“مَثَل الوليمة العظيمة”( لو 14: 15-24)
تأمّل للأب ابراهيم سعد،
ضمن لقاءات التنشئة لشبيبة “أذكرني في ملكوتك”.
“فلمّا سَمِع ذلك واحدٌ مِنَ المتَّكئين، قال له: “طوبى لِمَن يأكلُ خُبزًا في ملكوت الله”. فقال له: “إنسانٌ صَنع عشاءً عظيمًا ودَعا كثيرين. وأرسَل عَبدَه في ساعة العشاء، ليقول للمَدعوِّين: تعالَوا لأنّ كُلَّ شيءٍ قد أُعِدَّ. فابتدأ الجميع برأيٍ واحدٍ يَستَعفون. قال له الأوَّل: إنِّي اشتريتُ حَقلاً، وأنا مُضطَّرٌ إلى أن أخرج وأنظُرَه. أسألك أن تُعفيَني. قال آخر: إنِّي اشتريْتُ خمسة أزواجٍ بَقرٍ وأنا ماضٍ لأمتَحِنَها. أسألك أن تُعفيَني. قال آخر: تزوَّجتُ بامرأةٍ، فلذلك لا أقدِرُ أن أجيء. فأتى ذلك العبدُ وأَخبرَ سيّدَه بذلك. حينئذٍ، غضبَ ربُّ البيت، وقال لِعَبده: أخرُج عاجلاً، إلى شوارع المدينة وأَزِّقَتِها، وأَدخِلْ إلى هنا المَساكين والجُدْعَ والعُرجَ والعُميَ. فقالَ العَبدُ: يا سيِّدُ، قد صار كما أَمرْتَ؛ ويوجدُ أيضًا مكانٌ. فقالَ السَّيِّدُ للعَبد: أُخرُج إلى الطُرُق والسِّياجات وألْزِمْهم بالدُّخول حتّى يمتلِئَ بيتي؛ لأنِّي أقول لكم: إنّه ليسَ واحدٌ مِن أولئك الرِّجال المَدعوِّين يذوقون عشائي” (لوقا 14: 15-24).
يُقدِّم لنا هذا النَّصُّ قِصَّةً لا منطِق فيها: أوَّلاً، مِن حَيثُ طريقة الدَّعوة؛ ثانيًا مِن حيثُ الـحُجَج المقدَّمة للتَّعبير عن رفضِ الدَّعوة. يبدأ هذا النَّص بعبارة: “طوبى لِمَن يأكُلُ خبزًا في ملكوت الله”، وهي نتيجة حديثٍ أعطاه الربُّ يسوع في المقطع الإنجيليّ السَّابق لهذا النَّص. وفي خُلاصةٍ لِما وَرَد في المقطع السَّابق، طلب الربُّ يسوع إلى السَّامعين له، أن يقوموا بدعوة الّذين لا يستطيعون مكافأتهم، إلى تناول العشاء معهم، إذ قال لهم: إنْ دَعيْتُم إلى العشاء معكم مَن يستطيع دعوتكم في المقابل، كالجيران والأصدقاء والأقارب، فأيُّ فضلٍ لكم؟ إنَّكم قد نِلتُم مكافأتكم على هذه الأرض. أمّا إذا دَعَيْتُم إلى العشاء الّذين لا يستطيعون مكافأتكم، كالفقراء والمساكين والعُرج والعميان، فإنّكم ستنالون مكافأتكم لا من الأرض بل مِن السَّماء.
انطلاقًا ممّا سَبَق، أَخبَرنا الإنجيليّ لوقا هذه القصَّة، فقال لنا إنَّ سيِّدًا قد دعا إلى العشاء أشخاصًا يَعرِفهم، فتَمَّنَعوا عن الحضور إلى هذا العشاء، لأسبابٍ واهيةٍ، غير منطقيّة وغير مقنعة. يُخبرنا الإنجيليّ لوقا أنّ هذا السَّيد قد أقام عشاءً عظيمًا ودعا إليه الكثيرين، ولكنّ الغريب في الأمر، هو أنّ هذا السَّيد دعا هؤلاء إلى العشاء في ساعة العشاء، لا قَبْل موعد العشاء بِفَترةٍ زمنيّة: عادةً، يقوم الإنسان بدعوة النّاس إلى مشاركته مُناسبةٍ تَخصُّه، مُسْبقًا، مُحدِّدًا لهم الزَّمان والمكان، مُتَمنيًّا عليهم الحضور. وهنا يقول لنا الإنجيليِّ: “فابتدأ الجميع برأيٍ واحدٍ يَستَعفون”، وهذا يعني أنّ الجميع قد اتَّفَقوا على عدم الحضور، مُقدِّمِين حُجَجًا غير منطقيّة، إلى الخادم الّذي أرسَلَه السَّيِّدُ لِدَعوتهم. كانت الـحُجَّة الأولى أنّ الـمَدعوّ إلى العشاء قد اشترى حَقلاً وهو يريد أن يذهب لِيَراه في المساء.
ولكن استنادًا إلى هذا النَّص، نجد أنَّ العشاء قد استمرَّ، إذ طلبَ ربُّ البيت مِن خادمه أن يذهب إلى الطرقات ويدعو المهمشِّين إلى عشائه، وهم أشخاصٌ مرذولون مِن المجتمع، عادةً لا تتمُّ دعوتَهم إلى المناسبات الاجتماعيّة، فَلبُّوا تلك الدّعوة، وتمَّ العشاء. إذًا، لقد استمرَّ العشاء، ولكن مع تغيير في المدعوِّين. قد يحضر إنسانٌ حفلةَ زفاف، فيُخيَّل إليه أنّ الّذين تمَّتْ دعوتهم إلى تلك الحَفلة هم فقط الحاضرون، ولكنّه يَغفل أنَّ العريس قد دعا عددًا أكبر من ذلك بكثير، ولكنَّ قِسمًا منهم قد اعتذر عن الحضور، فاعتقد هذا الإنسان أنَّ المدعوِّين إلى هذه الحفلة هُم فقط الّذين لبّوا تلك الدَّعوة. إنّ المدعوَّ لا يُسمَى مدعوًّا إلّا إذا لبَّى الدَّعوة.
إذًا، لا امتيازَ أبديًّا للإنسان في ما يخصُّ تلبيَتَه دعوة الله. هذه هي مشكلة اليهود، إذ اعتقدوا أنّهم أصبحوا شعب الله المختار حين لبُّوا دعوته، واعتقدوا أنّ هذا الامتياز محصورٌ بهم، ولا يمكن لله أن يختار شعبًا آخرَ له سواهم. بمعنى آخر، اعتقد الشَّعب اليهوديّ أنّ القرار هو مُلكُهم، أي أنّهم يستطيعون حين يشاؤون عدم تلبية دعوة الله لهم، أي التخلِّي عن الربّ، فيُصبح الله من دون شعب؛ وحين يشاؤون يُلبُّون دعوته، فيعودون إليه، ويُصبحُ اللهُ من جديد إلـهَهم، وَهُم شعبه. إنّ الله ليس حِكرًا على شعبٍ معيَّن، فحين يرفض شعبٌ ما دعوةَ الله، لن يتوقَّف مشروع الله، إذ سيقوم الله سريعًا بالبحث عن شعبٍ آخر ليتابع معه مسيرة الخلاص، فَهدفُ الله الأساسيّ، هو أن يتحقَّق مشروعه الخلاصيّ للبشر، مع الشَّعب المختار، أي الشَّعب اليهوديّ، أو سِواه من الشُّعوب.
إخوتي، إنّ الله لا يُرَهَّب ولا يُرَّغب. إذًا، الله يتكلَّم، وعلى مَن يسمَع نداءه، أن يُلبيّ، ليكون ضمن شعب الله. ولكنْ حين يتوقّف هؤلاء عن تلبية نداء الله، يتوقَّفون عن كونهم “شعب الله”، لأنّهم ما عادوا يلبُّون دعوة الله لهم، فيتحوّلون إلى أعداء الله، حتّى ولو كانوا في نَظرِ أنفسِهم لا يزالون ضِمن شعب الله. فَلِهذا الاسم بُعدٌ وظائفي، وبانتهاء هذا البُعد، يزول هذا الاسم عن الشَّعب، الّذي لا يخضع لكلمة الله وندائه. إنّ الشَّعب اليهوديّ أعلَن قبولَه دعوة الله له، ولكنّه في العمق رَفض تلك الدَّعوة، إذ اعتقل الربّ واقتاده إلى الموتِ صَلبًا، ونحن اليوم لسنا بأفضلِ حالٍ منه، لأنَّنا نَصلُب الربَّ في كلّ يومٍ بطُرقٍ مختلفة، ومنها: رَفضُ تلبية دعوته لنا لمشاركته العشاء بِحُججٍ واهيةٍ، مِن خلال إهمالنا لحاجات إخوتنا المهمَّشين والفقراء. ما هو مطلوبٌ مِنّا إذًا، هو العمل على تلبية حاجات إخوتنا ضِمن قُدراتِنا المتاحة لنا.
إنّ هذا العشاء، هو صورةٌ عن اليهود، الّذين رَفضوا تلبية دعوة الله لهم للعشاء. منذ القديم، قام الله بِتَهيئة الشَّعب لمجيء المخلِّص مِن خلال أنبياء كثيرين قام بإرسالهم لهذا الشَّعب، فأعلن الشَّعب قبوله هذه الدَّعوة، ولكنّه رَفض تلبيتها، وعندما جاء المسيح قدَّم له حُججًا واهية، تعبيرًا عن رفضه لتلك الدَّعوة. وأهَمُّ تلك الـحُجج الّتي قدَّمها الشَّعب هي أنّ مجيء الربِّ سَيُزعزع سُلطَةَ رؤساء اليهود، ففضّل هؤلاء قتلَ الربِّ على زعزعة استقرار الأُمَّة، إذ قال رئيس كهنة اليهود في يوم محاكمة الربّ: “خيرٌ لنا أن يموت واحدٌ عن الأُمّة”.