بدايةً، رأينا في اللّقاء الأوّل، مواصفات الـمُرافِق، وكيف يستطيع أن يكون فعّالاً، لأنّه لا يمكنه أن يُقلِّل من قيمة نفسه، عندما يَضعه الله أمام حدثٍ فيه موت، فيه ألم وَفيه وَجع، فيه خسارة وفيه يأس، وفيه تتوقّف الدّنيا بأسرِها في نظر المتألِّم. كم بالأحرى، نحن في جماعة “أذكرني في ملكوتك” الّذين أُعطينا نعمةَ أن نكون مع الموجوع ومع الحزين، في المكان الّذي فيه تُطرَح أسئلةٌ كثيرةٌ ومواقفُ كثيرةٌ وأفكارٌ كثيرةٌ. لذلك، سَيَكون هناك أربعة لقاءات: اللِّقاء الأوّل، وهو اليوم، فيه نَدخُل في عالم الحَدَث، أي عندما يتمّ الحدث؛ وسنتكلّم في هذا اللِّقاء كيف يكون الألم والحزن، وكيف تَكون المشاعر عند الشَّخص الّذي ألَمَّ به الـمُصاب، أي عند الشَّخص الّذي فقَد أحد أحبّائه، أحد أعزّائه، مِن أهله أو مِن أحد أقربائه.

أنتم تعلمون أنّ الحياة، بالنِّسبة إلى الإنسان، هي غير قادرة على أن تَحوي مشاريعه وأحلامه وخُطَطَه، إذ يجد أنّ الوقت الـمُعطى له في هذه الحياة هو غير كافٍ لتحقيق كلّ ما يَبتغيه، فهو يفكِّر في هموم عائلته، وكيفيّة معالجتها. وإذا به، في لحظةٍ معيّنة، يَلُمّ به الـمُصاب إذ يفقد أحد أحبّائه. وهنا عمليًّا، يتوقّف الزَّمن بالإنسان، ويُلغى المستقبل، ولا يعود بعدئذٍ، في هذه اللَّحظات، قادرًا على رؤية أيِّ شيءٍ، وفي الوقت نفسه يقوم هذا الإنسان بأوَّل ردَّة فِعلٍ تجاه الـمُصاب الّذي ألمَّ به وهي الإنكار. في هذه المرحلة، يرفض الإنسان أن يفقد أحد أحبّائه، وبالتّالي، يُصبح عقلُه غير قادرٍ على القبول بأنّ هذا الـمُصاب قد وَقع، ويُنكر حدوثه، ويسعى إلى تغيير سيناريوهات الحياة إذ يعتبر أنّ الـمُصاب الّذي تبلّغَ وقوعَه هو مجرَّد حُلم، أو كِذبة أو مَزحة. لذلك، في حالة الإنكار، يُصبح الإنسان كأنّه موضوعٌ في ثلّاجة. ولكن عندما يعود إلى الواقع، يؤكِّد له عقله أنّ الخسارة قد تمَّت، وأنّ الموت قد حصل، وبالتّالي أنّ هناك شخصًا لم يَعد موجودًا، أو أقلَّه هو موجودٌ أمامه، ولكن مِن دون حركة.

عندما يكون الإنسان في حالةٍ صراعٍ بين إنكاره لهذا الحَدث ورَفضه لحدوثه، يكون في حالةٍ من الغضب. في هذه الحالة، يبدأ الإنسان برَمي الإتِّهام على أيٍّ كان، دون أيّ حدود. إنّ الإنسان الّذي تعرَّض لهذه الخسارة، يَغضب على الربّ، كما يغضب على كلّ الموجودين، ويَغضب أيضًا على المشروع الّذي أدَّى إلى هذا الـمُصاب، ويغضب أيضًا على المتوفّي الّذي خَسِره. وفي نهاية المطاف، يغضب على ذاته، فيَبدأ بالمعاتبة وبالتَفوّه بكلامٍ لا يَمتُّ إلى الواقع بصِلَة.

بعد أن يتجاوز الإنسان هاتين المرحَلَتين، يَصل إلى مرحلةٍ تكون فيها الأمور قد أصبَحت واضحةً أمامه، إذ يُدرِك أنّ خسارته هي خسارةٌ حقيقيّة، لا يمكن أن تتغيّر. في هذه المرحلة، يشعر المتألِّم بفقدان الأمل. فالمتألِّم يفقد الأمل في كلِّ شيءٍ، إذ يرى كلّ الأمور من حوله بِسَوداويّة. وفي هذه المرحلة، يبدأ المتألِّم بِاعتبار كلّ المحيطين به أعداءً له، كما يرى أيضًا في الظروف، والحياة بِحَدِّ ذاتها عدوَّةً له.

بعد ذلك، يبدأ المتألِّم بالتَّفكير في ما إذا كانت هناك أسبابٌ لحدوث ذلك، وهذا ما سنستفيض في الكلام عليه في اللِّقاء الـمُقبِل. ولكن قَبْل الكلام على الأسباب والعتاب، نلاحظ أنّ هذا الشَّخص يبدأ بالانغلاق على ذاته، وبالغضب والصّراخ والتَفوّه بكلامٍ غير متَّزنٍ. وفي هذه الحالة، لا يكون بإمكانِ أحدٍ السّيطرة على هذا الوضع أو تغيير أيَّ شيءٍ في هذه الحقيقة الـمُرَّة.

هذا هو الجوّ العام للشَّخص الّذي يكون قد أُصيبَ بخسارة أحد أحبّائه.

أمّا القسم الثاني من موضوعنا اليوم، فَيتعلَّق بالمرافِق، الّذي انضمّ إلى الحدث ورأى كلّ هذا المشهد أمامه.

بدايةً، ما هو مطلوبٌ منَّا كمرافقين هو الانتباه لِكُلّ هذه المراحل الّتي يَمرّ بها المحزون، قَبْلَ الدُّخول إلى عالمه. فمُهمَّتنا تقوم على أن نَدخل إلى عالم المحزون لا أن نُخرجَه من عالمه لِنُدخِله إلى عالمنا. وهذا ما يُخطئ به الكثيرون إذ يحاولون إدخال المحزون إلى عالَمِهم، من خلال رَمي المحزون بكلّ كلمات الإيمان والثِّقة بالربّ، وذلك من أجل إعطائه أجوبةٍ عن تساؤلاتٍ هو غير قادرٍ على التفكير فيها في الوقت الحالي لأنّه في حالة غضبٍ وفوضى بسبب ما أصابه. هنا أودُّ الإشارة إلى أنّ أمام هكذا مُصاب، لكلِّ إنسان ردَّةُ فِعله الخاصّة والّـتي تختلف بين إنسانٍ وآخَر. في هذا الوقت، يقتصر دَورُ الـمُرافِق على الانتباه لطريقةِ تَصرُّف المحزون كي يتمكَّن من السَّير معه في مِشوار المرافقة.

لذلك، فإنّ أولى الخطوات المطلوبة من المرافِق هي أن يكون حضوره حضورًا صامتًا إلى جانب المتألِّم. في عالِمنا اليوم، هناك لغةٌ مهمَّةٌ جدًّا تُدرَّس ويتدرَّب عليها الكثيرون، وفيها يتمّ التركيز على أهميّة النَّظرة والوقفة إلى جانب الآخَر الّتي تُعبِّر عن تضحية الإنسان في سبيل الآخَر، كما يتمّ التركيز على أهميّة لمسة اليَد والكَتِف، وأهميّة التوجّه بجسدنا كُلِّه إلى المتألِّم كي نؤكِّد له أنّنا نشعر بما يَشعر به، منحَنين أمام ألمِه. وهذا كُلِّه يجب أن يكون من دون كلماتٍ.

عندما نرى، كمرافِقين، أنّ هذا الإنسان بدأ يشعر بالارتياح، وذلك من خلال تَوقُفِه عن التعبير عن وَجعه بالصّراخ والبكاء، والغضب وترداد كلماتٍ غير متوازنة. هنا، على المرافِق الاقتراب من المحزون، والطلب إليه أن يُخبرَه بما حَدَث. إنّ هذه الخطوة من قِبَل المرافِق هي في غاية الأهميّة، لأنّ التركيبة النَّفسيّة للإنسان المتألِّم تقوم على السَّعي إلى الهروب من هذا الواقع المحزن والعمل على إنكاره، إذ يُعبِّر بطريقة غضبيّة عمَّا ألـَمَّ به إذ إنّه غير قادرٍ على فَهمه. وبالتّالي، من خلال طلبه من الشَّخص المحزون أن يُخبره بما حَدَث معه، يقوم الـمُرافق بِرَدّ المتألِّم إلى قلب الحَدَث. وهذا هو المهمّ لأنَّه على المرافِق ألّا يسمح للمَحزون بالابتعاد عن الحَدَث، إنّما دَفعُه إلى إخبارِه بما حَدَث. 

هنا، يبدأ المحزون بإخبارنا بِما حَدَث، فَيَبدأ بالقول لنا إنّه تكلَّم مع الشَّخص المتوفِّي قَبْل وقتٍ قليلٍ من وفاته، وأنّه لم يكن يشكو من أيّ شيءٍ،… في هذه المرحلة، تقوم مَهمَّة المرافِق على مساعدة الشَّخص المتألِّم على إفراغ ما في داخله، من خلال حثِّه على إخبارِنا بأدَّق التَّفاصيل. وفي هذه المرحلة أيضًا، علينا بِطَرح السَّؤال: “ماذا حدث؟”، كي يتمكَّن الشَّخص المتألِّم من إفراغ كلّ ما في داخله، فيشعر بعد ذلك، بِحالةٍ من التوازن والاستقرار النفسيّ والجسديّ. عندما نُصغي إلى الشَّخص المحزون، علينا ألّا نُقاطعه في أثناء حديثه عمّا جرى معه بهدف الدُّخول في أدَّق التفاصيل. فمَهمّة المرافِق تقوم على أن يطرح على المحزون سؤالاً مفتوحًا هو: ماذا حدث؟، ليتمكَّن المحزون من التّعبير عن كلّ ما في داخله من دون عوائق.

عندما ينتهي من الحديث عمّا حدثَ معه، على المرافِق أن يطرَح على المحزون سؤالًا آخَر، وهو: ما الّذي فَعله حين تلقّى خبرَ الوفاة. في هذه المرحلة، يبدأ المحزون بإخبارنا كيف تلقَّى الخبر، أين كان وقتئذٍ وما فَعله من أجل الوصول إلى مكان الحَدَث. إنّ هَدف المرافِق في هذه المرحلة مساعدة المحزون على إخراج كلّ مشاعره الّتي طالَته في هذا الحَدَث، أي كيف تلقَّى الخبر وماذا فَعل ليَصل إلى مكان الحَدَث. إضافةً إلى ذلك، على المرافِق أن يُساعِد المحزون على إخراج كلّ عاطفته وحنانه وذِكرياته الحميمة، تجاه هذا المتوفّي، والّتي يشعر بأنّه فقَدها بموت هذا الإنسان، فالإنسان المتألِّم يُدرك أنّه لن يستطيع بعد الآن التواصل مع هذا الفقيد جسديًّا.

بعد انتهاء المحزون من إفراغ مشاعره، على الـمُرافِق الإضاءة له على كلّ الأمور الإيجابيّة الّتي قام بها المحزون، عند تلقِّيه هذا الخبر الـمُحزن. في هذه المرحلة، هدَفُ الـمُرافِق هو إلقاء الضَّوء على كلّ القرارات الواعية الّتي قام بها المحزون، والتّي تتطلّب منه قوّة وبطولة كي يتحمَّل هذا المصاب. وفي هذه المرحلة، أيضًا، على الـمُرافِق أن يُحمِّل المتألِّم المسؤوليّة من خلال القول له إنّ شخصًا آخَر ما كان ليتصرّف بهذه البطولة وهذه الشَّجاعة، عند سماعه هذا الخبر المحزن. عند سماعه هذا الكلام، يشعر المحزون بأنّ لديه دَورًا عليه القيام به ليتجاوز هذه المرحلة، إذ إنّه تمكَّن من مواجهة هذا الحدث الأليم بشجاعة وبطولة، لأنَّه تمكَّن من ضبط الأمور. إنّ هَدَف الـمُرافِق هنا هو أن يُظهر للمتألِّم أنّه يستطيع تخطِّي الوجع بقوّةٍ أكبر، طالما أنّه قد تمكَّن من التصرّف بشجاعة وبطولة عند سماعه هذا الخبر الـمُحزن.

بعد هذه المرحلة، على الـمُرافِق العودة إلى الصَّمت، لأنَّه بعد أن يكون قد قام بدَوره مع المحزون من خلال مساعدته على تشغيل عقله من خلال حَثِّه على إخباره بما حَدَث، ومِن خلال مساعدته على إخراج مشاعره وأفكاره من داخِله، ثمّ من خلال الإضاءة على الدَّور الإيجابيّ الّذي قام به المحزون عند تلقِّيه هذا الخبر الـمُحزن. 

يعود المرافق إلى الصَّمت، كي يتمكَّن الشَّخص المحزون من هَضِم كلّ ما قام بإخراجه من داخله، وذلك باستذكار الأحداث والتفاصيل الّتي جرت معه أوّلاً، ثمَّ باستذكار المشاعر والدَّور الإيجابيّ الّذي لَعِبَه في هذا الحدث المؤلم. بعد ذلك، سيعود المحزون من جديد إلى حالة البكاء والتَفوّه بكلماتٍ مملوءة بالعتاب والحزن، إضافةً إلى التَفوّه بكلماتٍ مملوءة بالتعزيات والرَّجاء، فالأشياء الّتي كانت مكبوتة في داخله، قد تمكَنَّا من مساعدته على إخراجها ليَضَعها أمامه. وبَعد تِلك المرحلة، سيتمكَّن المحزون من تَقَبُّل خسارَته. فمن دون حصوله على هذه المرافقة، كان من الممكن للمحزون أن يلجأ إلى الانغلاق على ذاته، والدُّخول بالتّالي في حالةٍ من الاكتئاب واليأس، كما كان من الممكن أن يقوم بتحطيم ذاته نفسيًّا من خلال أذيّة نفسه وتحميل ذاته مسؤوليّة وفاة هذا الشَّخص العزيز، كما قد يلجأ المحزون إلى إلقاء مسؤوليّة الوفاة على المتوفّي. 

وبالتّالي، سيكون المحزون في مرحلةٍ يشعر فيها بأنّه هو الّذي دَفع ثَمن هذا التّقصير، لذا سيتمنَّى الموت لِنفسه، وسيكون الشَّخص المتألِّم مَيتًا في هذه الحياة أكثر من الشَّخص المتوفّي نفسه. لذلك، مِن المهمّ جدًّا، إخوتي، مساعدة الشَّخص المتألِّم على إفراغ كلّ ما يتآكله من الدّاخل، من خلال حثِّه على وضعِ كلّ ذلك أمامه ليتمكَّن مِن تجاوزه. 

عندما يتكلّم الشَّخص المتألِّم على مشاعره وعلى تفكيره وعلى كلّ ما في داخله، على الـمُرافِق أن يلعب دور الـمُصغي الفّعال، فيكون صمته فاعلاً. على الـمُرافِق ألّا يحاول دعم المحزون بمعنى أنّه على الـمُرافِق ألّا يُشيد ببطولات الشَّخص المتألِّم، إنّما عليه أن يساعده على إخراج كلّ ما في داخله طارحًا السّؤال عليه: أنتَ ماذا فعلتَ أمام هذا الحدث؟ وهنا نُلقي الضّوء على الأمور الإيجابيّة الّتي قام بها. وعندما يتمكَّن المحزون من إفراغ ما في داخله، على المرافِق أن يتحلّى بالصّمت الفعَّال. وفي هذه اللَّحظة تحديدًا، يكون دَور الـمُرافِق قد انتهى، إذ أصبح يقتصر على الحضور الصّامت إلى جانب المحزون، من دون كلمات ولا تعزيات. فحضورنا الصّامت من شأنه أن يكون تلخيصًا لكلّ الكلمات الّتي يمكن أن تُقال.

هنا نطرح السّؤال: كم مِن الوقت تستغرق هذه المراحل الّتي على الـمُرافِق القيام بها؟ هذا الأمر يتفاوت بين شخصٍ وآخَر، كما أنّه يتفاوت استنادًا إلى عُمر الشَّخص المتوفّي إذا كان شابًا أو عجوزًا، ودرجة القرابة الّتي تَصِله بالشَّخص المحزون، إضافةً إلى الطريقة الّتي تمَّت فيها الوفاة. في كلّ حالةٍ من الحالات، علينا أن نجد الوقت المناسب لكي نبدأ بطرح السّؤال على المتألِّم: ماذا حدث؟ علينا ألّا نستعجل المتألِّم كما أنّه علينا ألّا نتأخّر في طرح السّؤال. كيف نستطيع تحديد الوقت؟ الوقت يكون مناسِبًا، عندما يستطيع المتألِّم التكلُّم معنا. فطالما أنّ هذا الإنسان لا يزال موجوعًا ومتألِّمًا، ويتفوّه بِكَلماتٍ غير منتظمة، وينتقل بالأحداث بطريقة غير متوازنة، علينا ألّا نتدخَّل. نتدخَّل عندما يتمكّن المتألِّم من قول كلّ ما يريد وهو ينظر إلينا. فكلامه ونظرته إلينا هما الإشارتان الواضحتان على أنّه أصبح قادرًا على فَتح المجال لنا كي نتواصَل معه، والبدء بمسيرة المرافقة. 

ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلنا.