“يا أبتِ، مجّد ابنك ليُمجِدّك الابن”،
المطران يوسف طوبجي كنيسة مار شربل- العزيزية، حلب.
باسم الاب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
إخوتي الأحبّاء،
ها نحن قد بدأنا سنةً طقسيّةً جديدةً، في كنيستِنا المارونيّة، نحتفل فيها بأحداثِ حياةِ يسوع المسيح الخلاصيّة، أي في سرّ يسوع المسيح، الّذي يوصِلنا إلى الله الآب، سائرين وفق إلهامات الرّوح القدس.
إنّ السنة الطقسيّة تبدأ دائمًا بِعِيد تجديد وتقديس البيعة، أي بافتتاح يسوع المسيح بابَ السّماء لنا بجسده ودمه المقدَّسَيْن، إذ إنّه قدّم ذاته ذبيحةً عنّا، هو الكاهن والذبيحة في آنٍ. وقد سمعنا في الرسالة التي تُلِيَت على مسامعنا اليوم، أنّه في العهد القديم، كان الكاهن يقدّم لله ذبيحةَ الخطيئة تكفيرًا عن خطايا الشعب، سائلاً الربّ تطهيرَ الشعب من خطاياهم وتقدّيسهم. يجب سفكَ روحٍ من أجل تخليص روحٍ، لذا كانت تُسفك دماءُ الحيوانات مقابل تطهير وتقديس نفوس البشريّة الخاطئة. غير أنّ تلك الذبائح لم تتمكّن مِن منحِ الإنسان القداسة لذا كان يجدِّد تقديمَها في كلّ مرّةٍ يُخطئ، علّه يحصل على الغفران. إنّ كلّ تلك الذبائح الحيوانيّة ما هي إلاّ صورة منقوصة عن ذبيحة يسوع المسيح، الّذي قدّم ذاته ذبيحةً، فسُفِكَ دمُه على الصّليب، وبالتّالي أصبح الصّليب هو المذبح الّذي قُدِّم عليه المسيح يسوع ذبيحة. إنّ يسوع المسيح قرّر أن يُقدِّم نفسَه ذبيحةً، أي أن يتمّ سفكُ دمائه، كي يحصل كلّ إنسانٍ يؤمِن به على الخلاص، أي على التطهير من الخطايا والتقديس، بواسطة هذه الدماء الذكيّة. فكما كانت تُرَشّ دمُ التيوس والثيران على المذبح وعلى المؤمنين، كذلك تُرَشّ دماءُ يسوع الخلاصيّة على كلّ مَن يؤمن به بالمعموديّة، فينال الخلاص. لا أحدَ مِن البشر يستحقّ ما قام به يسوع لأجله، غير أنّ يسوع أراد مِن خلال عمله الخلاصيّ أن يُقدِّم فرصةً خلاصيّةً لكلّ البشر فيتطّهرون مِن خطاياهم، ويتقدَّسون بفعل عملِ يسوع الخلاصيّ من أجلهم.
