عظة الأب عبود عبود الكرمليّ،

في دير يسوع الملك- زوق مصبح.

وصيّة المحبة،

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

في هذا اليوم المبارك، نجتمع كي نجدِّد حياتنا مع يسوع المسيح من خلال الصلاة، والايمان، والذبيحة الإلهيّة أي في الاشتراك في جسد المسيح ودمه، ولكي نتذّكر أيضًا أمواتنا الّذين سبقونا. صحيح أنّنا نتذّكرهم في كل آن، لكن اجتماعنا هو فرصة كي نتذّكرهم بطريقة جماعية، مع بعضنا البعض.

إنّ هذا الأسبوع هو الأسبوع الأخير من زمن القيامة، زمن الفصح. إنّ زمن القيامة هو زمن انتصار يسوع المسيح على الموت، والخطيئة، وانتصاره على الانسان. بحسب انجيل الأحد المنصرم، يعطينا يسوع وصيّةً جديدةً، وهي أن نحبّ بعضنا البعض كما هو أحبّنا، أي أن نحبّ بعضنا على طريقة يسوع، وليس على طريقتنا. ونحن إذا أردنا أن نحبّ يسوع كما هو أحبّنا، فعلينا أن نُضحيّ بأمور كثيرة كما قرأنا في رسالة اليوم، التّي تتناول عالمين: عالم ما قبل مجيء يسوع المسيح، وعالم ما بعد مجيئه. إن العالم قبل يسوع المسيح كان عالم الشهوات، والسّلطة بل أكثر من ذلك، كان عالم استغلال الإنسان لأخيه، وجعله عبدًا له. أمّا بعد يسوع المسيح، فقد أصبح الانسان ابن الله، وقد أصبح البشر جميعًا إخوة تجمعهم المحبّة. يدعونا يسوع من خلال هذه الوصيّة إلى أن نحبّ بعضنا البعض بالمحبة الّتي أحبّنا بها يسوع على الصليب. فما من إنسان في التّاريخ استطاع أن يضحيّ كما ضحّى يسوع المسيح في حياته. من الممكن أن نجد بعض الأشخاص الّذين يضّحون ببعض الأمور البسيطة كصحتّهم، أو مالهم، أو وقتهم، لكنّهم لم يُضحّوا بحياتهم. أمّا يسوع المسيح فقد ضحّى من أجلنا بكلّ شيء، حتّى بحياته، الّتي هي أغلى ما يملكه الإنسان. “ما من حبٍّ أعظم من أن يبذل الإنسان حياته في سبيل أحبائه”، هذا هو الحبّ العظيم، هذا هو حبّ يسوع المسيح. إنّ يسوع المسيح في هذا الأسبوع يدعونا إلى أن نحبّ بعضنا بعضًا في العائلة، في المجتمع، في الكنيسة، وفي العالم. إنّ يسوع قد دعانا إلى أكثر من ذلك، دعانا إلى أن نحبّ أعداءنا أيضًا، وليس فقط أحباءنا. إذًا على حبّ الإنسان أن يكون متجسدًا مع الآخرين، وليس أن يكون حبًّا أنانيًّا. إنّ هذا الحبّ المتّجسدّ مع الآخرين يسببّ أوجاعًا، وآلامًا، لكنّه مدعاة للفرح أيضًا. لا نريد أن نتذّكر الحزن والألم، فيسوع أعطانا الفرح والسّلام: لقد أخذ كلّ آلامنا، وصعوباتنا، ومشاكلنا، وأعطانا بدلاً منها الفرح، والسّلام، والمحبّة الّـتي تظهر من خلال أعمالنا. إنّ محبتنا ليسوع ستظهر للآخرين من خلال أعمالنا، فهي ستُظهر أنّ يسوع قد غيّر حياتي وأنّه يملك عليها. إنّ محبتي للآخر لا يجب أن تكون بالكلام، إنّما كذلك بالأفعال الّـتي تُترجَم بمساعدة الآخرين في الأمور الّتي يحتاجون فيها لمساعدة. إنّ يسوع في الانجيل يدعونا إلى أكثر من ذلك، فهو يقول لنا: “من يخدمني فليتبعني”، وإتّباع يسوع يجب أن يكون إلى الصّليب، فالمسيح يقول لنا في مكان آخر: “اِحمل صليبك كلّ يوم، واتبعني”. وفي بعض الأناجيل ترد “عبارة اِحمل صليبك، واتبعني” بينما في إنجيل آخر ترد: “احمل صليبك كلّ يوم، واتبعني”. إنّ عبارة كلّ يوم تعني كلّ لحظة، إذًا علينا أن نحمل صليبنا كلّ يوم ونتبع المسيح. إنّ المسيحيّة هي صليب. في الأيّام الغابرة، كان المسيحيّ يعلّق صليبًا كبيرًا في رقبته دليلاً على أنّ هذا هو صليبه الّذي يحمله، أمّا اليوم فقد أصبح المسيحيّ يضع صليبًا صغيرًا تماشيًا مع الموضة. إنّ صليب المسيح الّذي نحمله هو صليب آلامنا وأوجاعنا، وآلام الآخرين الّتي نشترك فيها مع الكنيسة، فنحن لسنا موجودين وحدنا، بل نعيش مع الآخرين.
والعذراء مريم، الّتي نكرّمها في هذا الشهر المبارك، عرفت كيف تخدم ابنها وتتبعه حتّى أقدام الصّليب. تخيّلوا معي كم تعذّبت هذه الأمّ حين كانت تحت أقدام الصّليب، تنظر إلى ابنها يتألمّ، يتعذّب، ويموت. لقد خدمت مريم يسوع، وتبِعَتهُ حتّى أقدام الصّليب، فعلى هذه الأمّ الّتي أطاعت كلمة الله من دون أن تفكِّر، وتحلّل كثيرًا، أن يكون لها دور مهمّ في حياتنا. فعلينا في بعض الأمور الإيمانيّة أن نضع تفكيرَنا وتحليلَنا لكلمة الله جانبًا، ونسير خلف يسوع واثقين به. في بعض الأحيان، علينا أن نستسلم لإيماننا بالرّبّ متحلّين بتواضعٍ ومحبّة كبيريْن، فنستطيع أن نخدم الآخرين من دون مقابل، فيصل يسوع إليهم عبر خدمتنا لهم. إنّ التفكير مليًّا بالأمور الإيمانية، وتحليلها، والتفكير بما يمليه علينا المنطق يكبِّلنا، ويجعلنا غير قادرين على القيام بأي أمرٍ، وذلك لأنّنا نفكّر بما سيقوله الآخرون. بل علينا أن نقوم بالأمور الّتي يطلبها منّا يسوع، وإن كانت تعاكس المنطق العامّ، فنكون عند ذلك قد ذهبنا إلى العالم كلّه، وأعلنّا البشارة له.
في الصّعود، صعد يسوع المسيح إلى السّماء ليحضِّر لنا منازلَ في الملكوت، إذ إنّ في بيت أبيه منازلَ كثيرة. لقد وعد يسوع الرسل الحزانى بأنّه سيرسل إليهم الرّوح القدس المعزّي الّذي سيعطيهم الاندفاع، لينطلقوا من جديد في الكنيسة، فيعيشوا يسوع ويبشِّروا به، وكان ذلك يوم العنصرة. وهكذا انطلقت الكنيسة، من اثني عشر رسولاً إلى العالم كلّه. انتشرت المسيحيّة، وما زالت تنتشر على الرّغم من ضعفها، وذلك لأنّ الرّسل قد تخلّوا عن حبّهم لذاتهم، وعن حبّ الأمور الطبيعيّة الملموسة من أجل حبٍّ أعظم. هذه هي حال القدّيسين، فالقدّيس أصبح قدّيسًا لأنّه تخلّى عن كلّ شيء، فحصل على كلّ شيء، لقد تخلّى عن كلّ الأمور الّتي تُغري الانسان في حواسه، في نظره، وحصل على كلّ شيءٍ ألا وهو المسيح.

في جماعتنا “اُذكرني في ملكوتك”، هذه الجماعة الّتي كبرت، وانتشرت في العالم أجمع من خلال الصلاة وذكر الموتى في صلواتنا والتأمّل، لأنّ التأمّل الشخصيّ مهمّ جدًّا في حياة المسيحيّ. نؤمن أنّ علاقتنا مع أمواتنا تستمّر ولا تنتهي، فنحن لم ننسَهم، لا بل على العكس، فهم ما زالوا موجودين في حياتنا أمام أعيننا، بإيماننا. وسنلتقي بهم يومًا ما، نحن نصلّي لهم لكي يصلّوا لنا هم بدورهم، فنكون متّحدين. فبالصلاة تتحدّ الكنيسة الأرضيّة، والكنيسة السّماويّة. ونصّلي كي نكون حاضرين عندما ينادينا الرّبّ لملاقاته، والفرحة تغمرنا إذ سنلتقي بالرّبّ وبأمواتنا. نصلّي كي نكون فعلاً ممجدّين للّه، ومسبّحين له في ذلك اليوم، وهذا ما أتمناه للجميع. آمين.

 

 

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp