البابا يوحنّا بولس الثاني قال في هذا الصَّدد: إنّ مَن يُنكر وجود الشَّر، هو إنسانٌ لا يؤمن بالإنجيل.
أمّا الآن، فننطلق في حديثنا عن الملكوت فنقول إنّ الملكوت هو الحياة الجديدة. إنّ الربّ يسوع قد تجسَّد في أرض البشر، ليكشف لهم صورة الله الآب الحقيقيّة، فأدركوا أنّ الله هو أبٌ حنونٌ مُحبٌّ وغفور، ممّا ساهم في تعمُّقهم في إنسانيّتهم. إنّ الله الآب دعا أبناءه البشر إلى مشاركته الملكوت، أي أنّه بمعنى آخر، أراد خلاص نفوسهم أجمعين، وهذا هو تحديدًا الهدف مِنَ الإنجيل وكلّ القوانين الكنسيّة.
إنّ الكنيسة المجاهدة على هذه الأرض، تعمل على خلاص النّفوس، أي إلى وصول جميع أبنائها إلى الحياة الأبديّة بعد انتقالهم من هذه الفانية. إنّ الربّ يسوع قد وعدنا بأنّ مَن يؤمن به ينال الحياة الأبديّة، وهذا هو أساس إيماننا، إذ ليس مِن سببٍ آخر، يدفع المؤمنين إلى الالتزام بالمسيح وتحمُّل آلام هذه الحياة ومشقّاتها سوى رغبتهم في الوصول إلى الأبديّة أي في الخلود. إنَّ الموت عند المؤمنين بالمسيح لا يشكِّل نهاية لوجودهم، بل هو وسيلةٌ يَعبُر المؤمنون من خلالها إلى الحياة الثانية، حيث يتمتَّعون بمشاهدة الربّ وجهًا لوجه في الملكوت.
إنّ المؤمنِين يطرحون أسئلةً كثيرة حول تلك الحياة الثانية الّتي وعدهم بها الربّ، إذ بحسب قولهم، لم يعد أيًّا من الأموات، الّذين انتقلوا من هذه الحياة، ليُخبرنا عن الحياة في الملكوت. إنَّ الحياة في الملكوت هي أفضل بكثير من حياتنا على هذه الأرض، إذ يقول الكتاب: “ما لم تسمع به أُذنٌ، وما لم يخطر على فِكرِ إنسان، هو ما أَعَدَّه الله لـمُحبيّه”.
إنّ اعتقادنا بأنّ أمواتنا لم يتمكّنوا من العودة إلى هذه الأرض لإخبارنا بما اختبروه في الحياة الثانية هو خاطئٌ تماماً؛ فالأعمال الخارقة الّتي يقوم بها أمواتنا القدِّيسون، كمار شربل على سبيل المثال، مع أهل الأرض، يشكِّل دليلاً ثابتًا على أنّ هذا القدِّيس لم يمت بل هو لا يزال حيًّا، ويعيش في الملكوت مع الربّ. فلو كان أمواتنا قد فشلوا في الوصول إلى الملكوت، أي إلى الحياة الثانية، لَـما كان باستطاعتهم التدخّل في شؤون أهل الأرض، وشفاء البعض منهم من أمراضٍ مستعصية كالسَّرطان، على سبيل المثال.
إنّ دور جماعة “أذكرني في ملكوتك”، يكمن في تذكير المؤمنين بأنّ الموت وِفقًا لإيمانهم بالربّ يسوع، لا يشكِّل نهايةً، بل هو مجرَّد مرحلةِ عبورٍ، على جميع البشر اجتيازها للوصول إلى الملكوت. على الرّغم من كلّ خطاياه، كان اللِّص اليمين منتبهًا لحضور الربّ في حياته، لذا عند لقائه به آمن بالربّ فسأله أن يذكره حين يأتي في ملكوته، فأتاه الجواب سريعًا من الربّ: “اليوم تكون معي في الفردوس”.
إنّ القدِّيسين، حين كانوا على هذه الأرض، اشتاقوا لساعة لقائهم الأخير بالربّ يسوع، فانتظروها برجاء وإيمان وحبّ. في عهد نيرون، أي في زمن الاضطهاد، كان يتمّ رمي المسيحيّين للأُسود الجائعة كي تَنهَش لحمهم. أمام هذا الاضطهاد، كان المسيحيّون يتقدَّمون من ساحة الموت مرَنِّمين للربّ ومهلِّلين له شاكرينه على اقتراب ساعة لقائهم الأبديّ به. لقد اعتُبر تصرُّفُ هؤلاء المسيحيّين تصرُّفًا مجنونًا من قِبَل غير المؤمنين، أمّا هُم فقد كانوا يُدركون أنَّ موتهم لا يُشكِّل نهايةً لحياتهم بل هو مجرَّد عبورٍ من هذه الحياة إلى الحياة الثانية، إذ كانوا على ثقةٍ أنّهم سينالون المجد في السّماء.
إنّ جماعة “أذكرني في ملكوتك”، تهدف إلى تذكيرنا بهذا الإيمان، إيمان المسيحيّين الأُوَل، ولذا هي تحثُّنا على الصّلاة لأمواتنا واختبار تلك الشراكة بين أهل الأرض وأهل السّماء، من دون أن ننسى كلّ الأنفس الّتي في “المطهر”. بعد انتقالهم من هذه الفانية، لا يعود باستطاعة أمواتنا التكفير عن أخطائهم في هذه الأرض، لذا فإنّ الأنفس المطهريّة تحتاج إلى مساعدتنا من خلال الصّلاة، فتتنقّى من أخطائها وتُصبح مستعدَّة للقاء الربّ وجهًا لوجه في السّماء. هذا ما يدفع جماعة “أُذكرني في ملكوتك”، إلى ذِكر جميع الموتى المؤمنين من خلال القداديس الّتي تقيمها من أجل راحة نفوسهم، إذ تُدرِك أنّها من خلال هذا العمل تُساهم في خلاص الأنفس المطهريّة، أي في انتقالها إلى السّماء.
إنّ رسالة جماعة “أذكرني في ملكوتك”، هي تسليط الضّوء على تلك الحقيقة الإيمانيّة الّتي تجاهلَها الكثير من المؤمنين، فساروا كالعُميان في هذه الحياة غير مُدركين للمفاهيم الإيمانيّة.
إنّ خلاص النّفوس هو أمرٌ حقيقيّ لا مِن نسجِ خيال الكنيسة، وهو يتمّ من خلال صلاة الأحياء في هذه الأرض للمنتقلين من بينهم إلى الحياة الثانية. فإن كُنّا غير مصدِّقين لتلك الحقيقة، فإنّ قدَّاسنا لن يكون سوى مسرحيّة كبرى. في القدَّاس يتَّحِد المؤمنون بالربّ، وكذلك بأمواتهم. إنّ الربّ يدعونا إلى الجهاد في هذه الأرض، كي نتمكّن من الوصول إلى الملكوت بعد انتقالنا من هذه الفانية، فالربّ قال لنا: “من أراد أن ي
تبعني فليحمل صليبه ويتبعني”. إنّ جهاد المؤمن في هذه الأرض، يكون من خلال صلواته وأصوامه وإماتاته ومشاركته في الذبيحة الإلهيّة، لأنَّ هدفه هو مُعاينة وجه خالقه في الملكوت. إنّ الربّ قد سمح لبعض القدِّيسين، حين كانوا في هذه الأرض، من عيش حالةِ الانخطاف إلى السّماء، فشاهدوا جمالها، وإذا بألسنتهم عاجزةٌ عن وصفِ جمالِ ما رأوه لإخوتهم البشر.
إنّ الأنفس الّتي لم تتمكّن من التكفير عن أخطائها في هذا العالم، لن تتمكّن من التكفير عنها في “المطهر”، لذا تحتاج تلك الأنفس إلى مساعدة إخوتها البشر الأحياء في هذه الأرض. ولذا أدعوكم جميعًا إلى الصّلاة لأجل أمواتكم، لأنّ النّفس لا تستطيع الدّخول إلى السّماء إلّا إن كانت في حالةٍ من النّقاوة التّامة، لتتمكّن من معاينة وجه الربّ القدُّوس.
إنّ جميع البشر سينتقلون من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى، لذا فلنسعَ للصّلاة من أجل أمواتنا، عسانا نجد مَن يُصلّي لنا ويساعدنا على التَّطهر سريعًا من خطايانا حين تحين ساعة انتقالنا من هذا العالم.
ملاحظة: دُوِّنت العِظة بأمانةٍ من قِبَلِنا.