وفي الإنجيل الّذي تُلي على مسامعنا اليوم، مِن صلاة يسوع الكهنوتية (يوحنا 17)، نسمع يسوع رافعًا يديه إلى أبيه السّماويّ قائلاً: “يا أبتِ، قد حانَت السّاعة”. إنّ يوحنّا الإنجيليّ يستخدم هذه العبارة بتواترٍ: ففي عرس قانا الجليل بدايةً، قال يسوع لأمّه: “لم تأتِ ساعتي بعد”، وقد قصد بذلك أنّ ساعةَ انتقاله إلى الله، تلك السّاعة الّتـي فيها يُمجِّد الربُّ يسوع الله الآب، ويَفدي فيها الإنسان من خطاياه، لم يحِن وقتُها بعد. ونهايةً، في صلاة يسوع المسيح الكهنوتيّة، (تلك الصّلاة الّتي تلاها قُبَيل تقديم ذاته ذبيحةَ فداءٍ عن خطايا البشر)، استخدم المسيح تلك العبارة ليُعبِّر عن استعداده لِتلك السّاعة الّتي كانت قد حانت. وفي عبارة “يا أبتِ، مجّد ابنك ليُمجِدّك الابن”، نجد أنّ الله قد أعطى يسوع سلطانًا كي يهَب الحياة الأبديّة، إلى جميع الّذين وهبَهم الله له، أي إلى كلّ الّذين قَبِلوا عمل يسوع الخلاصيّ لأجلهم، وبخاصّة المسيحيّين. لقد وَهبَنا يسوع المسيح الحياة الأبديّة وهي معرفة الله، الإله الحقّ. إنّ المعرفة في الكتاب المقدّس لا تقتصر على رؤية الشخص والتعرّف إليه جسّديًا، بل تُشير إلى الاتّحاد به. وبالتّالي، فإنّ عبارة “أن يعرفوك”، الواردة في صلاة يسوع، إنّما يُقصد بها أَن نُصبِح في داخل الله، وأن يُصبِح الله في داخلنا، أي أن نتّحدَ كليًّا بالله، فنحيا حياةً أبديّة. لا يمكننا الكلام عن حياةٍ أبديّةٍ، من دون الكلام عن هذا الاتّحاد مع الله، لأنّ الحياة الأبديّة هي العيش معه على الدّوام.
إنّنا نعيش في جماعة “أذكرني في ملكوتك” هذا الإيمان وهذا الرّجاء، بأنّ حياة الإنسان لا تنتهي على هذه الأرض، وأنّ أمواتنا الّذين سبقونا وعبروا من هذه الفانية، هم الآن مع الرّب يشاهدون وجهه القدّوس. إنّنا نصلّي من أجل أمواتنا كي يتمكّنوا من الوصول إلى هذا الاتّحاد الكامل مع الربّ. إنّ هذا الرّجاء المسيحيّ، هو الّذي نعيشه في جماعة “أذكرني في ملكوتك”. وهذا الرّجاء يُشكِّل مصدر فرحٍ لنا نحن المؤمنين، إذ لا يمكننا إلاّ أن نفرح ونهلّل عندما نُدرِك أنّ الحياة الأبديّة تنتظرنا، وأنّ أمواتَنا قد سبقونا إلى ملاقاة الرّب. نصلّي اليوم في هذه الذبيحة الإلهيّة من أجل أمواتنا المؤمنين، ولأجل جميع الموتى، لكي ينتقلوا إلى هذه المشاهدة الحقيقيّة، إلى هذه المعرفة الحقيقيّة أي إلى الحياة الأبديّة. إنّ الذبيحة الإلهيّة الّتي نقدّمها اليوم من أجل أمواتنا، إنّما هي ذبيحة يسوع المسيح: ففي كلّ ذبيحةٍ يكرّر يسوع المسيح تقديمَ ذاته من أجلنا ويُفيض علينا دمَه من أجل تطهيرِنا وتقديسِنا فننال الخلاص. وفي كلّ قدّاسٍ نذكر فيه أمواتنا، إنّما نقوم بعمليّة إشراكِهم معنا من خلال هذه الذبيحة في الخبز والخمر، ونساعدهم على الاتّحاد الكامل بالرّب: هذا هو رجاؤنا وصلاتنا في جماعة “أذكرني في ملكوتك”. نسأل الله في هذه الذبيحة أن يمنحنا نعمة العيش بقربه، والاتّحاد الكامل به في القدّاس. وإنّ يسوع قد وَهبَنا ذاته أيضًا في الإنجيل، نحن الّذين وَهبَهم الله له، فلنسعَ للتعرّف إلى كلمة الله والتعمّق بها. لنسعَ إخوتي، من أجل الوصول إلى القداسة، إلى الاغتناء من كلمة الله المتجسّد، يسوع المسيح، فنتقدّس في معرفته، ونمجّد الله الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.