مفهوم الموت في الجنّاز المارونيّ،

للخوري سيمون جبرايل، 

المقدمة:

إن الاحتفال برتبة الجنّاز الذي تعيشه الرعيّة والعائلة والذي يشارك فيه العديد من الكهنة والمؤمنين من الرعايا المجاورة هو دليل على التضامن والشركة بين ابناء الكنيسة وعلى ايمانهم بالقيامة والحياة الابدية. تشكّل الصلاة الجنائزيّة بعدًا اساسيًّا من حياة الكنيسة السائرة بفرح الايمان والرجاء والمحبة نحو ملكوت الله. ومن الطبيعي امام هذا الحدث- السر ان يلجأ الانسان الى كل ما يُدخله في عالم الله، يُصلّي، يبكي، يلبس الثياب السوداء، يصمت ويتوسّل رحمة الله… لن اتوقف اليوم عند هذه العادات وغيرها التي ترافق رتبة دفن الموتى ولا عند المراحل والاقسام التي يتألف منها الجناز الماروني لانَّ مداخلتي تنحصر فقط حول مفهوم الموت في صلوات هذه الرتبة.

1- في تسمية رتبة دفن الموتى

ان التسمية الاكثر تواترًا وشيوعًا في الليتورجيّة المارونيّة لرتبة دفن الموتى هي “المرافقة” وليس “الجناز”. لماذا كتاب المرافقة وليس كتاب الجنّاز؟ لأنّ كلمة مرافقة تحمل بعداً لاهوتيًّا اسكاتولوجيًّا أعمق من كلمة جنّاز. فكلمة جنّاز جنٍيزًا المشتقّة من السريانيّة تعني غير المنظور والمدفون. أما كلمة مرافقة لِويًا فتعني السير معاً اي مرافقة الموتى في مسيرتهم الأخيرة من هذه الدنيا الى مثواهم الأخير. أن ترافق أحدًا ما، يعني أن تمشي معه، أن تكون في حالة إصغاء له، وعلى استعداد للاهتمام به، وتقديم المساعدة الضرورية واللازمة له. ويعني أيضا أن تتواصل معه وتحاوره، وتشجّعه ليثبت على ايمانه وليستمرّ في الطريق التي تقوده إلى خلاصه. وهذا ما تشير اليه صلوات والحان ليتورجيّة كتب المرافقة والصلوات المخصصة للموتى.

2- مفهوم الموت

تمتاز صلوات الليتورجيّة المارونيّة ببعدها الاسكاتولوجي النُّهيَوِيّ. وهي تعتبر الموت تحوّلاً وعبورًا من هذه الحياة الفانية الى الحياة الجديدة في الملكوت السماوي. ولكي نفهم المعنى اللاهوتي للموت علينا ان نفسره على ضوء كل تاريخ الخلاص. و كتب المرافقة تورد عدة رموز وافعال في سياق كلامها وحديثها عن سر الموت. ان شرح هذه الرموز والافعال يعبر عن مفهوم الموت عند الكنيسة المارونية.

2. أ- الموت هو عبور وانتقال

المعنى الاول للموت هو ” العبور” (عبر) و”الانتقال” (عند) من هذا العالم وهذه الحياة الى حالة جديدة وعالم جديد. إن صورة الراقدين الحجاج الذين يعبرون من هذه الحياة الى الحياة الجديدة هي صورة تتكرر بتواتر في الألحان. يعتبر هذا العبور على انه سفر وهجرة. وفي السفر هناك طبيعياً الشعور بالفراق والبعد والحزن ولكن هناك أيضًا امل ورجاء بلقاء جديد. لذا لا يمكن لغياب جسد الميت ان ينفي حضوره. ولذلك ترافق الكنيسة الميت وهي تشجعه لان موته ليس الا عبورًا، يرافقه فيه المسيح ليعبر المكان المخيف المليء بالمخاطر ليصل به الى الملكوت السماوي.
وفي هذا العبور تصلي الكنيسة لكي يصل الميت الى ميناء الخلاص. فالحياة تشبه السفينة التي تبحر في العالم حيث الإنسان مهدد دومًا من الشر والخطيئة. ولكنه لا يخاف عبور البحر وتحدّي امواجه واضطراباته لان المسيح يسوع هو القبطان الذي يقود سفينته الى ميناء الراحة والسعادة الابديّة.
إن العبور والوصول الى ميناء الخلاص لا يتحقق إلا من خلال ” جسر”. لانّه من الطبيعي أن يكون هناك جسر يربط بين العالم المرئي والعالم الغير المرئي. إن مفهوم الجسر هو خلاصي لأنه يؤكد الطابع الاسكاتولوجي. الجسر يقود الإنسان من مثوى الأموات الى الضفة الأخرى. والجسر يمثل الصليب والمعمودية والافخارستيا. انّ لكلّ واحد من هؤلاء له دور اساسي في مساعدة الميت في عملية عبوره. فهم المرافقون في سفر الميت وانتقاله الى الملكوت السماوي.

” صليبك ربّي يكون جسرًا لامتك التي نقلتها مشيئتك وبه تنجو من الظلمة، وتلبس ثوب المجد، وتدخل الى ارضك مُشرقة الوجه، عندما تأتي مع ملائكتك. وتضيء امامك مصباحها.
لك المجد يا رب” .
” ألجسم والدّم والمعموديّة والصليب يكونون مرافقين لها. زيّنها يا رب بلباس النور في اليوم الذي تكون فيه الاحكام المبرمة” .
إن هذا العبور يقتضي طبيعيًّا انفصال بين الجسد والروح. وهذا يقود الى مفهومين مختلفين للموت. فمن جهة يفقد الإنسان بالموت الوحدة بين هذين العنصرين اي جسده وروحه. ومن جهة أخرى يؤدي الموت الى انفصال وافتراق بين الميت واقاربه واحبّائه وجماعته اي كنيسته. هذا الفصل والانفصال والافتراق ليس ابديًّا انما مؤقت لانه في النهاية ستتحد الروح بالجسد، والميت سيلتقي بكنيسته مرة أُخرى في يوم القيامة.

2. ب- الموت رقاد وانتظار

الموت كرقاد هو الصورة والمعنى الأكثر شيوعاً في الليتورجية المارونية. انه رقاد في ظلمة القبر والتراب وهو رقاد على رجاء القيامة. وهذا يدلّ على انّ الموت ليس فناءً ولا تلاشيًا انما انتظار للقيامة. اذن المَيْت لا يموت ابداً والدليل على ذلك هو انه في تواصل مع كنيسته من خلال الحوار المستمر بينهما طيلة فرض الجناز. ففي كل الألحان يتوجه الميت بالحديث الى كنيسته واخوته. وهذا يعني انه حتى في موته هو حي أبدًا. يرافق هذا الرقاد راحة حتى يوم مجيء الرب. في الرقاد يرتاح الإنسان من كل ما يختربه في حياته الأرضية وينتظر الخلق الجديد وايقاظه من رقاده وخلاصه من عبودية الموت والخطيئة والتحرر من سلطة الشيطان وقواته.

” ابعث يا ربنا بحنانك الموتى الذين رقدوا على رجائك، واكلوا جسدك وشربوا دمك، وهم ينتظرون يوم تجلّيك. نجّهم من العذاب ومن الظلمة البرّانيّة…”

ساد الاعتقاد قديمًا ان الانفس ترقد في الشيول أي مثوى الاموات. يشكل هذا الشيول خلفيّة اساسية من صلوات ليتورجيّة الموت في الكنيسة المارونيّة. في الشيول، اي مملكة الموت، يختبر الاموات الخوف واليأس ولذلك ينتظرون تدخّل الله الخلاصي الذي تحقق في يسوع المسيح. لقد نزل المسيح الى هذا الشيول وزرع الرجاء في الراقدين وخلّصهم من سلطانه. لنسمع هذه الصلاة :

” خلص يا رب من ولاية الموت روح عبدك الذي نقلته مشيئتك من هذا العالم، وأصعد نفس الساجد لك من سلطة الشيول، واسكنها في منازل النور والراحة برحمتك، واهّله للدخول الى نعيمك في يوم ظهورك…”
ليس الموت اذاً فناءً بل انه انتظار في التراب ليوم القيامة. انه كالحلم حيث يدخل الراقدون في الراحة الجسدية وفي النوم اللاواعي. واذا كان الحلم ينتهي باليقظة، فالموت ينتهي بالقيامة. وكما يغلّف الليل النائمين هكذا يحبس الموت الراقدين. إن الموت المرتبط بالليل له وجهان: الأول هادىء حيث تنتظر الروح مكافأتها وهي تعبر هذه الحالة بالامان والفرح. وهذا الموت لا يشكّل خطرًا على الانسان بالرغم انّه يفقده قواه الجسديّة، لانّ عزاءه ورجاءه يرتبطان بايمانه بالقيامة. امّا الوجه الثاني للموت فهو مخيف لانّه يبعد الانسان عن الله في انتظار الدينونة والحكم الرهيب والمصير الأبدي بعيداً عن وجه الله.

2. ج – الموت فراق مؤقت بين النفس والجسد

إن النفس في الموت تفارق الجسد ولا تعود اليه إلا في القيامة. لذلك فالموت ليس إبادة الروح والجسد ولكنه فراق مؤقت بينهما. فالجسد يدل على الانسان ككائن بيولوجي تحييه الروح. وهو أيضاً يدل على الإنسان كشخص علائقي. انه المادة الحية والعنصر الخارجي المرئي للانسان الذي يجعله في علاقة مباشرة مع العالم ومع الآخرين. اما الروح فهي ” الصورة ” اي صورة الله في الإنسان. انها اصل الحياة وبها يوجد الإنسان. ولكن الروح لا يمكنها ان توجد بحد ذاتها فهي بحاجة الى الجسد. انها ظهور الجسد في العالم. الروح والجسد يشكلان وحدة الإنسان بكليته. في الموت تعود الروح الى الله فيما الجسد يرتاح في القبر الى يوم القيامة.
نستنتج إذًا بان الجسد هيكل الروح ومسكنه الزمني، يفقد قدرته على الحياة عندما يوضع في القبر. ويتعرض الى عوامل الانحلال ويعود الى التراب في انتظار انبعاثه. اما الروح فانها تعود الى الله برفقة الملائكة اي انها بعد فراقها للجسد تستمر في الوجود ما وراء عالمنا الظاهر. لذلك تصلّي الكنيسة لله لكي يُرسل ملائكته الى ملاقاة انفس الابرار لتقودها الى مساكن النور والحياة. وتطلب منه ان يُخلّصها من المكان المليء بالخطر والخوف وينقُلها بامان الى مسكن الراحة حيث تنتظر يوم القيامة بالفرح والبهجة.
إذًا في هذا الرقاد يرتاح الجسد في ميناء الحياة بينما تذهب الروح لترتاح في منازل الأفراح. إن الفعل المستعمل للحالة الاولى اي حالة الجسد هو “ارتاح” وهو يدل على الثبات والأستقرار والتوقف عن الحركة أي الموت. بينما الفعل المستعمل في الحالة الثانية للروح فهو “ذهب” ويشير الى الانتقال والعبور، والحركة والفعل اي الى اللاموت والخلود. وهكذا فإنّ الروح بعد الموت تنتقل الى راحة في حركة دائمة بقصد تأليهها لأنها في علاقة أبدية مع الله. ولكن بالرغم من ان هذه الروح تتمتع في الموت باستقلالية مؤقتة بابتعادها عن الجسد، الا ان مصيرها النهائي يرتبط باتحادها مع هذا الجسد المتحوّل في الدينونة الأخيرة.

3- الصلاة من اجل الموتى

تذكر الكنيسة موتاها في صلاتها بطريقة شبه متواصلة لانها تنظر اليهم وكأنهم احياء يشاركون معها في الصلاة رغم غيابهم الجسدي. وفي ليتورجيّة الجنّاز هناك تقاليد عديدة للصلاة على الميت، تعود جذورها القرون الأُولى للمسيحيّة. فمثلاً تُقام الصلاة من اجل الميت في اليوم الثالث نسبة للحيّ القائم من بين الاموات في اليوم الثالث. وفي اليوم التاسع تذكارًا للاحياء والاموات. وفي اليوم الثلاثين لانه هكذا بكى الشعب موسى. ويُقام تذكار السنة للميت ويوزّع من ماله صدقة للفقراء وتذكارًا له. وقد يطلب اهل المتوفّي من الكاهن إقامة قدّاسات خاصة في الآحاد والاعياد لراحة نفس موتاهم.
مهما كانت هذه التقاليد متنوّعة ومتعددة فإن معنى الصلاة من اجل الموتى هو واحد. فالصلاة شأنها شأن الصليب، والمعموديّة، والافخارستيّة هي رفيق الميت في طريقه نحو الابديّة. وهي الجسر الذي يعبر من خلاله الميت المكان المليء بالمخاطر الى مكان الحياة والسعادة الابديّة.
تصلّي الكنيسة من اجل ان يغفر الرب خطايا الموتى وجهالاتهم التي اقترفوها بتعدّيهم وصاياه خلال حياتهم. ترتبط هذه الصلاة بالدينونة لان مصير الأموات اصبح بين يديّ الله الذي يجازي كلَّ انسان بحسب اعماله. ولا يستطيع الانسان ان يتهرّب من اعماله لانّها تشهد على حقيقة حياته.

الصلاة من اجل الموتى هي ربح ومساعدة للاحياء إذ تساعدهم على تخطّي احزانهم لفقدانهم من يحبون وتوعّي وتثبّت في قلوبهم الايمان بالقيامة والرجاء بلقاء المتوفي في ملكوت الله.
والصلاة تخفف خوف المتوفّي وتزيل يأسه فهي الحصن الذي به ينجو من مثوى الأموات هذا المكان المخيف ليرث الحياة في الملكوت. من هنا فإنّ الصلوات والقرابين تفيد هؤلاء الموتى إذا تحرّك نحوهم رحمة الله وحنانه ليقيمهم من عن يمينه ويريحهم في ملكوته يوم مجيئه الثاني.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp