محاضرة للأب مارون اسطفان المريميّ،

خادم رعيّة مار ضوميط – عين الخروبة، المتن.

“ولا نُريد، أيّها الإخوة، أن تجهلوا مصيرَ الأموات لِئلّا تَحزنوا كسائرالنّاس الَّذين لا رَجاء لهم” (1 تس 4: 13 -18)،

بِاسم الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

النصّ الإنجيليّ:

“فكَما أَنَّ الخَطيئَةَ دَخَلَتْ في العالَمِ عَن يَدِ إِنسانٍ واحِد، وبِالخَطيئَةِ دَخَلَ الـمَوت، وهٰكذا سَرى الـمَوتُ إِلى جَميعِ النَّاسِ لِأَنَّهُم جَميعًا خَطِئوا… فالخَطيئَةُ كانَت في العالَمِ إِلى عَهْدِ الشَّريعة، ومَع أَنَّه لا تُحسَبُ خَطيئَةٌ على فاعِلِها إِذا لم تَكُنْ هُناكَ شَريعة، فقَد سادَ الـمَوتُ مِن عَهْدِ آدَمَ إِلى عَهْدِ موسى، سادَ حتَّى الَّذينَ لم يَرتَكِبوا خَطيئَةً تُشبِهُ مَعصِيَةَ آدم، وهو صُورَةٌ لِلَّذي سيَأتي. ولٰكِن لَيسَتِ الهِبَةُ كَمِثْلِ الزَّلَّة: فإِذا كانَت جَماعَةُ النَّاسِ قد ماتَت بِزَلَّةِ إِنسانٍ واحِد، فبِالأَوْلى أَن تَفيضَ على جَماعَةِ النَّاسِ نِعمَ اللهِ والعَطاءُ المَمْنوحُ بِنِعمَةِ إِنسانٍ واحِد، أَلا وهو يسوعُ المسيح. ولَيسَتِ الهِبَةُ كَمِثْلِ ما جَرَّت مِنَ العَواقِبِ خَطيئَةُ إِنسانٍ واحِد. فالحُكْمُ على أَثَرِ خَطيئَةِ إِنسانٍ واحِدٍ أَفْضى إِلى الإِدانة، والهِبَةُ على أَثَرِ زَلَّاتٍ كَثيرةٍ أَفضَت إِلى التَّبْرير. فإِذا كانَ المَوتُ بِزَلَّةِ إِنسانٍ واحِد قد سادَ عن يَدِ إِنسانٍ واحِد، فما أَحْرى أُولٰئِكَ الَّذينَ تَلَقَّوا فَيضَ النِّعمَةِ وهِبَةَ البِرِّ أَن يَسودوا بالحَياةِ بيَسوعَ المسيحِ وَحدَه”. 

التأمّل في النّص الإنجيليّ:

سَوف نبدأ لقاءنا بالصّلاةِ الأجمل على قلوبنا، صلاةِ الأبانا: “أبانا الّذي في السَّماوات، ليَتقدَّس اسمُكَ، ليأتِ مَلكوتكَ، لتَكُن مشيئتُكَ كما في السَّماء كذَلِكَ على الأرض. أعطِنا خُبزَنا كفافَ يَومِنا، واغفِر لنا ذنوبَنا وخطايانا، كما نحن نَغفِر لِمَن أخطأ إلينا، ولا تُدخِلنا في التَّجارب، لكن نجنِّا مِنَ الشِّرير، لأنَّ لكَ الـمُلكَ والقوَّة والمجد، إلى أبد الآبدين. آمين”.

بدايةً، أوَدُّ أن أشكُرَ الدّكتور مايا على هذه المقدِّمة، كما أودُّ أيضًا أن أشكُرَ السَّيِّدة مارغريت الصَّياح، ابنةَ رعيَّتي، إذ من خلالها تَلقَّيتُ الدَّعوةَ إلى هذا اللِّقاء، الّذي هو بِعُنوان: “ولا نُريدُ، أَيُّها الإخوَة، أَن تَجهَلوا مَصيرَ الأَموات لِئَلَّا تَحزَنوا كَسائِرِ النَّاسِ الَّذينَ لا رَجاءَ لَهم”(1 تس 4: 13). إنَّ هذا العنوان مأخوذٌ مِن رسالةِ القدِّيس بولس الأُولى إلى أهل تسالونيكي، وتحديدًا الآية الأُولى من الإصحاح الرَّابع الّذي فيه يَتناولُ بولس الرَّسول موضوعَ الموتِ والمجيءَ الثّاني للربّ. إنَّ السَّيِّدة مارغريت الصَّياح أخبَرَتني أنَّ جماعة “أذكرني في ملكوتِكَ” تُقيم لقاءات تَنشئةٍ تتمحور حول مَوضوعِ الموت، كما تُقيم القداديس الاحتفاليّة مِن أجل الموتى. إذا تَعمَّقَ الإنسان في رسالة هذه الجماعة، يُدرِك أنَّها تَنطَلِقُ مِن مَواضيعَ حول الموت، لتَتمكَّن مِن الغَوصِ في عُمقِ الحياة: فالتَّفكيرُ في موضوعِ الموتِ يَدفعُ الإنسانَ إلى إعادة النَّظر في طريقة عَيشِه لهذه الحياة، فيُغيِّر كلَّ سُلوكٍ لا يُرضي الله.

إنَّ موضوعَ الموت يُخيفُ الكَثيرين، لأنّ النَّاس غالبًا ما يَجهلُون ما الّذي ينتظرُهم بعد الموت، فكلُّ ما هو مَجهولٌ عند الإنسان يُشكِّل مَصدَر خَوفٍ له؛ أمَّا بِالنِّسبة إلينا، نحن المؤمِنِين، فإنّنا نُدرِك أنَّ الحياةَ الأبديّة سَتَكون بانتظارِنا بَعد مَوتِنا الأرضيّ. على الرُّغم من إيماننا بالحياة الأبديّة، ما زِلنا نَسمعُ البعضُ يَقول: إنّ أحدًا من الموتى لم يَعُد ليُخبِرَنا بما اختبَرَه في الحياة الأبديّة، أو زوَّدَنا بِصُوَرٍ من عالَمِ ما بَعد الموت! لذلك، يَشعرُ هؤلاء بِالخَوف من عالَم ما بَعد الموت، خصوصًا أُولَئكَ الّذينَ يواجِهونَ صعوبةً في قبولِ فِكرةِ الانفصال عن أحبَّائهم، ولذا نُلاحظ أنّهم لا يَبرحونَ يَطَرحون أسئلةً حول مَصيرِ أحبّائهم ونَمَطِ حياتِهم في الحياة الأبديّة!

إنّ هذا النَّصَ الّذي نتأمَّلُ فيه اليوم من رسالة القدِّيس بولس إلى أهل تسالونيكي، يُقدِّم لنا أجوبةً على تساؤلاتنا هذه! هذه الرِّسالةُ هي مِن أقدَم نُصوص العهد الجديد، بِحَسبِ الدِّرسات البيبليّة؛ وهي موَّجهةٌ إلى جماعةٍ من المؤمِنِين مِن أصلٍ يهوديّ، قَبلَت الإيمانَ بالربِّ يسوع منذُ وَقتٍ قصيرٍ عن يدِ بولس الرَّسول الّذي علَّمَها المبادئ الإيمانيّة الأوَّليّة، قَبل أن يُغادِرها. ولكنَّ بولس الرَّسول ما لَبِثَ أن عاد إليها مُعطيًا إيّاها هذا التَّعليم، قائلاً: “ولا نُريدُ، أَيُّها الإِخوَة، أَن تَجهَلوا مَصيرَ الأَموات لِئَلَّا تَحزَنوا كَسائِرِ النَّاسِ الَّذينَ لا رَجاءَ لَهم” (1 تس 4: 13).

لقد وجَّه بولس الرَّسول هذه الكَلمات إلى جماعةٍ غير متجذِّرة في إيمانها، أي إلى جماعةٍ ضَعيفةٍ في الإيمان، أي إلى جماعةٍ تُشبهنا.كانت جماعةُ تسالونيكي مِن أُولى الجماعات الّتي تمَّ تَبشيرُها؛ وقد كانت تعتقد أنَّ مَجيءَ الربِّ سيَكُون قريبًا في الزَّمن، لذا كانت تَطرحُ السُّؤال من جهةٍ عن جَدوى الاستمرار في التّعب والشَّقاء في هذه الحياة، ومِن جِهةٍ أُخرى عن مَصير الّذين ماتوا قَبل مَجيء المسيح الثّاني، وما إذا كانوا سيتمكَّنون مِن معاينة وجه الربِّ. إنَّ هذا الاعتقاد، الّذي هو نوعٌ من الجَهِل للإيمان الحقيقيّ، قد دَفع أهل تسالونيكي إلى الغَرَق في حالةٍ من اليأس العميق والحزن الشَّديد عند انتقالِ أحبّائهم من هذه الأرض من خلال الموت. عندما نَفقِدُ أحبّاءَنا، يُخالِجُنا نوعان من الحزن: الحزن الأوَّل هو حزنٌ إنسانيّ طبيعيّ، ناتجٌ عن شعور بالفُقدان نتيجة الفراغ الّذي تَركَه أمواتُنا في قلوبنا بِغِيابهم الجسديّ عنَّا؛ أمّا الحزن الثّاني، فهو حزنٌ يعكسُ عدمَ إيماننا بالحياة الأبديّة، إذ ينتابُنا اليأس ونُصبح في حالةٍ من العداوة مع الله. إنّ النَّوع الأوَّل من الحُزن هو صِحيٌّ؛ أمّا النَّوع الثّاني، فَمِن المفتَرَض ألّا يكون موجودًا عند المؤمِنين بالربِّ يسوع القائم من بين الأموات. في زمنِ بولس، كان الوثنيِّون يَغرقون في اليأس إذ لَم يكن لديهم رَجاء، كَونهم لا يؤمنون بالربّ؛ وبالتَّالي كلُّ مَن لا يعيش الرَّجاء في حياته، هو إنسانٌ غير مؤمنٍ بالربّ.

في هذا النَّص، يَطرح بولسُ الرَّسول موضوعَ الموتِ الأرضيّ والحياةِ الأبديّة. إنَّ الحديثَ عن الـمَطهر لا يُشير إلى مكانٍ مُعيّنٍ، بل هو يُعبِّر عن حالة يعيشها المؤمن استنادًا إلى علاقته بالربِّ يسوع. لقد دَفع الربُّ يسوع المؤمِنِين إلى التَّصالح مع فِكرة الموت، من خلال موته على الصَّليب وانتِصاره عليه بالقيامة. حين نَنظرُ إلى المسيحِ المصلوب على الصّليب، نُدرِك معنى الموت، وحين نرى قيامته مِن بين الأموات، نُدرِك معنى الحياة؛ فحياتُنا كمؤمِنِين مرتبطةٌ بشخصِ يسوع المسيح. إنّ كلَّ مسيحيّ مدعوٌّ إلى التَّشَبُّه بالمسيح فِكرًا وقَولاً وعَملاً، وأيضًا إلى التَّشَبُّه به في موتِه وقيامتِه.

إنّ الربّ يسوع الّذي تَجسَّد في أرضِنا وشابَهنا في كلِّ شيءٍ، علَّمنا أنّ الموت لَيسَ نِهايةَ كلِّ شيء، إذ بَعد كلِّ موتٍ قيامةٌ. كان القَرنُ العشرون مَليئًا بالحروب والدَّمار والموت. لذلك، بعد انتهاء الحروب، قام البابا بِيُّوس الثّاني عَشر، الحَبر الأعظم خلال فَترةِ الحرب العالميّة الثّانية، بإعلان عقيدةِ انتقالِ السَّيِّدة العذراء بالنَّفس والجسد إلى السَّماء، سنة 1950. مِن خلال إعلانه هذه العقيدة، أراد البابا بِيُّوس الثّاني عَشر أن يُذكِّر المؤمِنين بأنَّ العذراء مريم قد انتَقَلَت إلى السَّماء بالنَّفس والجسد، على مِثال ابِنها الّذي انتصرَ على الموتِ بالقيامة، والّذي بشَّرنا بالحياة الأبديّة. 

إنّ مَصيرَ أمواتِنا المؤمِنِين بالربِّ، سيَكُون مُشابِهًا لِمَصير العذراء مريم، وهذا يعني أنّهم سَيَنالونَ الحياةَ الأبديّة بَعد مَوتِهم الأرضيّ. إنَّ هذه العقيدة قد أيقظَت في المؤمِنِين الرَّجاء، الّذي غالبًا ما يتجاهلونَه، عندما يعترض الموتُ حياتَهم. عند تعرُّضنا لحادثة موتٍ، علينا ألّا نُفكِّر في الأمر بطريقةٍ بَشَريّة وحسب، إنّما بطريقةٍ نابعةٍ من إيماننا بالربِّ يسوع. إنّ إيماننا بالربِّ يسوع لا يَنبع فقط من تفكيرنا العقلانيّ في الأحداث الّتي تعترض حياتنا، إنّما أيضًا بِمَعرفَتِنا به.

من خلال الآية الأُولى من هذا النَّصّ، أراد بولس أن يَحُثّ المؤمِنين على التَّعمق في معرفَتِهم للمسيح لا فقط التَّركيز على مَصير أمواتِهم، لأنّ َمعرِفَتنا للربِّ يسوع هي الوحيدة القادرة على دَفعِنا إلى التَّصالح مع فِكرة الموت. قد يعتقد البَعض أنّ التَّواصل مع أمواتِهم والإيمان بالحياة الأبديّة يتطلَّب منهم مجهودًا جبَّارًا، ولكن الحقيقة تكمن في أنَّ نَظرَتنا إلى الموت تَعكس عُمقَ علاقَتِنا بالربِّ يسوع: فكُلَّما تعرَّفنا على الربِّ أكثر، تصالحَنا مع فِكرة الموت أكثر. وهذا ما نَكتشِفُه حين ننَظر إلى الأشخاص الـمُحيطِين بنا، إذ نلاحظ أنّ الّذين يَتَمتَّعون بعلاقةٍ قويّةٍ مع الربَّ، يَتَشوَّقون إلى الموت، ليتمكَّنوا من معاينة وجه الربِّ. وخيرُ مِثالٍ لنا على ذلك، هُم الأشخاص الـمُشرفون على الموت نَتيجَة معاناتِهم من مَرضٍ خبيث، الّذين يعيشون في حالةٍ من السّلامَ الدَّاخليّ على الرُّغم من معرفَتِهم بِدُنوِّ ساعةِ انتقالِهم من هذه الأرض، لأنّهم يَجِدون فيها تحقيقًا لرغبَتهم في لقاء الربِّ وَجهًا لِوَجه. إنّ أمثال هؤلاء يُدرِكون أنّ الحياة مع الربَّ، تبدأُ في هذه الحياة الأرضيّة، أي قَبل مَوتِهم الأرضيّ، وتَستمرُّ في الموت وبَعده أيضًا. 

إنّ إيمان هؤلاء بالحياة الأبديّة يستند إلى علاقتهم بالربّ يسوع، فتِلك العلاقة هي الّتي ساعَدتهم للاستعداد للعبور من هذه الأرض إلى الحياة الأُخرى بسلامٍ. إنّ التَّفكير في موضوع العبور، أي الموت، هو أمرٌ صَعبٌ جدًّا، ولكنَّ مَعرفَتَنا بالربِّ وحبَّنا له يُساعداننا على التَّصالح مع هذه الفِكرة: فحين نَجهلُ الربَّ، نحن لا نَجهلُ عَقيدةً تُعلِّمنا إيّاها الكنيسة، إنّما نَجهل شَخص يسوع المسيح في حدِّ ذاته؛ وهذا ما يؤكِّده لنا بولس الرَّسول في الرِّسالة الّتي وجَّهها إلى أهل تسالونيكي، إذ قام بِتَكرار عبارة “الربّ” بِكثرةٍ، انطلاقًا من الآية الرّابعة عشرة من هذا الإصحاح.

“فأَمَّا ونَحنُ نُؤمِنُ بِأَنَّ يَسوعَ قد ماتَ ثُمَّ قام، فكَذٰلِك سيَنقُلُ اللهُ بِيَسوعَ ومعَه أُولٰئِكَ الَّذينَ ماتوا”: من خلال هذا الكلام، أرادَ بولس تَذكير المؤمِنين الخائفِين على مَصَير أمواتهم الّذين انتقلوا من هذه الحياة قَبل الـمَجيء الثّاني للربّ، أنّ الربَّ يسوع الّذي يؤمنون به، قد قام وانتصَر على الموت بالقيامة، ولذلك هو سيُقيمُ جميعَ المؤمنِين به الّذين ماتوا قَبل مَجيئه الثّاني، وهذا يعني أنّ هؤلاء سيتمكَّنون من رؤيته وجَهًا لِوَجه. هنا، قد يتساءل البَعض:كيف سيَكون الـمَجيء الثَّاني للربّ؟ إنّ اعتقاد أهل تسالونيكي بأنّ الربَّ آتٍ قريبًا، هو اعتقادٌ خاطئ، والدَّليل هو مرورُ ما يَفوق الألفَي سنة على المجيء الأوَّل للربّ، من دون أن يتحقَّق مَجيئه الثّاني. لا أحدَ يُدرِك ساعةَ مجيء الربِّ الثّاني! وهُنا يُطرَح سؤالٌ آخر، هو: هل سيَكون مَجيء الربِّ الثّاني مُشابهًا لِمَجيئه الأوَّل؟ في هذا الإطار، أودُّ أن أقول لكم: إنّ الربَّ الّذي اختبرناه بعد مَجيئه الأوَّل وسَمعنا تَعاليمه وسَعَينا إلى تَطبيقها في حياتنا، سَيَكُون هوَ نَفسُه الّذي سَنلتَقيه عند مَجيئه الثّاني. 

إنّ أجسادنا في السّماء ستَكُون أجسادًا نورانيّةً، أي أجسادًا ذات طبيعةٍ مُختلفةٍ عن تِلك الّتي نَحيا فيها اليوم. إنَّ كلَّ ما أعطانا إيّاه الربُّ عند إيماننا به من فَرحٍ لا يزول وسلامٍ داخليّ ومِن وعدٍ بالحياة الأبديّة سُيلازمنا إلى يومِ مَجيئه الثّاني؛ وهذا ما أكَّده لنا الربُّ حين قال قُبيَل صُعوده إلى السّماء لِتلاميذه، الّذين رافقوه مُدّة ثلاث سنوات في حياته التَّبشيريّة: “ها أنا مَعكم كلّ الأيّام، حتّى انقضاء الدَّهر” (متى 28: 20). مِن خلال هذا الكلام، يدعو الربُّ تلاميذه إلى الثِّقة بأنَّ ما اختبَروه معه لن يتغيّر، عند تَغيُّر حالاتهم أو واقِعهم.

إنَّ الفَرح الّذي نَختَبره عند لقائنا بالربِّ وثِقتنا به، سيَدفعاننا إلى تَغيير نَظرَتِنا إلى الموت: إنْ كُنّا نعيش في حالةِ بُعدٍ عن الربّ، سنَخاف من التَّفكير في موضوع الموت، لأنّ إيمانَنا ضَعيفٌ؛ أمَّا إذا كُنّا في حالةِ قُربٍ من الربِّ، فلن نَخاف من التَّفكير في الموت، لأنّ إيماننا يَمنحنا القوَّة ويُشدِّدنا لنتمكَّن من مواجهته. حين نَكون في حالةِ قُربٍ من الربِّ، وتَعترض حياتنا حادثة موتٍ لأحدِ أحبّائنا، فإنّ تلك الحادثة ستتحوَّل إلى مُناسبةٍ لِنعيش من خلالها مَسيرة نُضجٍ روحيّ وإنسانيّ. إنّ هذه المسيرة قد اختبرها العديد مِنكم دون شكٍّ، إذ اكتشفوا جرّاء ألمٍ عاشوه نتيجة فقدان عزيزٍ لهم بطريقةٍ مفاجئة، أنَّ كلَّ شيءٍ يَعود بالخَير على الّذين يُحبُّون الله. إذًا، الموت هو حدثٌ زمنيّ، يَعتَرضُ حياتنا الأرضيّة فيَدفعنا إلى إعادة النَّظر في الحياة الّتي نعيشها، فنَكتَشِف قيمتها وأهميّتها؛ كما نَكتشف أهميّة الربِّ في حياتِنا، فنُدرِك أنّ حياتنا من دونه لا طَعمَ لها. للأسف، نحن نُعطي أهميّة في حياتنا الأرضيّة لأمورٍ زائلة، غير أنّ الحقيقة هي أنّ الربَّ يسوع هو الّذي يُعطي القيمة لحياتنا الأرضيّة، وهذا ما نُدرِكه عند موت أحد أحبِّائنا إذ نَكتشف أنّ كلّ شيءٍ زائل، ما عدا الله، فهو الوحيد الباقي إلى الأبد.

إنّ الإنسان المؤمن يواجه الموت، عند لقائه الحيّ بالربّ يسوع. إنّ البابا فرنسيس يتَّفق مع البابا بنديكتوس السّادس عشر في تَحديد المسيحيّة من خلال القَول إنَّ المسيحيّة ليست مجموعةَ أفكارٍ أخلاقيّة حميدة يَعيشها المؤمن بل هي لقاء المؤمن بالمسيح يسوع. وما تَصرُّفاتنا الحسنة مع الآخرين، القائمة على حبِّ الخير ونَبذِ الشَّر، إلّا تَجسيد لحياتنا المسيحيّة. إنَّ لقاء المؤمن بالربّ لا ينتهي بالموت، بل يستمرُّ إلى ما بَعد الموت، أي إلى الحياة الأبديّة، فيلتقي المؤمن الربَّ في المكان الّذي لا وَجع فيه ولا بكاء ولا حزن. في الحياة الأبديّة، أي بَعد الموت الأرضيّ، يَزول الإيمان والرَّجاء وتَبقى المحبَّة. إذًا، إنّ لِقاءنا بِيَسوع هو الّذي يُغيِّر نَظرتنا إلى الحياة والموت.

“لِأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَه، عِندَ إِعْلانِ الأَمْر، عِندَ ٱنطِلاقِ صَوتِ رَئيسِ المَلائِكة والنَّفْخِ في بُوقِ الله، سيَنزِلُ مِنَ السَّماء فيَقومُ أَوَّلًا الَّذينَ ماتوا في المسيح. ثُمَّ إِنَّنا نَحنُ الأَحياءَ الباقين سنُخطَفُ مَعَهم في الغَمام، لِمُلاقاةِ المسيحِ في الجَوّ، فنَكونُ هٰكذا مع الرَّبِّ دائِمًا أَبَدًا”(1 تس 4: 16- 17): في كلامِه هنا، يُركِّز بولس الرّسول، على أنّ جميع المؤمِنِين سيَلتَقون بالربِّ وجَهًا لِوَجه في الـمَجيء الثّاني، وسَيَكون الربُّ كما عَرَفوه واختبروه في حياته الأرضيّة. إنّ النَّفخ في البوق، والنُّزول من السَّماء، والسَّحاب هي صُوَرٌ تقليديّة تمَّ استَخدامها في العهد القديم في سِفر الخروج (13: 22، 19: 16- 17)، في ظهورات الربِّ للشَّعب، كما نلاحظ أنّ الإنجيليّ متّى قد لَجأ إلى استخدام هذه الصُّور في العهد الجديد، في وَصفِه لِـمَجيء الربِّ الثّاني وَصفًا رَمزيًّا لا واقعيًّا. في الإصحاح 24 من إنجيل متّى (24: 30- 31)، يَصف لنا الإنجيليّ المجيء الربِّ للربّ كدخول مُلكٍ إلى مملكته وسطَ حشدٍ جماهيريّ كبير. إنّ المجيء الربِّ للربّ هو حَدثٌ ملوكيّ كبير، وعلى المؤمنِين الاستعداد لاستقبال هذا الـمَلك الإلهيّ، ليتمكَّنوا من الدُّخول معه إلى مملكته السّماويّة.

“فلْيُشَدِّدْ بَعضُكم بَعضًا بِهٰذا الكَلام” (1 تس 4: 18): من خلال هذه الآية، يُخبرنا بولس الرَّسول أنّه على المؤمِنين تَشجيع بعضهم البعض على الإيمان، كما أنَّه عليهم مُساندة الضُّعفاء في الإيمان من خلال تقاسم الخُبرات الإيمانيّة معهم المبنيّة لا فقط على تَذكيرهم بوجود الحياة الأبديّة إنّما أيضًا على الخبرات الشَّخصيّة مع الربِّ النَّابعة من اللِّقاء به. إنّ حديثنا مع الآخَرين حول يسوع هو مُحاربةٌ للموت وشهادةٌ للحياة الأبديّة: حين أتكلَّم على يسوع، فإنِّي أُعلن استعدادي لقبول أيّ نوعٍ من الموت في حياتي ومواجهته بالإيمان والرَّجاء.

إنّ هذا النَّص بدأ بالحديث عن الجهل والحزن، وانتهى بالحديث عن التَّشجيع أي تقديم التَّعزية للآخرين. عندما تعترض حياتنا حادثة موت، يُبادرُ الربُّ إلى تَعزية قلوبِنا، فالتَّعزية هي أمرٌ إلهيّ لا بشريّ. عند موت عزيزٍ، نُسارع إلى تقديم واجب العزاء إلى أحبّائه مُعتَبِرين أنّنا نقوم بهذا الفعل لِتَشجيع بعضنا البعض، غير أنَّنا في الحقيقة، بهذا الفِعل نَعكس ما أعطانا إيّاه الربُّ وهو تأكيده لنا أنّ كلَّ مَن يؤمن به لا يموت، بل ينتقل من هذه الحياة إلى الحياة الثّانية بالموت الجسديّ. إنّ الربَّ يسوع هو ربُّ الحياة وهو تَجسَّد في أرضِنا ليَمنحنا مِلء الحياة. هذه هي الحقيقة الّتي أراد الربُّ زَرعَها في قلوبنا وعَقولنا، لِنَتمكَّن من اجتياز مرحلة الموت الأرضيّ والسَّير نَحو الحياة الأبديّة.

خِتامًا، أودُّ أن أقول لكم، إنّ لهذا النَّص من الرِّسالة الأُولى إلى أهل تسالونيكي، نَصًّا مُشابِهًا في العهد القديم وهو المزمور 73(21- 28). فكما أنّ هذا النَّص من رِسالة بولس يُخبرنا عن الانتقال من حالة الجَهل والحزن إلى حالة التَّعزية بالربِّ يسوع، كذلك المزمور 73 يُخبرنا عن الانتقال من الجَهل إلى نور المسيح، إذ يقول لنا: “لأَنَّهُ تَمَرْمَرَ قَلْبِي وَانْتَخَسْتُ فِي كُلْيَتَيَّ. وَأَنَا بَلِيدٌ وَلاَ أَعْرِفُ. صِرْتُ كَبَهِيمٍ عِنْدَكَ. وَلَكِنِّي دَائِماً مَعَكَ. أَمْسَكْتَ بِيَدِي الْيُمْنَى.”(مز 73: 21- 23). في هذا المزمور، يُخبرنا الكاتب عن واقع المؤمن الّذي لا يَجهل الربَّ، بل يَجهل ذاته ولذا هو يَشعر بالضّياع، وهو بالتَّالي غير قادرٍ على فَهْمِ ما يَدور حَولَه. وهذه كانت حالة أهل تسالونيكي، إذ كانوا عاجزين غن فَهمِ إيمانهم بشكلٍ صَحيح. 

ويُتابع صاحب المزمور فيَقول: “بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي” (مز 73: 24). في هذه الآية من المزمور، يتابع صاحب المزمور تأكيده على عَجز المؤمن عن الاستنارة والفَهم لأيّ شيءٍ وَحده. ثمّ يُتابع المزمور، فيقول: “مَنْ لِي فِي السَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئاً فِي الأَرْضِ. قَدْ فَنِيَ لَحْمِي وَقَلْبِي. صَخْرَةُ قَلْبِي وَنَصِيبِي اللهُ إِلَى الدَّهْرِ” (مز 73: 25- 26). إنّ الّذي قَصَده هنا صاحب المزمور حين قال” قَدْ فَنِيَ لَحْمِي وَقَلْبِي”، هو الفناء الجسديّ الّذي يتمُّ من خلال الموت، ولكنَّ الرُّوح هي خالدة، لذا قال: “صَخْرَةُ قَلْبِي وَنَصِيبِي اللهُ إِلَى الدَّهْرِ”. ثمّ يُتابع المزمور فيقول: “لأَنَّهُ هُوَذَا الْبُعَدَاءُ عَنْكَ يَبِيدُونَ. تُهْلِكُ كُلَّ مَنْ يَزْنِي عَنْكَ. أَمَّا أَنَا فَالاِقْتِرَابُ إِلَى اللهِ حَسَنٌ لِي. جَعَلْتُ بِالسَّيِّدِ الرَّبِّ مَلْجَإِي لِأُخْبِرَ بِكُلِّ صَنَائِعِكَ” (مز 73: 27- 28). من خلال هذا الكلام، أراد صاحب المزمور أن يقول لنا إنّ الّذي يبتعد عن الربّ، سَوف يَهلِكُ. وبالتّالي، فإنّ ضَمانة الإنسان هي البقاء بالقُرب من الله، فالربُّ وَحده هو الّذي يستطيع أن يَمنح الإنسان الحياة الأبديّة. وهنا، أودُّ أن ألفِت اِنتباهكم إلى أمرٍ وهو أنّ عبارة “إماتة” الّتي يَكثر الحديث عنها في زمن الصّوم، تَنبثق من كَلمة “موت”. 

إنّ الإماتات هي مُهمَّةٌ، لأنّ المؤمِن يَختار الموت عن أمرٍ معيّن في هذه الحياة بِكامل حريَّته، قَبل أن يُفاجِئه الموت،  فيتمكَّن من خلال هذه الإماتة اكتشاف معنى الحياة الحقيقيّ. إنّ الهدف من الإماتة هو دَفع الإنسان المؤمِن إلى التَّقرُّب أكثر من الربِّ، ومساعدته على اكتشاف معنى الحياة الأساسيّ. من خلال الإماتة، يَختبر المؤمِن الموتَ بِكامِل حريَّته، فيتمكَّن من اختبار الحياة بشكلٍ أفضل، وهي الربّ. إنّ الموت هو جِسرٌ يَعبر من خلاله المؤمن إلى الحياة الأبديّة.

في الختام، أدعوكم إخوتي إلى التّأمُّل في الحياة واكتِشاف مَعناها الحقيقيّ وإعادة النَّظر فيها، قَبل أن يُفاجِئنا الموت!

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قبلنا بأمانة.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp