هَرَبْ الطِّفل يسوع مع أبَوَيه من بيت لحم إلى مِصر،

عظة الأب يوسف الخوري في كنيسة سيّدة الخلاص- مرجبا.

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

في هذا المساء، تتلو الكنيسة على مسامِعنا إنجيلَ هَرَبْ الطِّفل يسوع مع أبَوَيه من بيت لحم إلى مِصر، كما تتلو على مسامِعنا أيضًا نصًّا من الرسالة إلى العبرانيين عن خروج الشَّعب اليهوديّ من مِصر إلى أرض الميعاد مع النبيّ موسى. في مقارنةٍ بين هذين النَّصين، نجد أنّ النبوءة: “مِن مِصر دعوت ابني”، الّتي يذكرها الإنجيليّ قد تحقّقت في العهد القديم مع موسى النبيّ، وتحقّقت في العهد الجديد أيضًا مع يسوع المسيح. عندما حقّق الربّ خلاصه للشَّعب اليهوديّ، بإخراجهم من أرض مِصر، احتفل الشَّعب بهذا الخروج، مقدِّمين الذبائح لله، فكان الفِصح اليهوديّ الأوّل مع موسى. وتخليدًا لهذه الذكرى، قرّر الشَّعب الاحتفال بالفِصح سنويًّا، تَعبيرًا عن فرحهم بخلاص الربّ لهم. لقد طلب الله من موسى رشَّ أعتاب بيوت المؤمِنِين بِدَمِّ الذبائح، تعبيرًا عن مباركته للشَّعب، وبذلك كان موسى لا نبيًا وحسب، بل كاهنًا أيضًا. إنّ الربّ يسوع هو نبيّ العهد الجديد، على مِثال موسى، نبيّ العهد القديم، إذ أخبر الشَّعبَ بكلمة الله الحقّة، فنال كلّ مَن آمن بها غفران خطاياه والحياة الأبديّة في الملكوت السماويّ، أي الخلاص.

في هذا النَّص الإنجيليّ نبوءتان، الأولى:”مِن مصر دعوتُ ابني” (متى 2: 15)، والثانية:”صوتٌ سُمِعَ في الرّامة، بكاءٌ ونحيبٌ شديد، راحيل تبكي على بَنيها، وقد أَبَت أن تتعزّى، لأنّهم زالوا من الوجود” (متى 2: 18). لقد ظهر ملاك الربِّ ليوسف في الحُلم لِسَبَبَين: الأول، لِيَطلب منه الهروب إلى مِصر مع الطِّفل وأمّه؛ والثاني، لِيَطلب منه العودة إلى بيت لحم، لأنّ هيرودس المجرم قد مات. وبالتّالي، من خلال استجابة يوسف لملاك الربّ، تحقّقت النبوءة الأولى. أمّا النبوءة الثانية، فقد تحقّقت حين قَتَل هيرودس الـمَلك كلّ أطفال بيت لحم، الّذين هم دُون السَّنَتَين من العُمر، إذ سُمِع صوت الأمهّات يَبكِين أولادهنَّ، في كلّ مدينة بيت لحم. إذًا، إنّ خلاص الربّ للبشر لم يتمّ إلّا بعد أن تحقّقت جميع نبوءات العهد القديم، الّتي قيلت في الربّ يسوع، وقد سبّب تحقيق تلك النبوءات آلامًا وعذابًا لبعض البشر، كمقتل الأطفال وبكاء الأمّهات، وهذا ما يدفعنا إلى طرح العديد من التساؤلات، حول إيماننا بالربّ، وخلاصه لنا. لقد قتَل هيرودس الملك أطفال بيت لحم، لأنّه خاف أن يَنتَزِع منه الربّ سُلطَته الأرضيّة، وبذلك أراد الله أن يقول لنا إنّ شرّ البشر لا يستطيع أن يعيق مسيرة الخلاص، فالربّ قادرٌ أن يحوِّل شرّ البشر لما فيه خَيرُ أحبّائه المؤمِنِين به. إنّ “راحيل” هي زوجة يعقوب ابن اسحق ابن ابراهيم، وهو أحد آباء العهد القديم، وبالتّالي أراد الإنجيليّ القول إنّ خلاص الربِّ لنا، مرتبطٌ بالعهد القديم، فخلاص الربّ هو تحقيق لنبوءات العهد القديم، من خلال آباء الكتاب المقدَّس. إذًا، لا يمكننا أن نَفهم سرّ الخلاص بـمَعزلٍ عن العهد القديم.

في مسيرة الخلاص، كانت هناك مسيراتٌ بين بيت لحم ومصر، مليئةٌ بالدِّماء والمعاناة: فالشَّعب اليهوديّ انتقل من بيت لحم إلى مِصر بسبب المجاعة التّي حلَّت في أرض اليهوديّة. والربّ هرب من بيت لحم باتِّجاه مِصر، بسبب حبِّ هيرودس الملك للسُّلطة، فروّى ذلك الملكُ الأرضَ بدماء أطفال بيت لحم. إذًا، إنَّ تحقيقَ الربِّ لوعوده مع البشر لا يتمّ دون آلامٍ وأوجاعٍ بشريّة. ولذا نحن مدعوِّون اليوم، من خلال هذا النَّص الإنجيليّ إلى التأمُّل في مسيرة حياتنا، لنتمكَّن من رؤية حضور الله فيها على الرُّغم من كلّ الصُّعوبات والآلام، الّتي تواجهنا في حياتنا. إنّ الله يدعونا إلى انتظار الخلاص، مُـحتَمِّلين الآلام والصّعوبات الّتي تواجهنا في حياتنا. إنّنا مدعوِّون إلى الصّراخ إلى الربّ في وقت صعوباتنا، لنتمكّن من رؤية خلاص الربِّ لنا في حياتنا. في مسيرته في الصّحراء، عانى الشَّعب اليهوديّ من الجوع والعطش، فصرخ إلى الربّ، فسمع الربُّ صراخ شعبه واستجاب لطِلباته.

إنَّ ملاك الربّ ظهَر في الحلم ليوسف، وطلب منه الهرب إلى مِصر مع مريم والطِّفل، لأنّ هيرودس يريد أن يُهلِك الصّبي. لقد أراد هيرودس الملك قَتل يسوع، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، قَتَل كلّ أطفال بيت لحم، وبالتّالي مات هؤلاء الأطفال بسبب يسوع، ولكنّ الربّ عاد وخلَّصهم بموته على الصّليب وقيامته، فكانت لهم ولجميع النّاس أيضًا الحياة الأبديّة. لم يكن موت أطفال بيت لحم، بسبب يسوع، إنّما بسبب شرّ هيرودس وحبِّه للسُّلطة. إذًا، إنّ أنانيّة البشر لا تُعطي إلّا موتًا، أمّا محبّة الله لنا فلا تُعطي إلّا حياةً وخلاصًا لجميع البشر، إذ إنّها قادرة على أن تُبَلسِمَ أوجاع النّاس وتخفِّف ثِقل صعوباتهم اليوميّة. إنَّ الربّ أيضًا تحَمَّل معنا صعوبات هذه الحياة، ليجعلنا من جديد أبناءً لله. إنّ الله قد تجسَّد في مغارةٍ فقيرةٍ، وصار إنسانًا وتحمّل آلام هذه الحياة، ليعلِّمنا أنّ الإنسان ضعيف، وهو بحاجة لله في مسيرته على هذه الأرض. إنَّ الله يرافقنا في مسيرتنا الأرضيّة، لأنّه يريد أن يمنحنا الفرح والسّلام والحياة، فنكون شهودًا حقيقيّين على تجسُّده وقيامته، للآخرين، مُعلِنين أنّنا أبناء الله حقًّا.

إنّ الحياة الأرضيّة تمنحنا الفُرصة، لنُعبِّر للآخرين من خلال أعمالنا اليوميّة، أنّنا حقًّا أبناء الله، إذ إنّنا مدعوّون إلى تمجيد الله من خلال أعمالنا اليوميّة. ولكن إن لم يشعر الإنسان حقًّا بمحبّة الله له واهتمامه به، فهو لن يكون قادرًا على الإعلان بأنّه ابن الله حقًّا، وبالتّالي لن يجد أيّ فائدة من صلاته إلى الله، أو مشاركته في الذبيحة الإلهيّة. إنّ الله لم يخلُقِ الإنسان ليتركه وحده يصارع صعوبات هذه الحياة، بل إنّه يبقى بجانب الإنسان طيلة حياته على هذه الأرض، ولكنَّ المشكلة تكمن في عدم شعور الإنسان بحضور الله في حياته. أن يكون الإنسان ابنًا لله، فهذا يعني أنّه شريكٌ له في الميراث، في ميراث المجد، في ميراث الحياة، ميراث الفرح والعزّة والكرامة، وهذه كلُّها لا أحدٌ يمكنه أن يمنحك إيّاها سوى الله. وبالتّالي حين تعيش حياتك الأرضيّة بكرامة الله وعزّته ومجده، فإنّك عندها ستشعر بأنّك حقًّا ابن الله وتُثبِت للآخرين أنّك حقًّا تلميذٌ ليسوع المسيح. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp